نظام الحكم الذاتي الإقليمي: تجربة سودانية ناجحة و إن قُوِّضت

0 207

كتب: أتـيـم قـرنـق ديكويك

.

الشأن السوداني هذه الأيام، هو الطاغي علي وسائل الإعلام الإقليمية و الدولية، لما تشهدها الساحة السودانية سياسياً و اجتماعياً علاوة علي وجود مشكلات قديمة ورثها الحكام الحاليون. و يبدو لي ان الوضع لن ينجرف نحو الهاوية لأن السودانيين يتفهمون المخاطر التي تحيط بوطنهم و ما تعرض له السودان من هزات إجتماعية و سياسية و أمنية خلال الثلاثين سنة الماضية.

لكن السؤال المهم هو: كيف يمكن حكم السودان بعد إنفصال الجنوب و ذهاب نظام المؤتمر الوطني؟ هناك في وجهة نظري، إحتمال ان ما اعلنتها و صادقت عليها الحكومة السودانية مؤخراً قد يكون المخرج نحو سودان مستقر و موحد، و هو إعلان تطبيق نظام الحكم الذاتي الإقليمي لمنطقتي جنوب كردفان و جنوب النيل الأزرق و دارفور آيضا، نزولاً لمتطلبات اتفاقية جوبا للسلام؛ و هذا في نظري يدعم مصداقية السلام في السودان.

ما أريد ان أساهم به في هذا المقال، هو كيف يجب علينا في جنوب السودان الوقوف مع الشعب و الحكومة السودانية في ان يكون السودان هو القدوة في المنطقة في تطبيق نظام الحكم الذاتي من أجل إدارة التنوع لتحقيق الاستقرار و تقدم البلاد، علي رغم من خروج جنوب السودان من التنوع السوداني هذا. و السودان مؤهل لتحقيق الاستقرار السياسي و الإجتماعي و الاقتصادي في (إقليم الايغاد) بصفة خاصة و إفريقيا بصفة عامة لما لدي السودان من تجربة في مجال الحكم الذاتي.

التجربة السودانية في مجال الحكم الذاتي الإقليمي كانت تجربة رائدة و متقدمة في مجال إدارة التنوع و التعددية في افريقيا، قدمت انموذجاً فريداً و ناجحاً إلا انها انهارت بعد عشر سنوات من تطبيقها. إن إنهيار تلك التجربة، أدت الي ما آلت اليها الأوضاع في (السودانين) حالياً. و يبدو ان المفكرين السودانيين لم يحاولوا دراسة تلك التجربة بشئ من الجدية و العمق العلمي، لمعرفة عوامل فشل تلك التجربة السودانية الرائدة. الذين تطرقوا لها قلة قليلة و من بينهم السيدان: أبيل إلير و جوزيف لاقو و هما من تمت علي يديهما اتفاقية أديس أبابا عام ١٩٧٢ و التي بموجبها تم تطبيق نظام الحكم الذاتي في جنوب السودان وهما آيضا تحت مرآيهما تمت تقويض تلك الإتفاقية.

عندما تم تطبيق الحكم الإقليمي بدأية من عام ١٩٧٢، شهد جنوب السودان استقراراً حقيقياً في مجال الأمن بصورة عامة و الاستقرار الإجتماعي بصفة خاصة. و رغم عدم توفر أموالٌ للتنمية الا ان الخدمات الاجتماعية من تعليم و صحة قد شهدت طفرة كبيرة جداً كما ان الطرق، رغم عدم سفلتتها فإنها، ربطت عواصم المديريات و المراكز و سهلت عملية التواصل التجاري و الإجتماعي بين المكونات الإدارية و الإجتماعية في الجنوب.

إن الطفرة الخدمية التي شهدها الجنوب بين أعوام ١٩٧٢-١٩٧٨ تعود أساساً الي أعتماد الحكومة الإقليمية أنذاك علي عناصر ادارية ذات تدريب تخصصي عالي و خبرات و كفاءات مهنية مكتسبة من الخدمة الطويلة، و هي كانت عناصر متدني الفساد وسطها، و مهنية في تعاملاتها الوظيفية. هذه الكفاءات المهنية إنعكس جهودها في بسط حكم القانون و استقرار الأمن و تقديم الخدمات الاجتماعية بصورة متوازنة بين مكونات الجنوب، و إن كانت محدودة بسبب نقص الأموال.

 

عنصر أخر هام ساهم في نجاح تجربة الحكم الإقليمي: كان وجود جهاز تشريعي، منتخب ديمقراطياً، (مجلس الشعب الإقليمي او البرلمان) قوي و مستقل لا يعمل بتوجيهات من الجهاز التنفيذي. ساهم البرلمان في الإقليم في محاربة الفساد بكل اشكاله. لكن هذا العنصر فقد قدرته الرقابية عندما بدأت الحكومة المركزية تتدخل في شئون الحكومة الإقليمية عام ١٩٨٠بما فيها البرلمان، دب الوهن و الضعف علي الحكم الإقليمي و بدأ إنهيار اتفاقية أديس أبابا التي انتهت رسمياً عام ٠١٩٨٣

السودان حالياً يقوم بتطبيق نظام الحكم الذاتي في المناطق التي ذكرتُها، و من الممكن ان تنجح تجربة الحكم الذاتي اذا راجعت قادة السودان تجربة (الإقليم الجنوبي) ١٩٧٢-١٩٨٣. و في اعتقادي هناك العديد من العوامل التي ساهمت في تقويض الحكم الإقليمي في جنوب السودان و ساهمت في قيام الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان عام ١٩٨٣ و من بين تلك العوامل:

1. تجويع الحكومة الإقليمية اقتصادياً و تنموياً. الحكومة المركزية كانت تريد ان تكون حكومة الإقليم صورية من اجل وقف الحرب، و كسب الدعم الإقليمي و الدولي و تحويل المصروف الحربي لتنمية الشمال!

2. وجود حكومتان متعارضتان منهجياً، حكومة (مركزية) عسكرية ديكتاتورية متسلطة، وان استخدمت سياسيين مدنيين، و حكومة (إقليمية) مدنية ديمقراطية منفتحة في الجنوب.

3. نجاح الديمقراطية في الجنوب من خلال ممارسة انتخابات حرة و نزيهة (انتخابات عام ١٩٧٤ و انتخابات عام ١٩٧٨) كان تهديداً حقيقياً و مباشراً لوجود النظامين الدكتاتورين في كل من السودان و مصر.

4. الحكومة المركزية لم تكن لديها اَي مشروع قومي في الجنوب من تخطيطها، تماثل المشاريع التنموية الهائلة المبتكرة، في مجال صناعة السكر والطرق المسفلة و المطارات الحديثة وغيرها من بنية تحتية في الشمال؛ هذا عمق من شعور التهميش عند الجنوبيين.

5. نمو التوجه القبلي في الجنوب و الصراع علي المناصب الدستورية لما تحملها معها هذه المناصب من إمتيازات و منافع مادية و ساندت و دعمت (الحكومة المركزية) هذا التوجه المتخلف.

6. التدخل من قبل الخرطوم في الانتخابات في جنوب السودان ١٩٨٠-١٩٨٢، و هو أمر كان تستهجنه ساسة الجنوب في بدأية الامر و لكن فيما بعد أحتضنته النخبة الجنوبية من اجل الوصول للمناصب العليا.

7. المعارضة السياسية القوية من قبل المعارضين الحزبيين للنظام في الشمال، و الرافضة لاتفاقية الحكم الإقليمي لعام ١٩٧٢، تمكنت هذه المعارضة الشمالية من خلق و إشاع وهماً قوياً و إفتراء خصيصاً يزعم بوجود (بنود سرية) لاتفاقية أديس أبابا مما زرع الشك و الريبة في عقول و نفوس مؤيديهم السياسيين و مريديهم الدنيين و توابعهم الأيديولوجيين عن عدم وطنية هذه الاتفاقية!!

8. بعض السياسات الفوقية كانت تتفق عليها الحكومتان المركزية و الإقليمية و لم تكن مقبولة لدي شعب جنوب السودان، خصوصاً فيما يختص بمشاريع قيلت انها قومية في حين كان يراها شعب جنوب السودان، بأنها محاولة للهيمنة و التغول علي موارد الجنوب: و من بينها مشروع قناة جونقلي و إنشاء مصفاة البترول خارج الجنوب، و تعديل حدود ١٩٥٦ بين الجنوب الشمال. هذه السياسات عمقت و زادت من عدم الثقة لدي شعب الجنوب في الحكومتين و ظهور الشعور (بضبابية مستقبل الإنسان الجنوبي).

9. السياسات (القومية) في كثير من المجالات، مثل الخارجية، كانت تطبق حسب ما تقررها الحكومة المركزية دون الاهتمام برأي و موقف حكومة و شعب الجنوب

10. سياسات (الكشة) و طرد و ترحيل الجنوبيين قسراً من الخرطوم والعديد من مدن الشمال و ما صاحبتها من إزلال و تنكيل، فسرها الجنوبيون علي انها عنصرية صرحاء و جددتْ وعضدتْ من شكوك الجنوبيين القديمة التي قيلت في مؤتمر جوبا عام ١٩٤٧ بان وحدة الشمال و الجنوب ستكون عقيمة!

11. اعلان و تنفيذ نصوص (قوانين) الشريعة الإسلامية ١٩٨٣، و بديهياً كان هذا اعلان سياسي، و اجتماعي و ثقافي صريح بإلغاء مبدأ حكم السودان من خلال (الاعتراف) بالتنوع الثقافي و الاجتماعي و الديني و الذي استندت عليه مقررات مؤتمر المائدة المستديرة مارس ١٩٦٥، و إعلان التاسع من يونيو عام ١٩٦٩، و قانون الحكم الإقليمي لسنة ١٩٧٢ و دستور عام ١٩٧٣.

12. قوات الانيانيا التي (استوعبت) في (الجيش السوداني) عام ١٩٧٢ لم تكن مندمجةً اندماجاً كاملاً مهنياً و إجتماعياً في (الجيش السوداني). كان يطلق علي أفراد قوات الانيانيا من قبل أفراد (الجيش السوداني) اسم (المستوعبون) و هو إسم ينطوي علي تقليل من (مهنيتهم العسكرية) مما خلق شرخ نفسي عميق بين مكونات الجيش السوداني آنذاك. ذلك الوضع النفسي لدي مكون الانيانيا في الجيش السوداني في الجنوب و (ضبابية مستقبل إنسان جنوب السودان) مهد و دعم علي ما حدث عام ١٩٨٣ عندما تجددت الحرب مرة أخري في السودان، و التي نتجت عنها (حق تقرير المصير) و استقلال جنوب السودان ٢٠١١.

نحن في دولة جنوب السودان لم نقم بدراسة عوامل نجاح و فشل تلك التجربة لأننا ورثنا الكثير من نواقص الحكم الرشيد. كان من المفترض ان نبدأ نظامنا بثلاثة أقاليم، لكل إقليم نظام حكم ذاتي علي غرار اتفاقية أديس أبابا ، ١٩٧٢و من خبرة الحكم الذاتي نمضي نحو النظام الفدرالي.

اتمني ان تنجح السودان في قيادة المنطقة و إفريقيا نحو نظام الحكم الذاتي الإقليمي من أجل الإدارة االمثلي للتنوع و التعددية التي تشكل عقبة كبري في الاستقرار السياسي في قارتنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.