هل ود يوسف ومحمد جلال هاشم “طفيليان” في مفاوضات جوبا؟

0 98

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

شاهدت متظاهرين من شعب النوبة في جوبا يحملان لافتة ضد تمثيل محمد جلال هاشم ومحمد يوسف أحمد المصطفي للنوبة في وفد الحركة الشعبية شمال، الحلو الذي يفاوض الحكومة الآن لأجل السلام. وسمى الناطق باسم المحتجين المحمدين ب”الطفيليان”. ووجود مثلهما في وفود التفاوض عن الحكومة والحركات مع ذلك قديم قدم المفاوضات بينهما. فحتى سلفا كير ذكر أنه فاوض ضيو مجوك وتوت قلواك، من هم ضمن طاقم دولته الآن، عن حكومة المؤتمر الوطني. وهذا “التطفل” انتهازية تضامنية تريد به جهة التفاوض أن تستعرض إصاباتها التي سبق لها تسجيلها في مرمى الخصم. ومن جهة أخرى، فهي في حالنا الراهن مسرح لمثقفين من الشمال استنفدوا جغرافياهم بحثاً عن دور سياسي ما. وقال عليم إن البشر جغرافيا وإلا ما كانوا. وكنت كتبت عن هذه الانتهازية التفاوضية وبؤسها في واقعات جرت بين دولة الإنقاذ والحركة الشعبية أعيدها هنا.

صدر كتاب “الحكم والنزاع في السودان 1985-1995” للدكتور بيتر نيوت كوك. وهو نزاع طال وأسقم حتى قال أكاديمي أجنبي مرة عنه: “سئمت هذه القصة المعادة التي تبدأ بمؤتمر جوبا 1947 “. وتفرغ من كتاب دكتور كوك وقد ساورك أن بعض تعثر المفاوضات السودانية الطويل مما قد يرد إلى مفهوم الحكومة والحركة القومية الجنوبية بأن طاولة فض النزاع هي ساحة أخرى لتجديد النزاع. فكما أن الحرب هي السياسة بوسيلة أخرى فالتفاوض السوداني هو القتال بطريقة أخرى. وهي حرب لها شفرة وأسلاب وهلمجرا.

فقد جاء في الكتاب أن انتداب الدكتور قرنق لوليم نون ليكون على رأس وفد حركته لمفاوضات أبوجا الأولى (1991) بدلاً عن السيد سلفا كير، الذي سبق أن عقد الرئاسة له، كان حدثاً ذا دلالات. فقد أراد قرنق أن يأتي برجل من جماعة النوير (وليم نون) ليغطي على انقسام دكتور ريك مشار عن حركته. وهو انقسام جرى تفسيره بأنه “تمرد” على هيمنة جماعة الدينكا الذين هم عشيرة قرنق. كما فسرت جماعة أخرى رئاسة وليم نون بإن قرنق لم يكن يعتقد في جدية الحكومة حيال مفاوضات سبقتها بانتصارات مرموقة في الساحة العسكرية. إذ لم يعرف عن وليم نون، العسكري المميز، مزاجاً للتفاوض.

وحملني الكتاب بقوة إلى التفكير فيما لم يخطر لي على بال قبل وهو جدوى وجود شماليين في فريق التفاوض الجنوبي والعكس صحيح. ومع قبولي المبدئي لفكرة أن المسألة موضوع النزاع في المفاوضات قد تتعدى مفردتي الشمال والجنوب إلا أن الغافل وحده الذي يظن أن المفردتين ليسا ركنها الركين. وقد سبق للمرحوم عبد الخالق محجوب أن قال إن حزبه الشيوعي، الذي كان هتافه المفضل ” أممية لا قومية ” هو في نظر طوائف جنوبية معتبرة مجرد حزب شمالي… مندكورات.

وجدت أن وجود مثل هؤلاء الأفراد النشاز (وددت لو أسعفتني اللغة بكلمة أقل حرجاً) ضاراً لأنه يعطيهم ” سلطة ” تأويل قراءة ذهن ” بني جلدتهم ” في الفريق المناوئ. فقد استوقفني في الكتاب موضع يؤول فيه الدكتور منصور خالد، الشمالي في الوفد الجنوبي، ما عدَّه الوفد سوء تحضير من جانب الحكومة قائلاً إن الحكومة الحالية، وقد استولت على الحكم في 1989، تظن أن بوسعها حل هذا الإشكال المزمن بمجرد اعتلائها سدة الحكم.

كما وجدت أن وجود هؤلاء الأفراد النشاز مستفز لأبناء جلدتهم استفزازاً قد يخرجهم عن طور التفاوض إلى الكيد أو الغضب. فقد ورد في الكتاب أن العقيد ضحوي، عضو وفد الحكومة الشمالية، قال في مفاوضات أديس أبابا 1989 إنه جاء لحل مسالة الجنوب ولو أراد منصور خالد أو ياسر عرمان، الشماليان في الوفد الجنوبي، أن يخلقا مشكلتيهما فليشهرا الحرب من أم درمان أو حلة سعيد. وبالمثل فإن وجود السيدين ماثيو أبور وأندرو مالوال ليك، الجنوبيين في وفد الحكومة الشمالية، مما يغيط أهلهما في الضفة الأخرى من المفاوضات. وهذا شعور لا مهرب منه، لأنه طبيعي وكلاسيكي. ألم يقل قيصر في سكرات الاغتيال والموت ينعى الأخوة الخائبة:

– حتى أنت يا بروتس!

وقد هيأ لي الكتاب أن أحدس حدساً أن فشل لقاء مدينة رأس الرجاء الصالح بجنوب أفريقيا بين البشير وقرنق، وقد رعاه نلسون مانديلا شخصياً، وتعثر مفاوضات نيروبي بين الحكومة والحركة الشعبية التي جرت في شهر أكتوبر الماضي، مما يمكن رده جزئياً إلى تكوين وفد حكومة السودان. فقد شمل الوفد الحكومي، في صلاحية الاستشارة، الدكتور ريك مشار ونفراً من الجنوبيين الآخرين الذين لم يوقعوا اتفاقية للسلام مع الحكومة من قريب فحسب بل أصبحوا، وعلى رأسهم مشار، زعماء حكومة الإقليم الجنوبي الجديد قبيل اللقاءات المذكورة. وسيكون الدكتور قرنق محقاً إذا رأى الحكومة تتخذ المفاوضات واجهة لعرض ” سبايا ” معركتها الطويلة في الميدان العسكري وغير الميدان العسكري.

التفاوض، كما تقول جماهير كرة القدم، فن ومن أراد معرفة بعض فنون هذه اللعبة السياسية فليقرأ كتاب “الحنث بوعود جمة” للسيد أبل ألير. فكان ألير الجنوبي رئيس وفد حكومة الرئيس نميري للتفاوض مع جماعة الأنانيا الجنوبية المسلحة في عام 1972. وهي المفاوضات التي وفقت في حقن الدم السوداني حتى تجددت الحرب في 1983. وفي طور تلك المفاوضات، الطور الذي تعلق بالأمن وجد السيد ألير أنه لا في العير ولا في النفير. فقد تحاشاه شماليو الحكومة، والذين هو رئيسهم، وجنوبيو الجنوب. وظل الطرفان يعقدان اجتماعاتهما حول الجوانب الأمنية للاتفاقية بمعزل عن السيد ألير. ففي هذا الأمر الدقيق لم يطمئن إليه لا أهل الجنوب ولا أهل الشمال. وكان ألير في حجم الموقف. فلم يرتجل. ولم تصرفه هذه الوساوس عن شغله الرئيسي: نجاح المفاوضات. لم يثأر لكرامة معممة. بل لم ير كرامة فوق نزيف الوطن. ولم “يطربقها” من فوق لتحت. فصبر على الموسوسين حتى رتبوا أمرهم. فالمفاوضات في شأن بغيض كالذي عليه حالنا في السودان إيثاراً لا إثرة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.