نحو تعليم مرتبط بالتنمية
كتب: د. النور حمد
كلنا يعلم أن التعليم الحديث الذي أنشأه البريطانيون في السودان، كان تعليمًا ذا هدف محدد جدا. من يقرأ كتاب بروفيسور محمد عمر بشير، عن تطور التعليم في السودان، تتضح له محدودية ذلك التعليم، بل و تتضح له، أيضًا، أضراره. أنتج ذلك النمط من التعليم خريجين، لا يتعدى خيال وطموح أكثريتهم مجرد الجلوس وراء مكتب، لتأدية عمل روتيني متكرر، لتنحصر همومهم في العلاوات، والترقيات، والنقليات. أيضًا، خلق ذلك التعليم مسافةً بين أكثرية هؤلاء المتعلمين، وأهاليهم. فعافوا حياة الريف، وهربوا منها إلى المدن، حيث عاشوا فيها في فقاعةٍ، معزولةٍ، صنعوها، لكنهم، لم ينعموا بها سوى لبضع عقود. أهملوا قضايا التنمية، والارتفاع بحياة البسطاء، وانحصروا في التمتع بعوائد تصدير المواد الخام. لكن، تبدلت الأحوال، وانفجرت تلك الفقاعة، وأصبح من يغسلون العربات على شارع النيل، يكسبون من المال أكثر مما يكسبه كبار الأفندية.
في بلد شاسع الأراضي الخصبة كالسودان، غني بالثورة الحيوانية، والغابية، وبالأنهر، وبالقنوات المائية، وبالمياه الجوفية، ينبغي أن يتخذ التعليم مسارًا تنمويًا، عمليا. أقصد، مسارًا يتصل عضوياً بالنهوض بحياة الريف، وحياة المدن، من جميع النواحي، بحيث يركز على إكساب طيف المهارات المتنوعة، للنهوض بالواقع. بعبارة أخرى، تعليم ترتبط فيه دارسة الفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والرياضيات، بقضايا الزراعة، وتربية الحيوان، وتحسين المسكن، وتمليك مهارات الحرف اليدوية، وأساليب إنشاء الصناعات الصغيرة، وتطوير البنى التحتية، والنهوض بالعمران في جميع صوره. كما يرتبط فيه الدين، بتمتين الأخلاق، وتقوم فيه العلوم الإنسانية، برفع الوعي الحقوقي، ومحاربة الخرافة، والعادات الضارة. فالمدارس، وخاصة المدارس الثانوية، في الحي، أو القرية، ينبغي أن تصبح معملاً تجريبيًا، مرتبطًا باحتياجات البيئة المحلية. وبما أن البيئة الزراعية، والبيئة الرعوي، والبيئة الصناعية، تختلف عن بعضها، يصبح من الضروري أن نبتعد عن المركزة الكلية للمنهج. وأن نتيح للمنهج، أن يخاطب، في بعض جوانبه، احتياجات البيئة المحلية لمختلف الأقاليم. ففشل التعليم في تغيير البيئات الريفية، هو سبب هذه الهجرات المأساوية، الضخمة، إلى المدن، ففقدنا الريف، وفقدنا معه المدن.
من الضروري ربط التعليم بموهبة الطالب، وباستعداده الفطري، منذ البداية، مع ربطه، أيضًا، بالمهنة التي تناسب استعداده. فالتعليم القائم على حشو أدمغة الطلاب بالمعلومات، بغرض أن يجتاز بها الامتحان، ثم ينساها، ليس سوى إهدار للوقت والجهد. أي تعليم لا يربط المعرفة العقلية بالمهارة اليدوية، وبتمليك الخيال لحل المشكلات، هو تعليم عقيم. لذلك، من الضروري إبعاد التعليم من الأدلجة، ومن تنمية العقل مع إهمال اليد، ومن زرع الانحصار في الهم الشخصي. فالتعليم الصالح هو الذي يجعل المتعلم كلفًا بتعليم، نفسه بنفسه، طيلة حياته. وهو الذي يجعل منه شخصًا واسع الحيلة، نافعًا لنفسه ولمجتمعه. لكي نحدث نقلةً حقيقيةً فيه، عقب هذه الثورة العظيمة، علينا ألا نتعجَّل في وضع التصور الجديد.