مصر و قـنـاة جونقلي و كهرباء فولا و سد النهضة الإثيوبي

0 65

كتب: أتـيـم قـرنـق

.

نشرت صحيفة الموقف، في عددها رقم (1571)، الصادرة في جوبا يوم الخميس 20 مايو 2021، مقالاً للأستاذ محمد خليفة أوشلا بعنوان (شكراً معالي مناوا بيتر..لكن قناة جونقلي غير مقبولة)، عن عدم جدوى حفر قناة جونقلي حالياً و مستقبلاً؛ و هو رأي صائب، و موقف يستند علي ارضية وطنية مدرك بحق الأجيال القادمة. علي ضوء ذلك المقال اودّ ان أدعم موقف الأُستاذ محمد خليفة اوشلا، و هو موقف تحدثتُ و أعبرتُ عنه من قبل في مواقف و منابر عديدة.

فكرة قناة جونقلي أساساً نبعت، في مطلعة القرن العشرين (1901-1902-1904)، من مهندسيين إنجليز ( W. Garstin و J. S. Heresford و H. E. Hurst ) الذين كانوا يعملون لدي وزارة الأشغال العامة المصرية المسؤولة عن المياه في مصر آنذاك، عندما كانت ارضُنا و مواردُنا و نحنُ أنفسنا مملُوكون لمصر و الإنجليز، يفكرون و يعملون كما يشاؤون فيما يرؤونها مفيدة لمصر سواء كانت استعبادنا بأسلوب حديث او التخطيط للاستفادة القصوي من مواردنا بدون ادني إلتفاف لما قد يضرنا و بيئتنا من جراء تلك المشروعات. و قناة جونقلي، و حتي مشروع السد العالي بنسبة للسودانيين مثال حيّ لمثل تلك التوجهات الإستغلالية. كان هؤلاء المهندسون الإنجليز آنذاك و المصريون حالياً يؤمنون زوراً و بهتاناً بأن منطقة السدود أو المستنقعات في جنوب السودان هي منطقة (تضيع و تفقد) فيها هدراً كميات هائلة من المياه و لذا لا بد من حفر قناة توصل الماء الي مصر للاستفادة منها في الزراعة و إعاشة المصريين، و تلك كانت بدأية مشروع قناة جونقلي.

إن المستنقعات الشاسعة في جنوب السودان و المعروفة دولياً بمنطقة (السدّ) هي في الواقع عبارة عن خزان طبيعي تحتجز كميات ضخمة من المياه و هي ليست منطقة (لضياع و فقدان) الماء كما يظنه المتهافتون علي مواردنا المائية. المياه المحتجزة و المخزونة في منطقة السدّ هي في ملكيتها تماثل تماماً المياه المحجوزة و المخزونة في بحيرة النوبة خلف السدّ العالي، او المياه المحجوزة خلف خزان الروصيرص. هل يعقل ان يفكر الليبيون علي سبيل المثال في حفر قناة لأخذ الماء من بحيرة النوبة؟ بالتأكيد لا، و المياه المخزونة في منطقة السدّ في جنوب السودان ليست مياه مشتركة بين دول حوض النيل انها مياه ثابتة مخزونة. و منطقة السد تمرر المياه التي تصلها من منابع النيل و تنساب من خلالها طبيعياً؛ ولذا فهي ملك لنا مثلها مثل ملكية المياه المحتجزة خلف خزانات السودان و مصر .

ان فكرة “إعادة النظر في مشروع قناة جونقلي” حسب قول وزير الري كما أورده كاتب المقال المشار إليه، هي فكرة سابقة لآوانها و قناة جونقلي ليست من أولويات جمهورية جنوب السودان كما انها لن تكون من بين المشاريع القومية التنموية، ان وجدت لدينا مشروعات قومية تنموية! إن الفيضانات الحالية سببها الأساسي هو التغييرات المناخية و هي قضية دولية لا يعقل أن تدفعنا هذه التغييرات المناخية بتفريغ مياه مستنقعاتنا عن طريقة قناة جونقلي؛ سنكون مثل إنسان مصاب بضغط الدم و يفكر ان يسحب دمَه من جسمِه! ضغط الدم يعالج بأشياء آخري و ليس بسحب الدم من الجسم، و الفيضانات تدار ضررها بما يفيد الأجيال الحالية و القادمة و ليست بتفريغ المياه المحتجزة و المخزونة طبيعية في منطقة السدّ.

ان علاقتنا مع جمهورية مصر العربية جيدة، و لكنها تحتوي علي نوع من (الإستهبال الدبلوماسي المستتر). و هذه العلاقة ذو وجهين، و هي قديمة جداً، تعود إلي فترة الأحتلال المصري لجنوب السودان في القرن التاسع عشر. ففي أواخر الستينيات و خلال السبعينات من ذلك القرن، كان هنالك إتفاق أوربي دولي يقضي بوقف و منع تجارة الرق و استصياد العبيد حول افريقيا بما فيها جنوب السودان. علي ضوء تلك السياسة، قام الخديوي إسماعيل باشا بالإستعانة ببعض المغامرين الاروبيين أمثال (صموئل بيكر و غردون باشا) من أجل تفعيل و تنفيذ تلك السياسة في جنوب السودان. و عندما تولي هؤلاء عملهم في جنوب السودان، كان الخديوي سراً يوجه حكمدار السودان في الخرطوم، بالإستمرار في إرسال الرقيق الي مصر عن طريق دارفور و الذي لم يكن في إمكانية الأوربيين العاملين في الجنوب معرفة ذلك العمل الخسيس؛ و فشل هؤلاء المغامرون الاروبيون من تحقيق العمل الذي تعاهدوا علي تحقيقه.

بعد مرور مائة عام، عادت ذلك النوع من العلاقات التي تحمل العسل في وجه و السم في الجنب الآخر، فعقب اتفاقية أديس أبابا، 1972، قدمت بعض الدول مساعدات محدودة و لكنها مفيدة و فعالة من بينها كبري جوبا و غيرها، و تقدمت حكومة مصر بدعمها و تركز علي بعثات تعليمية في مؤسساتها التعليمية العليا، و أرسلت مئات الطلاب من ابناء جنوب السودان الي مصر و لم ينقطع حتي يومنا هذا، و هذا عسل، خد بالك. لكن عندما تقدمت الاتحاد السوفيتي أن تساعدنا ببناءة و إقامة خزان صغير فوق شلالات (فولا) لتوليد الطاقة الكهربائية، ذلك الخزان لم ير الضوء لأن مصر تدخلت و وقفت ضد المشروع، و اقنعت حكومة الخرطوم بعدم إقامة ذلك الخزان؛ و في نفس الوقت أقنعت مصر 0حكومة الخرطوم بضرورة حفر قناة جونقلي، و كانت، شفتَ كيف، هذا هو الجانب المظلم من القمر؟

في هذا الزمن المعاصر، و بعد اتفاقية السلام الشامل ارادت سلطات جنوب السودان إحياء مشروع إقامة خزان علي شلالات فولا لتوليد الكهرباء الا ان مصر، و التي تتمتع بعلاقات دولية متينة بحكم قيادتها للعالم العربي، سدت كل المسالك و الطرق أمام بناءة ذلك الخزان حتي يومنا هذا؛ و في نفس الوقت تقوم مصر بتقديم (مساعدة) لجنوب السودان في (مجال الكهرباء) بإقامة محطات لتوليد الطاقة الكهربائية تنتج ( بالمولدات أو الجنريترات) في بعض المدن. شفتَ كيف الإجحاف! كيف تقيّـم مثل هذه العلاقة الجيدة و العجيبة و الملتوية؟

الأن: علينا ان نتعلم و نيتعظ من سد النهضة الإثيوبي، و ما أثير حول إنشائه و ملئه، لدرجة ان مصر تلوّح بشن حرب مياه ضد أثيوبيا. إن مواقف مصر اتجاه إثيوبيا غير مطمئنة و تشير الي إن مصر تحاول ان تستحوز لوحدها علي مياه النيل؛ و إن ارادت اَي دولة في حوض النيل إقامة مشروع للإستفادة من المياه فلا بد ان توافق مصر أولا و الا فانه (خط احمر) منذ زمن الفراعنة. أين نحن من ذلك الوعيد و التهديد الصريح لمن يتطاول علي (حقوق مصر التاريخية في مياه النيل)؟ ماذا نحن فاعلون؛ نتفرج و ننتظر أم يكون لنا موقف؟ و اَي خطاء أو استكانة او مواقف مهزوزة في حساب حقنا في مياه النيل ستكون وبالاً علي الأجيال القادمة. إذا رضخت اثيوبيا للتهديدات المصرية فذلك ستعني امتلاك مصر للنهر بأكمله!

ان فكرة إعادة حفر قناة جونقلي تجب ان تقال بكل وضوح لمصر بأنها ليست من أولياتنا. اولياتنا تبدأ بإقامة خزان لتوليد الكهرباء علي شلالات فولا و انشاء طرق حديثة و زراعة مكثفة و مركزة من أجل تصدير الفائض من منتجاتنا. ان ارادت مصر المزيد من الماء من جنوب السودان فالماء موجود و متوفر، و توصيله لمصر ليس بالضرورة عن طريقة شق القنوات و إنما من خلال مشاريعنا القومية التنموية.

مشروع قناة جونقلي لم يكن يوماً ما مشروعاً قومياً و إنما هي مشروع استعماري فكراً و تخطيطاً و تنفيذاً و منفعةً، لم و لن يلتف حوله شعب جنوب السودان مثلما التف الشعب المصري حول السد العالي و الشعب الإثيوبي حول سد النهضة و الشعب السوداني حول خزان سنار.

حالياً يجب علينا ان نقف مع اثيوبيا في مسألة سد النهضة التنموي. لو مسكنا العصي من المنتصف، سنكون من الخاسرين. و لو ما وقفنا مع اثيوبيا في موضوع سد النهضة سنكون من النادمين.

هذه الأيام تقوم القوات المسلحة المصرية بالاشتراك مع الجيش السوداني بمناورات عسكرية تحت اسم (حماة النيل)، و السؤال المنطقي هو: من هو الخطر او العدو الذي يهدد الأمن المائي المصري و السوداني في حوض النيل؟ لا بد انهم الإثيبويون و نحن في جنوب السودان و هو اعتقاد جائر و مختلق و الرسالة المصرية واضحة: و من له آذن فليسمع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.