من إشراقات التعليم البديل

0 111
كتب: د. النور حمد
رغم أن التعليم الغربي أنجز تقدمًا مشهودًا في العصر الحديث، إلا أن بعض الغربيين ظلوا يرون فيه الكثير من العلل وجوانب القصور. يعيب هؤلاء المنتقدون على أنظمة التعليم العام الغربية أنها مهنية محضة. وأنها تعاني قصورًا واضحًا في الجانب التربوي. فهي تخلق شخصًا قادرًا على أداء مهنة ما، ولكنها تقصر في خلق الشخصية المتكاملة. ويعنون بذلك تنمية البعد الأخلاقي، إلى ما وراء النطاق الذي تمليه أخلاقيات المصالح المتبادلة. كما يعيبون عليه قصوره في تنمية المواطنة الصالحة والاهتمام بالشؤون العامة، وتكريسه للفردانية المنكفئة على ذاتها. لذلك نشأ في السياق الغربي ما يسمى “التعليم البديل”. ومما اطلعت عليه أثناء دراستي للتربية في أمريكا، ثلاث نماذج هي: مدارس “والدورف”، التي تأسست على رؤى المفكر الألماني رودلف شتاينر، ونموذج “ريجيو أميليا” في إيطاليا، ونموذج مدرسة “سكاترقوود”، في قرية ويست برانش بولاية أيوا في الولايات المتحدة الأمربكية. ولسوف أحصر حديثي هنا في هذه الأخيرة، لكونها قد كانت الجزء المكمل لبحثي لدرجة الدكتوراه.
أنشأت مدرسة سكاترقود طائفة الكويكرز، وهي طائفة مسيحية تركز على الإخاء، وعلى التساوي بين الأفراد. فهي بلا قساوسة، وبلا تراتبيات دينية، وظيفية. ويتميز الكويكرز، عموما، بالاستقامة الأخلاقية، وبالإعلاء من شأن العمل اليدوي. أمضيت عامًا كاملاً في التردد على هذه المدرسة، متفقدًا مختلف جوانبها ومن ذلك تاريخها، وأدبياتها المكتوبة وفلسفة تعليمها، وسائر تفاصيل رؤيتها ورسالتها. تحدثت في مقابلات فردية مطولة مع إدارتها ومدرسيها وطلابها. تتوافق مدرسة سكاترقوود وشقيقتها الأخرى في ولاية بنسلفانيا، مع مدرسة ريجيو أميليا في إيطاليا، في جعل التربية الفنية مادة مركزية، ملزمة لكل الطلاب. فاستوديو الفنون يتوسط المدرسة. وتتضمن دراسة الفنون إلى جانب الرسم والتصوير، الخزف، وصناعة الزجاج، والنجارة. ويوافق منحى مدرسة سكاترقود، في ذلك، منحى مدارس والدورف. أي، ربط نمو العقل وزيادة المعارف بتنمية المهارات اليدوية، وأخلاق العمل.
هذه المدرسة ثانوية داخلية، يرتادها الطلاب من مختلف أنحاء أمريكا وكندا، وأمريكا الجنوبية. وتتمثل جاذبيتها لأولياء الأمور، في كونها تربط التعليم ربطا محكما بالأخلاق وبالعمل. فللمدرسة مزرعة يديرها الطلاب بأنفسهم، بإشراف الأساتذة. يأكل الطلاب من خضروات المزرعة، ومن لحوم أغنامها، كما يستخدمون لبن أبقارها في غذائهم. أيضا يقسم الطلاب أنفسهم في نوبات تتناوب على الطبخ، وعلى إدارة قاعة الطعام، مع طباخ يشرف على تعليمهم وتوجيههم. في تقديري، أن هذا النمط من التعليم الذي يربط المعرفة النظرية بالخبرة العملية؛ الفنية، والإدارية، وتوظيفهما للاكتفاء الذاتي، هو ما نحتاجه كبلد نام.
لقد آن الأوان لكي ندرس مثل هذه التجارب، لنصيغ منها نموذجنا الذي يتناسب مع احتياجات التنموية، في الأرياف وفي المدن. إن حصر التعليم في الورقة والقلم، الذي ظل ديدننا، منذ دخولنا حقبة التعليم الحديث، قد أضر بعقول طلابنا، وبوجدانهم، وخنق حيوية الحياة لدينا، وأعاق تفتحها وتجددها. إن ربط الطلاب بالطبيعة وبالعمل مهم جدًا لنموهم الروحي، ولمعرفة الحياة على ما هي عليه، وراء ما بخفيه قناع الحداثة. ولربما يكون من الأفضل أن نبدأ بنموذج تجريبي واحد في كل ولاية، لإجراء دارسة مقارنة للتحقق من النتيجة. ختامًا، ليس من الصائب أن يكون التعليم على نمط واحد، فالمدرسة ليست مصنعًا ينتج بضاعة متطابقةً في كل شيء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.