هل نسمح بقتل الأمل ووأد ثورة السودان؟

0 34

كتب: د. الشفيع خضر سعيد

.

حسب شهود العيان، ووفق البينات الثابتة والواضحة، إضافة إلى قرائن الأحوال والأدلة الظرفية الملموسة، فإن إقتناص وقتل شباب الثورة في السودان، منذ إنتصارها وحتى اليوم، بدءا بمجزرة فض الإعتصام في محيط قيادة الجيش السوداني في العام 2019، وليس إنتهاء بإقتناص وقتل الشهيدين في الذكرى الثانية لمجزرة فض الاعتصام قبل أسبوع، وأيضا في محيط قيادة الجيش السوداني، هي جرائم قتل مكتملة الأركان، عمدا وليس تفلتا أو عدم إنضباط أو دون تخطيط أو لخطأ غير مقصود.

هي جرائم مباشرة، دافعها الأول الانتقام من شباب السودان الذي فجّر الثورة، وأذل وهزم «الكجر» و«الإنكشارية» الجديدة، متسلحا بالسلمية وهتافات الحناجر. ودافعها الثاني، والرئيسي، السعي المحموم لوأد الثورة وقتل الأمل في التغيير عبر سفك دماء الشباب المنهمك بهمة وجدية وحيوية في إستكمال مهام الثورة، وفي التحضير لبناء سودان الغد الواعد. وبالنظر إلى موقع الجريمة وميقاتها والمتهمين بإرتكابها، فإن اقتناص وقتل شباب الثورة السودانية، هي بالفعل جرائم صادمة. لكنها أيضا جرائم جبانة، تناقض كل قصص الشجاعة وأغاني الفخر والحماسة عن بطولة وشهامة السوداني، ما دام الرصاص القاتل يُطلق غدرا وعلى ظهر الشهيد. أما إذا كنا، وخاصة السياسيين منا، نندهش ونتعجب لحدوث هذه الجرائم وكأنها غير متوقعة، فنحن فعلا غافلون ساهون ليس إلا! هي جرائم متوقعة تماما، مادام إنتصار ثورة السودان لايزال حتى اللحظة جزئيا وغير مكتملا لأنه توقف عند الإطاحة بالغطاء السياسي لنظام الإنقاذ، بينما جسد النظام باق ينخر في عظام الثورة وينسج خيوط غطاء سياسي بديل، لينقض ويحكم من جديد بقوة الدم المسفوح، ومادام قيادة الفترة الإنتقالية، والتي وضعتها الثورة في هذا الموقع، فشلت، ولأكثر من عامين، في شل حركة جسد الإنقاذ والثورة المضادة، وفي تجسيد هتافات ومطالبات شباب الثورة في الشوارع، وكأنها غير جديرة بالموقع والثقة!.

في الأسبوع الماضي، وعقب جريمة قتل الشهيدين في محيط قيادة الجيش السوداني، أصدر مجلس الوزراء الإنتقالي، عدة قرارات منها: استدعاء لجنة التحقيق في أحداث مجزرة فض الاعتصام 2019 ومساءلتها عن سير عملها ومطالبتها بتحديد سقف زمني لإنهاء التحقيق وتقديم نتائجه، مراجعة عمل النيابة العامة والقضاء واتخاذ إصلاحات عميقة في طرق عملهما، تشكيل مفوضية العدالة الانتقالية في غضون أسبوع، مراجعة الوضع الأمني في البلاد، وإتخاذ خطوات لتنفيذ الترتيبات الأمنية الورادة في اتفاق السلام… إلى غير ذلك من القرارات. والملاحظ في هذه القرارات أنها تتعلق بمهام أساسية وجوهرية ظلت، منذ بدء الفترة الإنتقالية، معلقة دون تنفيذ أو حتى إنتباه رغم أنها في أعلى سلم الأولويات.

اقتناص وقتل شباب الثورة السودانية، هي بالفعل جرائم صادمة. لكنها أيضا جرائم جبانة، تناقض كل قصص الشجاعة وأغاني الفخر والحماسة عن بطولة وشهامة السوداني.

فمثلا، الوثيقة الدستورية حددت 13 مفوضية مستقلة ضمن هياكل الفترة الإنتقالية، أعلن عن تكوين إحداها، مفوضية السلام، بدون قانون، والآن الحديث عن مفوضية العدالة الإنتقالية بعد جريمة قتل الشهيدين. فهل يا ترى سنحتاج إلى إحدى عشرة جريمة قتل أخرى حتى ننتبه ونؤسس بقية المفوضيات؟ وهل سننتظر حتى تُرتكب جرائم أخرى تُزهق فيها أرواح شباب الثورة، فنصحو ونتحدث عن إصلاح القطاع الأمني والعسكري، أو عن محاكمة كل من إرتكب جرما في حق الوطن والمواطن من رموز النظام السابق؟ فيا قادتنا في المجلسين، السيادة والوزراء، وفي الحرية والتغيير، ما هكذا تدار أمور البلاد، وأداؤكم لا يشبه ملامح ثورتنا العظيمة، بل وبعضكم وكأنه لا علاقة له بالثورة أو هو مجرد ضيف عليها. ولعلكم تلاحظون أن متلازمة القتل والأعياد لاتزال فاعلة دون رادع مثلما كانت في عهد الإنقاذ، وأضحت ممسكة بتلابيب أرواحنا، تعذبها وتأبى الفكاك منها ما لم تتحقق العدالة وينال القاتل العقاب العادل الملائم لما إقترفته يداه. وأنتم تدركون تماما أن هذه المتلازمة، تتجسّد دائما في كنف سطوة سدنة الإسلام السياسي، حكاما أو جحافل ثورة مضادة متعطشة للإنتقام. وتدركون أن التهاون تجاه انتهاك القانون والتلاعب به، والسماح بالإفلات من المحاسبة والعقاب، هي من الظواهر الأولى المسببة لإنهيار الدولة، ولا معنى لأي نشاط اقتصادي أو مؤتمرات دول مانحة أو سفر لباريس للتفاوض حول إعفاء الديون، إذا لم تكونوا منتبهين ومهتمين وبقلق شديد لهذه الظاهرة. أما إذا إستمرأتم سياسة إغْمَاضُ العَيْنِ عمَّا جَرَى ويجري من تجاوزات إنتهاك القانون والإفلات من المحاسبة لصالح المكاسب السياسية، فأنتم مشاركون أصيلون في الجريمة، ولن يرحمكم الشعب والتاريخ.

صحيح أن السودان يمر اليوم بمنعطف هو الأكثر خطورة والأشد وعورة، إذ زُج بالحكمة والتعقل والحس السليم وإعلاء شأن الوطنية وتحقيق الأمل وبناء المستقبل، زُج بهم في ركن قصي مظلم بينما الأرواح الشريرة، المُتجسدة، تصول وتجول في فضاء الوطن الواسع وتسبح في بحور دماء شهدائه الطاهرة. وصحيح أن هذا الوضع يتطلب إعلاء صوت الحكمة مثلما يتطلب التقدم بمشروع لوحدة قوى الثورة ورفع قدراتها حتى تستعيد زمام المبادرة، ولنبذ إتهامات التخوين المتبادلة، ولمواجهة التدخلات الخارحية الخبيثة. ولكن هذا المشروع لا يمكن أن يمر هكذا وبكل بساطة فوق جثث شهداء الثورة، وخاصة شهداء مذبحة فض الاعتصام ومذبحة ذكرى فض الاعتصام، والإثنان لا توصيف لهما سوى أنهما جريمتا قتل عمد، ومع سبق الإصرار، لا يجب أن نسمح لمن خططها أو نفذحا بالإفلات من العقاب، فلا صوت يعلو فوق صوت العدالة والقصاص.

إن ثورة السودان المجيدة لم تكن مجرد إنتفاضة جياع، ولا ترتبط بأهداف سياسية بحتة وآنية، بقدر ما هي ثورة جيل بأكمله، ملأ الشوارع ليحطم الأفق المسدود الذي بناه نظام الإنقاذ، جيل لن يسمح أن تطأ أحلامه أي «إنكشارية» جديدة أو قديمة، ولن يصمد أمامه أي أفق مسدود آخر، ولن يهدأ له بال حتى ينتصر. أما عبارات الحزن والعزاء، فلا تدبيج لها، وكل نواح الآن عقيم، وفارغة هي همهمات الأسى الكسيح…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.