مستقبل نظام أسياس أفورقي: التحديات الإقليمية والدولية

0 95

بقلم: د. محمد عبد الكريم أحمد 

.

د. محمد عبد الكريم أحمد

.

يواجه الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في الآونة الأخيرة ضغوطًا إقليمية ودولية متصاعدة على خلفية تورُّط قواته واسع النطاق في إقليم التيجراي وشؤون إثيوبيا الداخلية، وسط ترقب أمريكي وأوروبي نهاية أغسطس 2021م بتكرار هذا التدخل بشكل موسَّع، وما قاد إليه ذلك من تداعيات سلبية للغاية في دولة تعدّها مكونات المجتمع الدولي والقارة الإفريقية واحدة من الدول الكبيرة التي يصعب المجازفة باستقرارها.

وتمثلت أهم تلك التداعيات في خلق أزمة لاجئين ضخمة داخل إثيوبيا وممتدة إلى جارتها: السودان، واضطراب الأوضاع في إقليم العفر الإثيوبي، ومنه إلى جيبوتي المجاورة، عوضًا عن تشجيع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على النكوص عن مسار التحول الديمقراطي كليةً، بل وتبنّيه خيارات استبدادية كما النموذج الذي يصفه مراقبون كثر بمثله الأعلى والأب الروحي لمشروعه: أسياس أفورقي، حسبما اتضح في التعجيل بالانتخابات النيابية الإثيوبية دون مشاركة عدة أقاليم (أبرزها الصومالي والعفر)، وغياب كامل للمعارضة الإثيوبية ومنافسة منعدمة في ظل تسخير إمكانات الدولة بالكامل لفوز حزب الازدهار الحاكم بِنِسَبٍ مطلقة، وإطلاق مشروع حوار وطني في أغسطس 2021م دون أيّ أجندة واضحة أو ضمانات حقيقية على جديته.

أفورقي وسياسة المراوغات:

بعد أن ظل أفورقي وبلاده رقمًا مهمًّا في أمن البحر الأحمر، والترتيبات الإقليمية به؛ تقاربت وجهتا نظر السعودية ومصر (اللتان تقودان مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر) بضرورة استبعاد أفورقي من أي ترتيبات مستقبلية مع حسم الأخير خياراته بالانحياز الكامل للتصورات الإسرائيلية والإقليمية الأخرى في المنطقة، حتى وإن عارضت المصالح الاستراتيجية والأمنية للبلدين العربيين الكبيرين على البحر الأحمر.

ويحاول أفورقي في الوقت الراهن الاستجابة المرنة للضغوط الأمريكية المتصاعدة ضده في عدة ملفَّات؛ أهمها: تدخُّله في إقليم التيجراي، لكن يبدو أن هذه الاستجابة ستنتهي حال تداعي نظام آبي أحمد فعليًّا في المرحلة المقبلة وتبدّل الأوضاع في إقليم القرن الإفريقي برُمّته بما في ذلك داخل إريتريا التي تمكّنت من الصمود في وجه متغيرات كثيرة بفضل عزلتها وعسكرتها ومحورية دورها في منع حركة هجرة ولجوء كبيرين عبر البحر الأحمر.

ويبدو أن أرصدة أفورقي من القدرة على المناورة الإقليمية في ملفات متعددة قد نفدت في المرحلة الحالية، على الأقل في حالتي السودان وجيبوتي (الأخيرة بحكم العداء المستحكم بينها وإريتريا منذ عقود). فقد رفض السودان مرارًا في العام الجاري أيّ مساعي إريترية للوساطة في كافة الملفات ذات الاهتمام المشترك، وأهمها: سد النهضة، والنزاع الحدودي مع إثيوبيا، وتداعيات أزمة اللاجئين على الحدود المشتركة بين الدول الثلاثة، الأمر الذي اتضح في خروج أحدث محادثات ثنائية بين البلدين (30 يوليو 2021م) دون مخرجات عملية محددة.

نظام أفورقي وتآكل الدور الإقليمي: حالة السودان

رغم رفض الخرطوم مرارًا أي وساطة لأسمرا في ملفات سد النهضة، والنزاع الحدودي مع إثيوبيا، وأوضاع اللاجئين في مناطق الحدود المشتركة مع إثيوبيا؛ أرسل الرئيس أفورقي في 30 يوليو الفائت وفدًا دبلوماسيًّا رفيعًا إلى الخرطوم برئاسة وزير خارجيته عثمان صالح، وعضوية مستشار الرئيس السياسي، والتقى الوفد برئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، وأجروا “مناقشات صريحة وموسَّعة حول الصلات الثنائية والتطورات الإقليمية الحالية؛ وأكد الجانبان الإريتري والسوداني على حاجة البلدان إلى العمل معًا لتجاوز التحديات الداخلية والخارجية. في مسعى متأخر كما لاحظ مراقبون إقليميون؛ حيث يصنف السودان حاليًا على أنه “صديق جديد” للولايات المتحدة في المنطقة، إضافةً إلى مواقف إريتريا والسودان المتناقضة في “الأزمة الإثيوبية”، وميل السودان للمواقف الأمريكية والغربية بشكل عام من الأزمة الإثيوبية؛ فيما تدخلت إريتريا عسكريًّا في صف قوات آبي أحمد والميليشيات الأمهرية، مما فاقم من الأعباء البشرية للنزاع.

وفي دلالة على عجز إريتريا عن تمثُّل دور الوسيط النَّزيه في قضايا القرن الإفريقي، أكَّدت مصادر إريترية أن المحادثات الإريترية-السودانية شهدت تأكيد إريتريا للسودان على دعمها “غير المشروط” لإثيوبيا، وأنها لن تفرض أيّ شروط على مساعداتها لإثيوبيا وعدم ربطها “بأيّ قرار سياسيّ تتَّخذه حكومة آبي أحمد”، وأن إريتريا ستواصل -كما أوضحت للخرطوم- دعمها غير المحدود “لإثيوبيا ضد جماعة جبهة تحرير شعب التيجراي الإرهابية”، ولفت الوفد الإريتري إلى تعهُّد أسمرا لأديس أبابا بمواصلة إريتريا “التزامها القوي” بأمن إثيوبيا بما في ذلك “التنسيق العسكري والاستخباراتي غير المسبوق”.

ومن اللافت أن تأتي هذه المقاربة الإريترية نحو السودان –رغم الفتور السوداني الواضح لأي جهود من قبل أفورقي عوضًا عن إبداء عدم الثقة في سياساته- في توقيت تصاعد الأزمة بين السودان وإثيوبيا التي اتهمت خارجيتها الخرطوم (في 30 يوليو 2021م) “بإقامة قواعد عسكرية وبنية تحتية في الأراضي الإثيوبية المحتلة” واصفة الخطوات “بغير المقبولة”.

وجاء بيان الخارجية الإثيوبية عقب تقارير مؤكدة عن إقامة الجيش السوداني قواعد عسكرية ومرافق بنية أساسية وجسور في منطقة الفشقة السودانية التي كانت تخضع لسيطرة القوات الإثيوبية قبل انسحابها للمشاركة في “عملية فرض القانون” في إقليم التيجراي.

ولفت المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي إلى وجوب النأي بالسودان “عن تعميق المشكلة المتعلقة بالحدود بين البلدين”، بينما أكَّد مراقبون أنه رغم ضغوط أديس أبابا الحثيثة للفت نظر المجتمع الدولي “للقضية”، فإنه لم يقدّم أي طرف دولي حتى الآن على “إدانة غزو السودان للأراضي الإثيوبية” حسب رواية أديس أبابا، وأسمرا، ممَّا يُعزّز تآكل مصداقية الأخيرة ودورها مستقبلًا في أي أزمات دبلوماسية في الإقليم الذي ظل مجال نفوذ “وحيد” لإريتريا.

نظام أفورقي في مواجهة إدارة بايدن الأمريكية:

ظل نظام أسياس أفورقي متوائمًا إلى حدّ كبير مع المصالح الأمريكية والإقليمية في إقليم القرن الإفريقي دون حدوث اختراقات جدية تُذْكَر، واتضح هذا المسار في الفترة الأخيرة، وإن بدت الانتقادات أكثر حدة، دون أن تكون مصحوبة بتحرُّك حقيقيّ على الأرض وتحجيم نظام أفورقي بالغ الهشاشة، والذي لا يستند إلا إلى هيمنة أمنية- عسكرية داخليًّا.

وعلى سبيل المثال: وفي تجاهل أمريكي واضح لأسياس أفورقي أو التواصل المباشر معه على مستويات رفيعة، أجرى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مناقشات مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، واتضح من البيان الذي أعلنه بلينكن عقب المناقشات (6 يوليو 2021م) تركيزها على مسألة وجود القوات الإريترية في إقليم التيجراي وضرورة سحبها.

وأكد بلينكن حاجة جميع الأطراف في الصراع إلى الالتزام الفوري بوقف إطلاق النار، وأدان بلينكن تدمير الجسور في الإقليم والمعوقات الأخرى لوصول المعونات الإنسانية. وحثَّ بلينكن رئيس الوزراء الإثيوبي على الالتزام بالخطوات المحددة في قرار مجلس الأمن (بتاريخ 2 يوليو) بما فيها السحب التام للقوات الإريترية والأمهرية؛ والوصول الكامل والآمن وغير المعوق للمعونات الإنسانية للسكان المحتاجين لهذه المعونات؛ وإرساء عملية شفَّافة لمحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان؛ والتأكيد على عدم إمكان تغيير أي حدود إثيوبية داخلية أو خارجية أو مقايضتها بأراضٍ عن طريق القوة أو على نحو غير دستوري.

كما حضرت إريتريا في قلب “ضغوط” إدارة بايدن الأمريكية من أجل ضبط الأوضاع في إقليم القرن الإفريقي. واتسمت استجابة أفورقي للضغوط الأمريكية، سواء عبر المسؤولين الإريتريين في الأمم المتحدة أو وزارة خارجيته أو تعليقاته الشخصية، بحالة إنكار واضحة لأي مسؤولية لبلاده عن التدخل العسكري في أزمة إقليم التيجراي (قبل الإقرار بذلك لاحقًا)، برفض هذه الضغوط وأُسسها، الأمر الذي تجسَّد مؤخرًا في زيارة مدير وكالة التنمية الدولية الأمريكية سامنتا باور لأديس أبابا (4 أغسطس بعد تفقدها معسكرات اللاجئين من إقليم التيجراي في السودان قبل توجهها للعاصمة الإثيوبية بأربع وعشرين ساعة)، وشمولها إريتريا بدعوتها سحب قواتها من إقليم التيجراي بعد دعوة قوات جبهة تحرير التيجراي للانسحاب من إقليمي الأمهرا والعفر، وضرورة إتاحة الفرصة لتقديم المساعدات (التي قُدِّر إجمالها في الأسبوع الماضي بنحو 150 مليون دولار من “المساعدات الإضافية” المرتقب إدخالها في إقليم التيجراي).

الاتحاد الأوروبي وأفورقي: سياسة النفس الطويل

جدَّد الاتحاد الأوروبي في مارس 2021م سياسات معاقبة إريتريا على خلفية سِجلّها في انتهاكات حقوق الإنسان، بما فيها عمليات القتل خارج مظلة القانون بالتزامن مع اتهامات الأمم المتحدة في الشهر نفسه رسميًّا لإريتريا بنشر قواتها في إقليم التيجراي وتقارير عن مسؤوليتها عن انتهاكات جماعية لحقوق الإنسان في الإقليم.

كما أدرج الاتحاد “مكتب الأمن الوطني الإريتري” Eritrea’s National Security Office المسؤول عن الاستخبارات والتحقيقات والاعتقالات في قائمة سوداء لعدم التعامل بين الاتحاد والمؤسسات الإريترية.

في المقابل اتهمت الخارجية الإريترية خطوة الاتحاد الأوروبي بأنها “خبيثة”، وأن الاتحاد يعمل على “التفرقة بين إريتريا وإثيوبيا”، ويعمل على إعادة جبهة تحرير التيجراي إلى السلطة. وأكد بيان الخارجية الإريترية “ليس للاتحاد الأوروبي استحقاقًا قانونيًّا أو معنويًّا لقراره (هذا)، وأنه يقدم على إصدار اتهامات فحسب لمضايقة إريتريا من أجل دوافع خفية أخرى، في لهجة بدت منفصلة عن الواقع وتكريسًا لسياسات الإنكار.

ورأت إريتريا في العقوبات الأوروبية، التي جاءت على خلفية انتهاكات حقوق الإنسان داخل إريتريا- بعد عقوبات الأمم المتحدة لإريتريا على خلفية انتهاكاتها في إقليم التيجراي- مساعي أوروبية لمعاقبة المسؤولين بالبلاد، وعلى رأسهم أبرهة كاسا رئيس جهاز الأمن الوطني الإريتري، رغم جهود إريتريا المهمة في الحفاظ على أمن الإقليم ومنع حركة الهجرة نحو أوروبا، وانفتاح إريتريا على الاستثمارات الأوروبية، لا سيما الألمانية، في الفترة الأخيرة.

وهكذا؛ فإن السياسة الأوروبية تجاه أفورقي، واستجابة الأخير لها، تُعبّر عن سياسات “النَّفَس الطويل” بين الطرفين، دون الوصول لمرحلة الضغوط المباشرة وقطع العلاقات بالنظر إلى الحاجة المتبادلة بين الطرفين في ملفات عدة؛ أهمها أمن البحر الأحمر واللاجئين، وضمان عدم تفشّي الفوضى في إقليم القرن الإفريقي من المنظور الأوروبي الذي لا يمانع في استمرار المشكلات القائمة بين سكان الإقليم؛ طالما أنها لن تتجاوز حدوده.

خلاصة:

يفقد نظام أسياس أفورقي الكثير من مقوّمات استمراره وقدرته على مواجهة تقلبات السياسات الدولية والإقليمية في القرن الإفريقي، ويشترك مع نظام آبي أحمد في أديس أبابا في حقيقة أن العامل الأهم في بقاء هذا النظام تتمثل في الرغبة الدولية في تفادي انفلات الأزمات في الإقليم.

ولا تبدو خيارات أفورقي متنوعة بعيدًا عن خيار مواصلة التورط في الحرب الأهلية في إثيوبيا، وتفادي خيار سقوط آبي أحمد، ومحاولة مجاراة السودان في دوره الإقليمي المتصاعد، وتعويض حالة العزلة المستحكمة بعد فقدان نظام أفورقي علاقاته الاستراتيجية مع عدد من أبرز اللاعبين الإقليميين مثل مصر والسعودية على خلفية تهديده لمصالح هذه الدول، وتبنّي أدوار صدامية معها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.