محمد وداعة: أسألني دبل

0 50
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لست من قراء ما يكتبه محمد وداعة. وليس هذا مهماً بالطبع. ولكن توقفت عند عموده “التفكيك، الاستئناف، الطعون” في سياق الكتابات التي هجمت على لجنة تفكيك التمكين في الأيام الماضية لم تترك لها جنباً ترقد عليه.
ولم استغرب العمود من وداعة. كال فيه للجنة كيلاً بالعيار الثقيل خلا من الحجة والرصانة معاً. ولم استغربه من معارض للإنقاذ لم أكف طوال الثلاثين عاما من لفت نظرهم للعناية بحجتهم وعبارتهم حتى وهم يناضلون ضد نظام أخرق كالإنقاذ. وكنت أرى إهمالهم لهذه الجوانب في التعبير المعارض لأنهم يخاطبون جمهوراً لا يسألهم على ما قالوا برهانا ولا أسلوباً. فالحكاية ردم وكل من يحب النبي يزق. ويُعرف مثل هذا الجمهور ب”الأخيذ” (captive audience). وهكذا تخلصوا من القراء لأنهم “في الجيب” لتصير الكتابة عندهم بعد ذلك حمماً معارضة من منجنيقهم مباشرة للإنقاذ. فخرج بالنتيجة القارئ بالكلية من الواقعة الكلامية (speech event) لتتحول إلى حرب الديك سك الديك بين المعارض (المخَاطِب) والحكومة (المخاطَب). ولما غاب القارئ قلت عناية المخاطِب مثل محمد وداعة بتصميم الرسالة (message) وإحكام نسجها ومنطقها. فكل عند المعارضين صابون: أردم الكوز.
ولم أكف عن الاعتراض على إطلاق المعارضة لرسائلها كيفما اتفق. وأذكر واقعتين. في الأولى احتججت على الالتواء بعبارة “حقنة في المستشفى ما ياخدوها” المنسوبة للوزير كمال عبيد عن مصير الجنوبيين متى صوتوا للانفصال. وكانت الثانية عبارة نابية بحق السادة أئمة السياسة والدين منسوبة إلى الوزير علي كرتي في واشنطن. ولم يثبت القولان على ما اتفق للمعارضين بعد التحري.
وجاء المعارضون للدولة بعد الثورة بهذا الخلق الكلامي بينهم أنفسهم. وسميته “العوة” وهي حالة تصارخ بين طرفين لا ثالث بينهما. مولد وقراؤه غائبون. وحكيت في هذا المضمار فكاهة عن السفيرين جمال محمد أحمد والحضرى، قيل كان الحضري يتحدث في التلفون بصوت عال شاع في أركان الوزارة. فسأل جمال عن الحاصل. فقيل له إن الحضري يتحدث إلى أهله في مدني. فقال جمال: “طيب ما يكلمهم بالتلفون”.
ترخص مثل محمد وداعة في عرض حجته لأنه لم يعد للقارئ أو المستمع حساباً عنده. فلا عناية لمثله بمحتوى الرسالة وحجيتها لأنها مصوبة إلى الخصم كيداً وعابرة للقارئ والمستمع ممن يطلب احترام عقله لو لم يكن أخيذاً.
فأنظر بربك لحجة محمد وداعة في تفسير غيبة لجنة الاستئناف التي قرر قانون تفكيك نظام الإنقاذ قيامها لتنظر في الطعون في قرارات اللجنة المكلفة. قال وداعة:
“من ناحية أخرى وحسب الضبط والربط والتراتبية العسكرية، لا يمكن لرتبة أدنى أن ترد قرار من رتبة عليا، وهو ما يفسر ربما عدم مباشرة اللواء إبراهيم جابر النظر في قرارات صدرت بتوقيع الفريق العطا”.
لا أعتقد أن وداعة فكر في معقولية عبارته لأن المعقولية ليس مطلبه. وأدخلنا في جحر ضب عسكري لا ناقة للطاعنين في قرارات لجنة التفكيك فيه ولا بعير. لماذا ساق وداعة التبرير لعسكريين كانوا الطرف الغالب في تكوين هذه اللجان بصورتها هذه ولم تطرأ لهم هذه الهرمية التي يتطوع بها وداعة لهم جزافاً؟ وكيف لم يسع وداعة طوال نحو سنتين لتصحيح هذا الخرق لسلسلة القيادة من موقعه في الحرية والتغيير؟ ولو تهيب جابر مراجعة ما وقع عليه العطا فما سببه لمراجعة ما وقع عليه محمد الفكي نائب العطا في لجنة التمكين؟ هذا أكل عقل من وداعة لأنه لم يتعود أن يلحن بحجته لكسب العقل لها طالما كان جمهوره أخيذاً لثلاثين عاماً يقبل منه كل غث من أجل القضية.
أما أكثر صور التصارخ في عمود محمد وداعة فهو في الأسئلة التي لم تترك فرضاً ثورياً ناقصاً لم تأت به لإحراج لجنة التفكيك والثوريين عامة. فاستنكر أن تَعَرضت له بعض الأقلام لأنه نقد لجنة التفكيك ورأوا في نقده طعناً في الثورة فانبرى صريخاً:
أين هي الثورة؟ وأين هي أهدافها؟ ومن يقوم بحراستها؟ وأين هو التفكيك المزعوم؟ وكم هي حصيلة التفكيك من الأموال والأصول؟ وهل تم تفكيك بنية النظام الاقتصادية والاجتماعية؟ وماذا بشأن الخيار والفقوس في التعاطي مع ملفات كبار الفاسدين من أصدقاء نافذين في الحكومة، أو نافذي لجنة التمكين؟ هل تم استرداد مليارات البترول المنهوبة؟ هل تم فتح فساد الجهاز المصرفي؟ والمليارات من القروض؟ والعون الدولي؟ هل تم فتح ملفات تعلية الفواتير في استيراد القمح والدقيق والوقود؟ وهل تمت أي إجراءات في الخصخصة والتخصيص؟ وكيف تم التعامل مع تهريب الذهب؟ والتهرب الضريبي والإعفاءات؟ ولماذا يفرج عن مقبوض عليهم بإيداع شيكات عادية بتريليونات الجنيهات (بالجديد)؟
هذه الحالة هي أعلى مراحل انفراط الجأش. وللسودانيين إجابة موجزه لمثل سيل أسئلة وداعة: أسألني دبل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.