هوشع إيستون: المفكر الأمريكي الإفريقي المنسي

0 101

كتب: ناصر كرم رمضان

.

“هوشع إيستون” (1798-1837م) Hosea Easton أمريكيٌّ أسود بارزٌ من عائلة تنتمي إلى نخبة من المثقفين والمفكرين والناشطين في “نيو إنجلاند” New England، كان جامعيًّا وميثوديًّا وكاتبًا ومؤلفًا وناشطًا مؤيدًا لإلغاء العبودية. عمل على تخفيف المشاكل الناجمة عن العبودية والتحيّزات العنصريَّة، وطالَب بضرورة الإصلاح الاجتماعي. كان مدركًا لمحنة الملونين، وتأثير العبودية المدمِّر عليهم. ونتيجة لذلك حثَّ الأمريكيين البيض على القيام بما هو صحيح أخلاقيًّا ومعنويًّا وروحيًّا فيما يتعلّق بمعاملتهم للسود.

أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:

وُلِدَ “هوشع إيستون” في “ميدلبورو” Middleborough، بولاية “ماساتشوستس” Massachusetts عام 1798م لأصولٍ مختلطة من الأنجلو-إفريقية والأمريكية الأصلية؛ حيث كان أصغر أبناء “جيمس إيستون” James Easton و”سارة دنبار إيستون” Sarah Dunbar Easton. وجاء “هوشع إيستون” من تسلسل عائلي طويل من النشطاء.

ويعود لقب العائلة إلى مالكهم “نيكولاس إيستون” (1593-1675م) Nicholas Easton، مؤسّس “نيوبورت” Newport، بولاية “رود آيلاند” Rhode Island، وحصلت العائلة بالكامل على الحرية على يد أعضاء من “الكويكر” Quaker من البيض. وبحلول أواخر القرن الثامن عشر، كان “جيمس إيستون” جزءًا من النخبة الأمريكية الإفريقية في “نيو إنجلاند”؛ حيث حصل على تعليمه بشكل ذاتي، وافتتح لاحقًا مدرسة لتعليم الشباب السود بعض الصناعات اليدوية، هذه المدرسة التي التحق بها “هوشع” نفسه في عام 1816م.

وخلال عشرينيات القرن التاسع عشر، انتقل “هوشع إيستون” وزوجته “لويزا ماتريك إيستون” Louisa Matrick Easton وطفلاهما إلى “بوسطن” Boston، ليلتحق بالعمل الكنسي بوصفه كاهنًا، وليرتقي –فيما بعد- على التوازي بين صفوف القادة المطالبين بإلغاء العبودية داخل أمريكا.

كان “إيستون” يتميز بلغته القوية في خطاباته المُطالِبَة بإلغاء العبودية؛ ففي عام 1828م قام بإلقاء “خطاب عيد الشكر” Thanksgiving Day Address، والذي اختار أن يكون عنوانه: “العناية الإلهية للسكان الملونين” Coloured Population of Providence ، وذلك بولاية “رود آيلاند”. وفي الخطاب قام “إيستون بمهاجمة العبودية والعنصرية الأمريكية. كما قام بتشجيع جمهوره من السود؛ وحثّهم على التعليم باعتباره ضرورة مُلِحَّة من أجل “الارتقاء العِرْقِيّ”.

ومع نمو سُمعته كزعيم مُطالِبٍ بإلغاء العبودية، ودوره الرائد داخل الكنيسة، وبعد خمس سنوات من خطاب “عيد الشكر”، تولَّى رئاسة “كنيسة تالكوت ستريت الإنجليكية” Talcott Street Congregationalist Church في “هارتفورد” Hartford، بولاية “كونيتيكت” Connecticut.

وخلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر تصاعدت التوترات العِرْقِيّة في “هارتفورد”، فكانت المضايقات والعنف ضد السود أمرًا شائعًا. ففي عام 1835م حدثت مواجهة بين البيض والسود خارج كنيسة “إيستون”. وفي العام التالي تولَّى “إيستون” رئاسة “كنيسة صهيون الأسقفية الميثودية الملونة” Colored Methodist Episcopal Zion Church. وبعد فترة وجيزة من بدء “إيستون” وظيفته الجديدة، دمَّر حريقٌ مبنى الكنيسة.

وقبل عدة أشهر من وفاته، نشر كتابه “أُطروحة حول الشخصية الفكرية والحالة المدنية والسياسية للملونين في الولايات المتحدة” Treatise on the Intellectual Character, and the Civil and Political Condition of the Colored People of the United States، هذه الأطروحة الفكرية التي خلُص فيها إلى أن “الارتقاء العِرْقِيّ” للأمريكيين السود لا يمكن أن ينجح في مجتمع يهيمن عليه البيض ويخيفهم جسديًّا.

ثانيًا: السياق التاريخي والسياسي المعاصر لـ”هوشع إيستون”

عاصَر “إيستون”، بل كان رائدًا لأحد أهم التطورات التي مرَّت بها حركة إلغاء العبودية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر؛ حيث انعقد “المؤتمر الوطني للملونين الأحرار” National Convention of Free People of Color. وفي نفس العام قام “ويليام لويد جاريسون” William Lloyd Garrison بتأسيس جريدته “الحرية” The Liberator المُناهِضَة للعبودية في عام 1831م، والتي غالبًا ما يُعتقد أنها كانت نقطة الانطلاق لحركة إلغاء العبودية داخل أمريكا.

كان القادة في المجتمعات الحضرية للملونين الأحرار في الشمال يجتمعون معًا بوتيرة متزايدة وأعداد كبيرة لتناول القضايا التي كانت للصالح المشترك لشعوبهم. كما أوضحت “جمعية ماساتشوستس العامة للملونين” Massachusetts General Colored Association؛ أن أحد أهم أسباب تأسيسها هو المطالبة بإلغاء العبودية، ومعارضة خطط “جمعية الاستعمار الأمريكية” American Colonization Society، وتعليم الملونين الأحرار والنهوض بهم، وتنظيم كنائسهم الخاصة، والترويج لمجلة “الحرية”، والبحث عن المزيد من الوسائل الجديدة بهدف نشر صوت الملونين داخل أمريكا، وإيجاد طرق مختلفة لمقاومة التفرقة العنصرية بشكل فعَّال. لذا كان انعقاد “المؤتمر الوطني للملونين الأحرار” هو نتيجة طبيعية للحاجة المتزايدة لهؤلاء القادة نحو الاتحاد من أجل تحقيق أهدافهم المشتركة، ومحاربة عدوهم المشترك؛ حيث تعاقبت وتكاثرت هذه المجهودات خلال “حقبة جاكسون” Jacksonian. فعندما التقى “إيستون” بهؤلاء القادة في سبتمبر عام 1830م، كان ذلك بغرض تنظيم وإنشاء قانون منظِّم للمؤتمرات السنوية المقترحة.

ثالثًا: منطلقات “هوشع إيستون” الفكرية:

في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، برز “إيستون” كقائد في الكفاح من أجل حقوق الإنسان والحرية داخل الولايات المتحدة، وعمل بحماس وباستمرار طوال حياته القصيرة من أجل القضية التي ورثها في العالم الجديد. وخلال السنوات العشر الأخيرة من حياته؛ أي من سنّ ثمانية وعشرين إلى سن ثمانية وثلاثين عامًا، جمع “إيستون” إنجازات عمرية أكثر أهمية بكثير من الغالبية العظمى من النشطاء الآخرين في حركة إلغاء العبودية المبكرة، وتلقَّى أيضًا قدرًا غير قليل من المعاناة يفوق أحيانًا ما عانَى منه هؤلاء النشطاء.

فبعد أن شهد الصعوبات الهائلة التي واجهها والده وأخواه الأكبر سنًّا بسبب الاضطهاد من جانب خصومهم -والذي كتب عنه لاحقًا بشكل مؤثر-، ربما جعل “إيستون” يشعر بأنه يجب عليه مواجهة معارضي المساواة بطريقة مباشرة وأكثر فاعلية. وهو ما جعله يترك خلفه عمله الصناعي، ويتجه نحو النضال من أجل هزيمة وحش العنصرية و”التحيز”، اللذين كانا أهم سمات هذه المرحلة التاريخية داخل أمريكا.

كانت أفكاره مترابطة إلى الحد الذي يصعب الفصل بينها وتحليلها بشكل منفصل، فعلى الرغم من الصفحات القليلة التي تركها في شكل مقالات مختصرة، فقد تميزت بقوة في البنيان اللفظي والأدبي والخطابي. هذه الأفكار التي مثَّلت منطلقاته الفكرية سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا، دفعته في نهاية حياته إلى تأليف أهمّ مُؤلَّف في حقل الفكر السياسي الإفريقي خلال القرن التاسع عشر حسبما يرى البعض، وهو كتاب “حول الشخصية الفكرية والحالة المدنية والسياسية للأشخاص الملونين”، ولفهم منطلقات “إيستون” الفكرية سيحاول المقال تحليل أهم أفكاره التي تتلخص في المطالبة بإلغاء العبودية، ومواجهة العنصرية، والدعوة إلى الارتقاء العِرْقِيّ، ونقده للمسيحية الأمريكية ورجال الدين، ومناهضة جمعية الاستعمار الأمريكية والهجرة، من خلال تحليل مقالاته.

ويمكن تحليل توجهات “هوشع إيستون” الفكرية من خلال النقاط التالية:

1- النشاط الحركي:

شعر “إيستون” أنه يجب أن يهاجم العبودية والعنصرية في صميمها، كما أوضح هو لاحقًا في كتاباته وخُطَبه؛ إذ أدرك أن جوهر العنصرية كان روحيًّا، وأيديولوجيًّا، ومؤسسيًّا؛ نظرًا لتغلغلها في “العادات” الاجتماعية حسبما أشار. كان يريد أن يستخدم كل ما توفَّر لديه من أسلحة لخوض معركة لا هوادة فيها ضد العنصرية، وكان سلاحه الأول لكشف حقيقة العبودية، هو مهاراته الخطابية وكتاباته الأدبية المبنية على التحليل المنطقي.

وعلى الرغم من عدم وجود سِجِلّ يدَّعي بأنه كان “قسًّا” أو “كاهنًا” حتى عام 1831م، لكنه بحلول نهاية عام 1827م، انتقل “إيستون” إلى “بوسطن”، وأصبح ناشطًا وبدأ في التحضير للخدمة الكنسية. كان هو وشقيقه الأكبر “جوشوا” Joshua عضوين بارزين في أول منظمة لإلغاء العبودية في “بوسطن”، وهي “جمعية ماساتشوستس العامة للملونين” (MGCA) Massachusetts General Colored Association، والتي تأسست عام 1826م. وتقول بعض المصادر: إن “إيستون” و”جوشوا” كانا عضوين مؤسِّسَيْن للمنظمة، بينما لم يدرجهما آخرون في قائمة المؤسِّسين، مع الاعتراف بأنهما كانا من أعضاء الجمعية البارزين. ومن المحتمل أنهما كانا من بين المؤسِّسين في عام 1826م.

شمل الأعضاء الآخرون في الجمعية قادة بارزين مثل “ديفيد ووكر” (1797-1830م) David Walker، و”جون هيلتون” (1801-1864م) John T. Hilton، و”جيمس باربادوس” (1796-1841م) James G. Barbadoes، و”كوفين بيتس” (1798-1871م) Coffin Pitts، و”ويليام نيل” (1816-1874م) William G. Nell، و”توماس دالتون” (1794-1883م) Thomas Dalton، و”صامويل سنودن” (1765-1850م) Samuel Snowden، وتوماس كول Thomas Cole، وشقيق “إيستون”، و”روبرت روبرتس” Robert Roberts. حيث كانت واحدة من أولى المنظمات على الصعيد الوطني التي طالبت بالإلغاء الفوري للعبودية، وعملت الجمعية أيضًا على مواجهة اضطهاد الأشخاص الأحرار من الملونين في الشمال، وطالبت بإدماجهم الكامل في المجتمع بوصفهم مواطنين كاملي المواطنة، ويتساوون مع البيض في حقوق ومسؤوليات وفرص المواطنة الأمريكية.

وبحلول أوائل عام 1828م، كان “إيستون” بالفعل ناشطًا رائدًا؛ حيث شارك بشكل فعَّال في نشاطات “الكنيسة الأسقفية الميثودية للملونين” Colored Methodist Episcopal Church في “بوسطن”، وفي مارس 1828م دعته الكنيسة لرئاسة “اجتماعٍ كبير للملونين”، وكان الغرض من هذا الاجتماع هو تأكيد الالتزام بين الناشطين ورعايا الكنيسة الملونين بضرورة دعم صحيفة “الحرية”، والتي كانت في ذلك الوقت الصحيفة الوحيدة في البلاد التي يقوم بتحريرها أمريكيون من أصول إفريقية.

وكان “ديفيد ووكر” أحد المتحدثين في ذلك الاجتماع، والذي قامت الصحيفة بنشر “ندائه” الملهم والمثير للجدل إلى “المواطنين الملونين في العالم” في العام التالي. وفي يونيو من عام 1828م ظهر أول عمل معروف حرَّره “إيستون”، وهو “نداء للجمهور المسيحي” An Appeal to the Christian Public، والذي قام بتحريره نيابةً عن “الكنيسة الأسقفية الميثودية”، وهي نفس الكنيسة التي عُقِدَ فيها اجتماع مجلة “الحرية”.

حيث رأت الكنيسة أنها في حاجة إلى مهارة ” إيستون” الخطابية، وقدرته على الإقناع من أجل المساعدة في جمع الأموال لسداد الرهن العقاري الخاص بمبنى الاجتماعات الذي تم تشييده مؤخرًا. وفي هذا الكتيب قدم “إيستون” وصفًا موجزًا ​​للخبرات الكنسية لراعيهم القس” جيمس لي” Rev. James Lee، وقام بتقديم وصف أدبي دقيق للعمل المهم لكنيستهم داخل المجتمع الأمريكي الملون في الجانب الغربي من “بوسطن”. واحتوت نهاية الكتيب على تصديق أربعة من الكهنة الميثوديين الأمريكيين من أصول أوروبية.

2- المطالبة بالارتقاء العِرْقِيّ، وبإلغاء العبودية

في 27 نوفمبر 1828م قام “إيستون” بإلقاء خطاب قويّ في “عيد الشكر” Thanksgiving Day Address، كان عنوانه “العناية الإلهية للسكان الملونين”Coloured Population of Providence  في “رود آيلاند” Rhode Island. لم يكن “إيستون” ينوي نشر هذا الخطاب المطول، ولكنه حسبما ذكر في مقدمته، قام بنشره “بناءً على طلب متحمّس من لجنة تم اختيارها لهذا الغرض، فبواسطة العناية الإلهية للسكان الملونين؛ تأثر وخضع لطلبهم”. وهو ما يفسّر عنوان خطابه المنشور، فهو أول عملٍ منشورٍ له يحمل أفكاره عن العبودية، والذي عبَّر من خلاله عن حزنه وألمه لضحايا العنصرية، لكنه عبَّر كذلك عن أمله في تحقيق الحرية والمساواة من خلال “الارتقاء بالعرق”، والذي يعني “جهود تحسين الذات من قبل ضحايا العنصرية”. في الوقت الذي أُلقي فيه هذا الخطاب، كان إخوته في خضم الموجة الأخيرة من معاركهم القضائية مع أولئك الذين يرغبون في فشل أعمالهم ومدرستهم. وتكشف كلمات “إيستون” عن مدى جرحه وسخطه الشديد بسبب العنصرية في ذلك الوقت.

يبدأ الخطاب بشكر وطني للغاية على عظمة وازدهار أمريكا، ولكن سرعان ما تأخذ هذه النغمة منعطفًا ساخرًا إلى حدّ ما؛ حيث يبدأ “إيستون” في وصف كيفية استبعاد بعض مواطني أمريكا –الملونين- بشكل منهجي من مزايا الحرية والازدهار.

وفي المقطع التالي، يعلن ببلاغة اعتقاده أنه في حالة الحرية الحقيقية فقط يمكن للعقل البشري والروح تطوير إمكاناتهما الكاملة: “يدعو صوت الحرية طاقات الروح البشرية للخروج من ظلام الطبيعة، ولاستكشاف المبادئ الروحية الإلهية، فكلما ارتفعت الروح بتوسُّعها الإدراكي الذكي، ارتقى معها الوعي الإيماني والشكر لله”.

كان يرى “أن الجريمة النهائية الناتجة عن العبودية وحرمان الملونين من الحرية هي أن شريحة كاملة من المجتمع البشري تُسلب بشكل منهجي من تجربة إظهار إنسانيتها الكاملة”.

وفي سياق هذا الخطاب يمضي “إيستون” ليصف: “الفظائع العنيفة المرتكَبة داخل مؤسسة العبودية؛ من خلال الحقائق اليومية للفصل العنصري، والامتهان، وانعدام الحرية الحقيقية للملونين الأحرار في الشمال؛ والشر الشيطاني لحركة الاستعمار. وأخيرًا الأمل بالنصر من خلال الارتقاء بالعرق الملون”.

وعلى الرغم من أن “إيستون” يختتم بنصيحة مطولة حول أهمية “الارتقاء”، إلا أنَّ هناك تلميحًا في قسم سابق من الخطاب بأن الارتقاء والجهود المبذولة لتحسين الذات قد لا يكونا كافيين؛ ويصف بأنه أثناء التعامل مع مشكلة نقص الفرص لوسائل عمل أعلى، “مدى العبث الذي يعاني منه الشباب الملونون”، مثل طلاب “مدرسة إيستون”، عندما “حاولوا تطبيق مهاراتهم في سوق العمل، لكنَّهم اصطدموا بأبواب مغلقة، على الرغم من حصولهم على تعليمٍ جيد”. فحسب “إيستون” فإنَّ التعليم الجيد كان من الممكن أن يُشعرهم بالعقلانية تجاه بؤسهم، ويساعدهم على اتساع عقولهم، واستنارة تصوراتهم، وارتقاء مشاعرهم الحماسية؛ وبالتالي سيقومون بالبحث حولهم بحثًا حثيثًا عن الأعمال التي تناسب قدراتهم، لكنَّهم في المقابل وجدوا أن العُرْف يحرمهم من جميع هذه المزايا”. ومع ذلك يتمسك “إيستون” بمناصرته للارتقاء “كوسيلة، جنبًا إلى جنب مع الأمل في التدخل الإلهي”. هذا الجانب من فكر “إيستون” وتركيزه حول مسؤولية ضحايا العنصرية وتغيير ظروفهم، هو الذي طوَّر من فكره، ليسلك فيما بعد اتجاهًا مختلفًا جذريًّا خلال السنوات الأخيرة من حياته.

ومع ظهور صحيفة “الحرية” لصاحبها الناشط “ويليام لويد جاريسون” في عام 1831م، وجد “إيستون” وغيره من النشطاء الأفروأمريكيين المؤيدين لإلغاء العبودية حليفًا جديدًا يوفّر لهم وسيلة بالغة الأهمية لإسماع أصواتهم. لم يجد “إيستون” وغيره من دعاة إلغاء العبودية ناشرًا على الصعيد الوطني لمقالاتهم وخطبهم فحسب، بل أعلنت الصحيفة أيضًا بانتظام عن اجتماعاتهم وخطبهم واتفاقياتهم وغيرها من الأحداث. كما قامت بنشر مقالات حول تلك الأنشطة، بما في ذلك محاضر الاجتماعات والمؤتمرات.

3- التحيز والاجحاف والتعصب ضد الملونين داخل أمريكا

في ديسمبر عام 1831م، تم نشر مقال من جزأين لـ”إيستون”؛ حيث تم تزييل المقالين بتوقيع “مواطن من شمال بريدجووتر” A Native of North Bridgewater، وتحت العنوان الفرعي كُتِبَ: “بقلم رجل ملون”. كان المقال بعنوان “تحيزات المجتمع” Prejudices of Society، ومن خلال هذا المقال قام “إيستون” بالرد على مواطني “نيو هافن” New Haven الذين رفضوا فكرة إنشاء كلية للرجال الملونين، قام “إيستون بطرح ثماني عشرة وجهة نظر مختلفة حول جذور المشكلة؛ حيث رأى أنه يمكن تلخيص جذور الشر –من وجهة نظره-المتأصل داخل المجتمع الأمريكي في كلمة واحدة، واقترح في مقاله أن تكون هذه الكلمة هي “التحيُّز” أو بمعنى آخر “الإجحاف” أو “التعصب” Prejudice.

كانت مقالاته وخطبه الوعظية مميزة بشكل كبير، فقد استخدم أسلوبًا فعَّالًا للإقناع؛ حيث ساق في مقاله اثني عشر سؤالًا حول اثني عشر مثالًا مختلفًا للظلم العنصري داخل المجتمع الأمريكي، وقام بتقديم تحليل حول أسباب هذا الظلم، فكانت كلمة “الإجحاف” هي الأعمق والأنسب في الردّ على كلّ هذه التساؤلات التي قام بطرحها.

اثنان من أمثلة “إيستون” كانت –حسب زعمه- تدور حول “نفاق المسيحية” الأمريكية، وهو ما يكشف عن عمق الانطباع الذي تركه هذا الشعور على “إيستون”؛ حيث ذكر واقعة احتجاج عائلته بسبب عزلهم في مقاعد منفصلة داخل الكنيسة: “ما الذي يدفع الكنائس المسيحية، وهي تنعم بنور الحقيقة، أن تُعلن بهذه الممارسة أن الله لا يحترم الإنسان. أليس في كل أمة، مَن يخاف الإله، ويعمل البِرّ رجاءً في قبوله؟ إذًا فلماذا لا يتم احترام بشرة أعضائها؟ إنه “التحيز”. و”لماذا يقول خُدام الإنجيل في تراتيلهم، إن البشر جميعًا خُلقوا من نفسٍ واحدة، وبأن الله جعل جميع الأمم من دمٍ واحد؛ ثم في اليوم التالي، يأتيهم الوحي بأن هناك فرقًا بين أمريكي ملون وآخر أبيض؛ هذا الفارق الكبير الذي يجعل الأمريكي الملوّن غير صالح للمواطنة أو غير جدير بالرعاية؟ ليس هناك ثمة سبب غير “التحيز”.

في الجزء الثاني من المقال، هاجم “إيستون” أيضًا رفض المسيحيين الأمريكيين البيض الاختلاط اجتماعيًّا بالمسيحيين الملونين، وتخوّفهم ومنعهم من الزواج من الأعراق المختلطة. فقد مرَّ “إيستون” بتجربة زواج أخويه الأكبر سنًّا من فتيات أمريكيات من أصول أوروبية، فكان شاهدًا ومدركًا جيدًا للمعارضة والتداعيات الاجتماعية التي واجهوها.

يجب الإشارد هنا أن استخدام “إيستون” لكلمة “تحيُّز”، سواء في هذا المقال أو في كتاباته اللاحقة، لم يتم تعريفه ببساطة على أنه “شعور عنصريّ شخصيّ أو فرديّ”. فمن سياق هذا العمل، وكذلك في العديد من الكتابات الأخرى لمؤيدي إلغاء العبودية في تلك الحقبة، يبدو أن “التحيز” يصف “كيانًا متجذرًا ثقافيًّا واجتماعيًّا داخل المجتمع الأمريكي، فهو يشبه إلى حد كبير ما يسمى اليوم “بالعنصرية المؤسسية” Institutional Racism. ويساعد “إيستون” استخدامه المتكرر لكلمات “العرف” Custom و”التقليد” Tradition في نفس السياق من أجل توضيح هذه النقطة.

حيث قدَّم في المقطع التالي من المقال مثالًا أكثر وضوحًا حول كيفية فهمه لـ”التحيز”؛ وبأنه كان يعني منهجية عدم المساواة أو العنصرية المؤسسية: “وهي بمثابة عادات تنشأ من تحيزات المجتمع عمومًا؛ أي الآراء التي أصبحت معتادة دون فحص مزاياها. وعندما يتم تكوين فئة من الآراء حول أيّ موضوع والاعتزاز بها؛ تصبح المبادئ أو الاستنتاجات مألوفة للعقل، ومِن ثَمَّ تتجذر فيه، ونادرًا ما يتم بذل جهد لإزالتها. وعندما يكون المجتمع موبوءًا بهذه المبادئ، فإنه يميل إلى الاحتفاظ والاعتزاز بها ومعاملتها باحترام. ومن هنا يتم الاحتفاظ بالعديد من التناقضات داخل المجتمع. ويتم تفضيل الأخطاء القديمة باعتزاز على الحقائق الجديدة. وبعبارة أخرى؛ عندما يقع عدد كافٍ من الناس في الأكاذيب وينقلونها من جيل إلى جيل، يصبح التحيز الفردي ظاهرة على مستوى المجتمع ككل”، وهو ما أشار إليه “إيستون” في عنوان مقاله.

4- اهتمامه بالتعليم، والعمل الدعوي

يظهر اهتمام “إيستون” بالتعليم والتدريب في المهن الماهرة للأشخاص الملونين من خلال محاولته في أبريل من عام 1832م؛ حيث طلب دعمًا لمدرسة عائلته في “شمال بريدجووتر”. فحسبما جاء في سجلات “جمعية نيو إنجلاند لمكافحة الرق” New England Anti-Slavery Society، نجد تقريرًا يتعلق بطلب “إيستون” المساعدة من الجمعية.

وعندما تمت الإشارة إلى مدرسة “إيستون” لأول مرة في الأوراق الرسمية كان باسم “جمعية السامري الصالح” The Good Samaritan Society؛ حيث يعكس الاسم المشاعر المتعلقة بالارتقاء الحقيقي والتحرُّر الذي عبَّر عنه “إيستون” لاحقًا في كتاباته.

واصل إيستون المشاركة في “المؤتمر الوطني السنوي للملونين الأحرار” حتى عام 1834م، وغالبًا ما كان يقود الصلاة بوصفه “قسًّا”؛ حيث قام باقتراح وتأييد عدد من القرارات المختلفة. وبين هذه المؤتمرات واصل “إيستون” العمل بحماس من أجل الحركة المزدهرة المناهضة للعبودية في ذلك الوقت؛ حيث ألقى عدة محاضرات في الكنائس والقاعات في جميع أنحاء “نيو إنجلاند”.

لذا فقد أصبحت الكنائس الملونة أماكن اجتماع لعدد متزايد من الجمعيات والمنظمات ذات الصلة بالنهوض. وبعد وقت قصير من وصول “إيستون” إلى “هارتفورد”، انضمَّ إلى العديد من القادة السود المحليين لتشكيل منظمة جديدة، وهي “مؤسسة هارتفورد الأدبية والدينية” Hartford Literary and Religious Institution، والتي تأسست في يناير من عام 1834م. كما تم تعيين “إيستون” بوظيفة “الوكيل العام” للمؤسسة، والمسؤول عن السفر لجميع أنحاء “نيو إنجلاند” بهدف جمع الأموال من خلال التحدُّث إلى الكنائس والمتعاطفين مع إلغاء العبودية. ولسوء الحظ في نفس الوقت انتشرت موجة أخرى من عنف الغوغاء المستوحى من العنصرية في جميع أنحاء المناطق الحضرية الشمالية الشرقية، مما دفَع أعضاء المؤسسة إلى تأجيل رحلة السفر من أجل جمع الأموال؛ نظرًا للخطورة التي يمكن أن يتعرَّضوا لها بسبب الأوضاع غير الآمنة. فقد اندلعت أعمال الشغب مِن قِبَل البيض تجاه السود في “بوسطن”، و”نيويورك”، و”أوتيكا”، و”نيويورك”، و”بيتسبيرج”، و”هارتفورد”، خلال الأعوام من 1834م وحتى عام 1836م. وانتشرت أعمال الشغب في “هارتفورد” في عامي 1834م و1835م، بالقرب من منزل “إيستون”.

وعندما قام “إيستون” بتأسيس ورعاية كنيسة ثانية في “هارتفورد”، وهي “كنيسة صهيون الأسقفية الميثودية للملونين” Colored Methodist Episcopal Zion Church، تم حرق مبنى الكنيسة الجديد في نفس العام.

5- مناهضة العنصرية الأمريكية ضد الملونين

خلال سنواته في “هارتفورد”، واصل “إيستون” السفر والتحدث عن ضرورة إلغاء العبودية والعنصرية. فبعد الحريق أضاف “إيستون” إلى خطبه دعوة الحضور للتبرع بالأموال لإعادة بناء الكنيسة. ولكن التغيير الأبرز الذي طرأ على خطبه بعد الحريق، هو تحوُّل خطابه عن الارتقاء والتحسين الذاتي للأشخاص الملونين إلى جماهير مختلطة من السود والبيض؛ حيث بدأ يوجّه حديثه بشكل متزايد للجمهور الذي يغلب عليه البيض، ويحثهم على التوبة من عنصريتهم، من أجل تعافي المجتمع الأمريكي ككل. فقد بات على اقتناع تامّ بأن تغيير سلوك العنصرية من جانب البيض يمثل حجر الزاوية لارتقاء المجتمع ككل.

فما تعلمه “إيستون” من أحداث منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر هو أن “محاولات رفع مستوى السود لم تفشل فقط في إحداث التغيير الاجتماعي المنشود، بل إنها على ما يبدو أثارت أبشع هستيريا إفريقية يمكن تخيّلها!” ففي الوقت الذي كتب فيه خطابه عام 1828م، كان “إيستون” قد بدأ للتوّ يشعر بوجود هذه الهيستريا. وبعد تسع سنوات بدأ يدرك أن أنصار العبودية والعنصرية ليسوا ضحايا، وأنهم في أمس الحاجة إلى التغيير. وبوصفه “قسًّا” فقد كان لديه “إيمان مسيحي عميق خلق لديه قناعة بأن الأمل النهائي للأمريكيين الملونين يكمن في تدخل العناية الإلهية لجلب العنصريين البيض إلى التوبة والتحول”. ورأى نفسه -باعتباره رجل دين- أحد المسؤولين عن تحقيق هذه النبوءة.

6- الشخصية الفكرية والحالة المدنية والسياسية للملونين

كانت الرسالة الأهم التي كتبها “إيستون” هي: “حول الشخصية الفكرية والحالة المدنية والسياسية للأشخاص الملونين” A Treatise on the Intellectual Character, and Civil and Political Condition of the Colored People  في الولايات المتحدة، والتحيز الذي يُمارَس تجاههم؛ حيث قام بنشرها في عام 1837م، أي  قبل أربعة أشهر من وفاته فقط، لتكون تتويجًا لحياته الفكرية والحركية القصيرة، ولتمثل هذه الرسالة محاولة “إيستون” العظمى للوصول إلى الأمريكيين العنصريين، والذين شعر بأنهم في أمسّ الحاجة إلى سماعها.

في صفحاتها الأربعة والخمسين، مثَّلت الرسالة خطابًا فلسفيًّا ولاهوتيًّا حول موضوع العِرْق والعنصرية، استخدم فيها “إيستون” نطاقًا وعمقًا أكبر في التحليل، أكثر من أيّ عملٍ آخر كتبه أمريكي في السابق حول هذا الموضوع. ولربما اقترب “ستانهوب سميث” (1751-1819م) Stanhope Smith و”بنيامين راش” (1746-1813م) Benjamin Rush من أفكارٍ وتحليلاتٍ بنفس القَدْر حول هذا الموضوع في كتاباتهم المختلفة، ولم يقدم أيّ منهما معالجة واحدة يمكن مقارنتها برسالة “إيستون” حول “الشخصية الفكرية والحالة المدنية والسياسية للملونين” في عمقها وتحليلاتها التفصيلية، بغضّ النظر عن لغتها المنطقية وحجية استنتاجاتها التي تميزت بها رسالة “إيستون”.

أما على مستوى كتابات الأمريكيين من أصل إفريقي، قد نجد العديد من الأمثلة للأعمال التي تتناول موضوع العبودية بشكل عام، كذلك العلاقات العِرْقِيّة داخل أمريكا، والتي كانت سابقة لمقال “إيستون” بالطبع، وكذلك بعض الأمثلة التي تروّج لنظريات الأصول العِرْقِيّة للبشرية والتمايز. هذه المقالات التي كانت يتم نشرها باستمرار في مجلة “الحرية”، وقد أدلى “ديفيد ووكر” في “ندائه” بالعديد من التعليقات الذكية والثابتة حول هذه الموضوعات العِرْقِيّة. ومع ذلك لا يوجد من بين هذه الأعمال ما يصلح للمقارنة من حيث عمق التحليل الفكري، وجودة الرؤية، وعرض الحجة، كما وجدت في رسالة “إيستون”.

بدأ “إيستون” رسالته بطريقة مناسبة لرجل دين مسيحي يكتب في موضوع العرق: “من خلال إيماننا بوحدة الجنس البشري، إلى جانب نصوص توراتية وتاريخية أدت إلى تلك الوحدة الأصلية التي فرضها الله”. شكَّلت هذه الجملة الصدارة في مقدمة “إيستون”، لتعبِّر عن معارضة قوية لكل الصراع والتنافر الذي يصفه طوال ما تبقى من رسالته: “حقيقة عظيمة واحدة معترف بها في العالم المسيحي ككل؛ وهي أن الله خلق الأمم جميعها من دم واحد، واستخلف البشر ليسكنوها ويعمروها”. ثم يمضي في تقديم تفسير مسيحي للتنوع البيئي المادي داخل الجنس البشري الواحد، ويتبع ذلك سَرْد توراتي وتاريخي للمسارات المتباينة التي اتخذها أحفاد “أبناء نوح” الذين سكنوا إفريقيا وأوروبا، مما يوفّر تفسيرًا للتنوع في التطوُّر الثقافي والفكري بين المجموعات البشرية المختلفة.

وتتناول الفصول الأربعة التي تُشكِّل ما تبقَّى من الرسالة: “الضرر الذي لحق بضحايا العبودية”. وطبيعة “التحيز” (المصطلح الذي استخدمه إيستون ومعاصروه، قبل اختراع كلمة “العنصرية”)، و”الوسائل التي تنتقل من جيل إلى جيل”؛ آثار العنصرية على مَن يسمون “الأحرار” الملونين في الشمال؛ والتي أدَّت إلى “فشل حكومة الولايات المتحدة في تمديد وعدها بالحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة لجميع مواطنيها” (بما في ذلك قدامى المحاربين الملونين في حربين أمريكيتين).

وفي أحد فصول رسالته يوضّح بالتفصيل الطرق التي يتم بها تلقين العنصرية وتناقلها عبر الأجيال؛ ومن خلال سرده لهذه الطرق تتضح العديد من الأمثلة على الأشياء التي لا بد أن “إيستون” قد اختبرها بنفسه أثناء نشأته في “ماساتشوستس”، وكذلك في مراحل حياته خلال أسفاره في جميع أنحاء “نيو إنجلاند”؛ حيث قام بتقديم العديد من الأمثلة على انتشار “التعليمات” العنصرية داخل المجتمع الأمريكي، بدءًا من القصص والأقوال الشائعة التي تُروى للأطفال عندما يكونون صغارًا، إلى الاستخدام المتكرر لمصطلحي “زنجي” Negro وNigger كإهانات، إلى التذكيرات المرئية في شكل ملصقات عامة تُهين السود، والمرافق العامة المنفصلة المخصَّصة للسود، بما في ذلك بطبيعة الحال “مقاعد الزنوج” داخل الكنائس.

ويتعامل “إيستون” أيضًا في رسالته مع الدافع الاقتصادي لإدامة العنصرية في الشمال من خلال دعم العبودية: “يقولون: إن القطن والأرز والتبغ والسكر هي نعمة عظيمة للعالم، ولديمومة هذه النعمة يجب أن تظل مؤسسة العبودية، والحقيقة أن النظام كله قد تمَّ تأسيسه على الجشع”.

حاول “إيستون” من خلال رسالته أيضًا إنتاج فلسفة حديثة يمكن من خلالها وضع إطار عام لفكر مؤسسة العبودية ونظرتهم إلى السكان الملونين؛ من خلال ربطه باستمرار مؤسسة العبودية في الجنوب –جنبًا إلى جنب- بـ”الشعور العام السائد بالعنصرية في الشمال”. وبالتالي عدم السماح لـ”الليبراليين” الشماليين “المناهضين للعبودية”، وحتى بعض دعاة إلغاء العبودية المخلصين، بالتخلّي عن مأزقهم والهروب من الذنب بدفع السود للاستعمار خارج أمريكا. لتمثّل هذه الرؤية عند “إيستون” عمقًا وقوة في فَهْم طبيعة الإشكالية العنصرية وإدامتها داخل أمريكا.

إحدى المجموعات الأخرى التي لا يسمح “إيستون” بإعفائهم من المسؤولية عن العبودية هم رجال الدين المسيحي. فحسب وصفه: “قد تكون العنصرية هي مصلحة لجميع الأطراف، لكنها ليست كذلك بالنسبة لرجال الدين المسيحي، المنوط بهم التحذير من مجرد وجود مقدمات للعنصرية، واستخلاص النتائج والعِبَر، ومن ثَمَّ تعليم الجيل الصاعد مدى خطورتها على المجتمع”.

كما رأى “إيستون” أن “حب المال هو أصل كل شر”، وبأنه “قد أعمى رجال الدين حتى عن الخوف من الإله، حتى إنهم كانوا يشهدون ممارسات مؤسسة العبودية لما هو أبشع أنواع الكفر، ثم يدعون بأنها كانت مُكرَّسة للإله، ويمتنعون عن تحذير الأشرار من عواقب ممارستهم، فلا تندهشوا على الإطلاق إذا علمتم أنهم يُعلّمون أطفالهم؛ أن الزنجي ليس مثل الرجل الأبيض، بدلًا من تعليمهم تعاليم المسيحية”.

يتضح من كلمات “إيستون” أن تأثير مقاومة عائلته للجلوس المنفصل داخل الكنيسة يعطي مضمونًا لما كان يقصده حين قال: “أبشع أنواع الكفر”. فقد كان بهذا التعبير يحاول بالتأكيد مناشدة الضمير الأبيض، فلم يكن بأي حال من الأحوال يحاول استرضاء البيض. بل كان يتقمّص ثوبًا نبويًّا بهدف تحذير المجتمع الذي رأى “أنه” محكوم عليه باستحقاق الانتقام الإلهي إذا لم يَعُدْ إلى التوبة”.

حتى إنه تصور الشكل الذي يجب أن تتخذه توبتهم، كما هو موجود في المثال التوراتي لـ”السامري الصالح”. ويحمل هذا القياس بعض الارتباطات المثيرة للاهتمام بالمناقشات الحالية حول العمل الإيجابي والتعويضات لأحفاد العبيد الأمريكيين من أصل إفريقي: “حررت نيويورك عبيدها، بعد أن ضربتهم عدة مئات من السنين، وتركتهم نصف موتى، دون علاج للكدمات والجروح التي تلقوها بسبب سوء معاملتهم. لكنَّ السامري الصالح كان لديه وجهة نظر مختلفة تمامًا”. وهنا يشرح “إيستون” بقوة ما يعنيه أن تكون “سامريًّا صالحًا” في الولايات المتحدة، داعيًا إلى اتخاذ إجراءات تصحيحية إيجابية من جانب الأمريكيين البيض، بهدف شفاء الأشخاص الذين أصيبوا بجشعهم: “فالانعتاق يجب أن يتضمن إعادة المتحررين إلى حيث وجدتهم العبودية، وإعادة لهم كل ما تم سلبه بسبب العبودية”. فإن “مجرد التوقف عن ضرب الملونين وتركهم في غورهم وتسميتها تحريرًا لهو هراء”. فلا شيء أقل من “تبديلٍ كامل لنظام العبيد من الناحية النظرية والتطبيقية، وهو ما سيتسبب في تخليص الملونين في هذا البلد من حالتهم الحالية”.

وبالطبع عندما يقول “إيستون”، وهو مناهض قوي للاستعمار: “يجب إعادة المتحررين إلى حيث وجدتهم العبودية”، فهو لا يشير إلى إفريقيا. بل إنه يشير إلى حالة إنسانية يجب استعادتها، وهو المجد الذي كان عليه الأفارقة قبل الأسر”؛ حسب تصور “إيستون”.

فالعبودية كما رآها “إيستون”، كانت السبب الجذري للأضرار التي لحقت بالحالة الجسدية والنفسية للأمريكيين من أصل إفريقي، وكذلك للظروف الاجتماعية القمعية التي أُجبروا على العيش فيها في الشمال والجنوب على حدٍّ سواء.

وفي نقاطٍ عدة من الرسالة يؤكد “إيستون” على “الدمار الذي تسبّبه العبودية على حياة الإنسان، وكيف أن آثاره التراكمية، التي تنتقل من جيل إلى جيل، تخلق حالة بشرية تزداد سوءًا مع مرور الوقت”. ويصف التأثيرات على البيض الداعمين للعبودية بإيجاز على “أنها روحية في المقام الأول، وتتجلى في تدهور شخصيتهم الأخلاقية، وبالتالي تعريض أرواحهم للخطر”. وبالنسبة للسود؛ وبوصفهم من وقع عليهم الاستعباد، فإن “الآثار جسدية وعقلية وأخلاقية ونفسية، وتتزايد في شدتها بالتناسب المباشر مع مقدار الوقت الذي أمضاه الفرد وأسلافه المباشرون تحت سلطة العبودية المهينة”.

بالتوافق مع سرده التاريخي الذي اعتمد فيه على المركزية الإفريقية، لاحظ “إيستون” أن العبيد الذين أتوا مؤخرًا من إفريقيا، و”المولدين” أو “الفارين” الذين وُلِدُوا في إفريقيا، والذين أمضوا وقتًا قصيرًا نسبيًّا تحت نير العبودية، كانوا في وضع أفضل أو “مرتفع”، مقارنة بأولئك الأشخاص الذين ظلوا مع أسلافهم تحت العبودية لبضعة أجيال أو أكثر. ومن خلال التأكيد على نقطة التركيز هذه، كان “إيستون” يأمل في إقناع البيض بأن الخصائص الشخصية السلبية والعيوب التي زعموا أنها متأصلة في جميع السكان الملونين تقريبًا كانت نتيجة لممارسات العبودية؛ من خلال مساوئ العبودية وممارسة العنصرية و”التحيز”. وليس نتيجة أيّ سمات موروثة من إفريقيا.

إلى جانب إلقاء المسؤولية، أو إلقاء اللوم للضرر الذي أحدثته العبودية على الأمريكيين، جادل “إيستون” أيضًا بأن الضرر كان شديدًا لدرجة أن العبيد والعبيد السابقين لم يتمكنوا من التعافي من آثاره، وبالتالي فإن المسؤولية الأساسية عن علاجهم واستعادتهم يتحملها البيض. ولدعم حجته استخدم “إيستون” العديد من الأمثلة التوضيحية التي يمكن بسهولة العثور عليها، والتي كانت تسيء للملونين طوال الوقت. و”التي كانت تُبرز امتهان أوصاف الخصائص الجسدية الفعلية والمزعومة للأمريكيين من أصل إفريقي، والتي ادَّعى البيض أنها كلها أمثلة على الدونية، في محاولة لتزييف الحقيقة والتي مفادها أن آثار العبودية هي التي حطمت كل ما هو جيد في نفوس وخصائص الملونين، أما عن الاختلافات الشكلية بين البيض والسود، فقد كانت جزءًا من التنوع الطبيعيّ الذي قصده الله بغرض التكامل، وبالتالي لا عيوب على الإطلاق”.

لكنَّه حتى في هذا السياق، فإن بعض الصور النمطية التي قام بسردها، قامت بإزعاج البعض ممن قرأها على أقل تقدير. فإلى جانب أوصافه للضرر النفسي الذي لحق بالأمريكيين من أصل إفريقي بسبب العبودية، قدم “إيستون” صورة “لانحطاط العبيد وعجزهم”، هذه الصورة التي من الممكن أن تكون مقلقة بشكل خاص لأولئك الذين فروا مؤخرًا من العبودية.

وبالتالي في سياق محاولته التي قدَّمها من خلال رسالته لوصف الحالة التي وصل إليها المجتمع الأمريكي، وإبراز الإشكالية الأساسية من أجل تخليص شعبه من معاناة العنصرية، يبدو أن “إيستون” ربما أساء إلى بعض الأشخاص من البيض والسود على حدٍّ سواء، بما في ذلك بعض الشخصيات الرئيسية داخل حركة إلغاء العبودية. وهو ما جعل لهذه الإساءات تأثيرًا مباشرًا على كيفية تذكر “إيستون” وعمله من قبل أولئك الذين جاءوا من بعده.

رابعًا: دلالات “هوشع إيستون” الفكرية:

داخل البيئة الاجتماعية للأمل والنضال من أجل المساواة داخل أمريكا، وعلى وجه التحديد في مدينة “بريدجووتر” Bridgewater، بولاية “ماساتشوستس” Massachusetts، شارك “إيستون” في خمسة اعتصامات لعائلته خلال مراحل عمره المختلفة، فقد كان عمره في أول اعتصام عامًا واحدًا بينما عمره في آخر اعتصام كان ثمانية وعشرين عامًا. وكان في الخامسة عشرة من عمره عندما تم بناء مدرسة عائلته ومصنعًا لسباكة الحديد، كما كان شاهد عيان ومشاركًا في معاركهم السياسية وانتصاراتهم. ومع هذا الكَمّ الهائل من النماذج والتجارب الشخصية الشجاعة التي استفاد منها “إيستون”، جنبًا إلى جنب مع إيمانه المسيحي العميق، طوَّر “إيستون” إحساسًا برسالته نحو تصحيح الأخطاء الاجتماعية والقضاء على الظلم، لا سيما المظالم التي كانت قائمة على العنصرية.

فتاريخ عائلته الطويل والذي مثَّل خليطًا بين أعراق مختلفة جمعت بين الإفريقية والأمريكية الأصلية والأوربية، ونضالهم من خلال تحدّي العادات والتقاليد والأعراف العنصرية، جميعها زود “إيستون” بإدراك دائم بأن البدائل لكل من القاعدة الاجتماعية العنصرية والنموذج العنصريّ كانت محتملة.

وعلى الرغم من إسهامات “إيستون” الفكرية فقد تم إهماله وتجاهله تمامًا بعد موته. ويرجع ذلك إلى اثنين من الأسباب الرئيسية لإهمال “إيستون” وأُطروحته وتجاهلها مِن قِبَل معظم دعاة إلغاء العبودية الذين أتوا من بعده. وينطوي السبب الأول على تغيير الأفراد والتكتيكات داخل الحركة السوداء، بدءًا من أوائل أربعينيات القرن التاسع عشر؛ مع “جيمس بنينجتون” (1807-1870م) James W.C. Pennington، و”فريدريك دوجلاس” (1818-1895م) Frederick Douglass تحولت القيادة الملونة للحركة من أشخاص أحرار ملونين، وُلِدُوا أحرارًا بالأساس؛ مثل “إيستون” و”وليام كوبر نيل” (1816-1874م) William Cooper Nell، و”جون هيلتون” (1801-1864م) John T. Hilton، و”صامويل كورنيش” (1795-1858م) Samuel Cornish، إلى رجال كانوا عبيدًا بالأساس؛ مثل “بنينجتون”، و”دوجلاس”، و”هنري جارنت” (1815-1882م) Henry H. Garnet، و”مارتن ديلاني” (1812-1885م) Martin Delany، و”ويليام ويلز براون” (1814-1884م) William Wells Brown.

ومع مجيء “فريدريك دوجلاس” إلى دائرة المطالبين بإلغاء العبودية في عام 1841م، قرر القادة البيض المؤيدين لإلغاء العبودية؛ مثل “ويليام لويد جاريسون” (1805-1879م)William Lloyd Garrison  و”ويندل فيليبس” (1811-1884م) Wendell Phillips، بأن الترويج للعبيد السابقين المحترمين ذوي المهارات الخطابية مثل “دوجلاس” و”براون”، قد يساهم بإظهار مؤسسة العبودية بشكل أكثر فظاعة، وأن هذه الأصوات التي عانت من العبودية يمكن الترويج لخطابها غير النمطي،  وهو ما اعتبره “جاريسون” وأقرانه تكتيكًا فعالًا في مواجهة العبودية. وعلى الرغم من أن بعض البيض داخل الحركة المناهضة للعبودية فضَّلوا بشكل أبوي صورة العبد الضعيف والمسالم، فقد رحَّب الكثيرون بهذا التغيير التكتيكي؛ لأنه أبقى التركيز على العبودية في الجنوب، بدلًا من التعامل مع موضوع العنصرية المزعج وغير المريح في الشمال، فكثيرًا ما أزعجهم “إيستون” والعديد من القادة السود الآخرين من “الحرس القديم”. ووفقًا لذلك سرعان ما انتشرت وبرزت السِّيَر الذاتية السردية للرقيق، والتي كانت تُنشر بشكل غير منتظم قبل هذا الوقت.

كيف إذن يمكن لمقاطع من الرسالة التي كتبها “إيستون”، والتي تجادل بأن العبودية كان لها تأثير موهن تمامًا ومهين للإنسانية على العبيد، أن تساعد في النهج التكتيكي الجديد لإلغاء العبودية، أو يتم تلقيها على أنها أي شيء سوى إهانة لكرامة وفخر أشخاص مثل “دوجلاس”، و”ديلاني”، و”براون”، و”هارييت توبمان” (1822-1913م) Harriet Tubman، و”سوجورنر تروث” (1797-1883م) Sojourner Truth؟

ففي إحدى المقاطع من رسالته، جادل “إيستون” بأنه لا حاجة لإعداد العبيد للتحرُّر التدريجي من خلال التعليم، بدلًا من الإلغاء الفوري للعبودية، فحسب قوله: “لا يمكن تعليم العبيد ليصبحوا مثل الرجال الأحرار. فالعبد يتحول إلى آلة، ويتكيف مع عملية معينة. وتدفعه القوة الاستبدادية لنظام العبيد، فيتحول العبد على هذا النحو من كائن أخلاقيّ ذكيّ، إلى مجرد آلة فاقدة لكل المبادئ الفطرية للرجل الحرّ. ومِن ثَمَّ عندما يتوقف العمل بمبادئ العبودية، فإنه يصبح مجرد حُطام لآلة غير صالحة للاستخدام”.

فمن غير المحتمل أن يكون لأي من هؤلاء “المفكرين الجدد” من القادة السود -العبيد السابقين- الذين طالبوا بإلغاء العبودية، عند قراءة مثل هذه الكلمات، أي علاقة بما قام “إيستون” بنشره من أفكار، باستثناء ربما التثبيط  عن توزيع منشوراته. وعلى الرغم من أن “جاريسون” وآخرين قد اقتبسوا في كثير من الأحيان من خطاب “عيد الشكر لإيستون”، والعديد من خطاباته ومقررات المؤتمر، إلا أن كتاباته لم تحظَ بالإشارة ولو بإشعار بسيط بعد عام 1840م. كما تم حذف اسم “إيستون” من عدة تواريخ للحركة الأمريكية الإفريقية لـلحرية والمساواة التي كتبها أعضاء هذا الجيل الأسود الجديد.

والسبب الرئيسي الثاني لإهمال “إيستون” مِن قِبَل أولئك الذين جاءوا من بعده هو أنه مات فجأة في يوليو من عام 1837م، أي بعد أربعة أشهر فقط من نشر أطروحته. مما يعني أنه لم يكن موجودًا لمناقشة مبادئ أفكاره أو الدفاع عنها، أو نشر مراجعة مُعدَّلة لها. فلو عاش “إيستون” لنشر نسخة منقحة قليلًا من مقالته الأخيرة، وقام بتنحية الأوصاف المفرطة لتدهور العبيد، بما في ذلك بعض الاستثناءات في حججه، مثل ذكر بعض العبيد السابقين الذين كان يعرفهم شخصيًّا -كأشخاص ذوي قدرة عالية وشخصيات نبيلة- ربما كان ذلك أفضل لتذكره.

ولربما شعر أنه كان من الضروري تضخيم عجز السكان المستعبدين؛ بغرض إقناع جمهوره الأساسي المقصود -البيض المتعاطفين- بأن العمل التعويضي والترميمي الذي يتعين عليهم القيام به لا يمكن أن يكون بدون إشراك السود الأحرار.

وعلى صعيد آخر، بينما يتم دراسة تأثير رسالة وإرث “إيستون”، من المهم ملاحظة أن “إيستون” لم يسئ إلى الجميع، ولم ينساه الجميع أيضًا. فقد أدلى القس “عاموس بيمان” Amos G. Beman بأن “إيستون” كان لديه بصمات فكرية أعمق وأفضل ممن عاصروه.

فمن الواضح أنه بعد عشرين إلى ثلاثين عامًا من وفاة “إيستون”، كان “بيمان” لا يزال يعرف الكثير من الأشخاص الذين يتذكرونه. كان “ويليام سي نيل” William C. Nell، أحد أكثر دعاة إلغاء العبودية من السود نشاطًا وإنجازًا في القرن التاسع عشر، يتذكر “إيستون” جيدًا في عام 1855م، عندما كتب “الوطنيون الملونون في الثورة الأمريكية” Colored Patriots of the American Revolution. وقام باقتباس العديد من المقاطع الطويلة من مقالة “إيستون” في كتابه، والتي تشغل ما يقرب من أربع صفحات. وبشكل ملحوظ لم تتطرق أيّ من المقاطع التي اقتبسها “نيل” إلى تدهور العبيد، بل تناولت قضايا المساواة في الحقوق للمواطنين الأمريكيين الملونين، وخاصة المحاربين القدامى، والحرمان المنهجي من هذه الحقوق بسبب العنصرية البيضاء.

وختامًا:

فإن إحباط إيستون من الفجوة بين المبادئ الثورية وواقع حياة الأمريكيين من أصل إفريقي واضحٌ في كل صفحة خطها “إيستون” بيده، فقد أكَّد في أكثر من موضع أن الأمريكيين من أصل إفريقي بحاجة إلى تجديد جهودهم نحو “الارتقاء والنهوض” لتحقيق التحرر الكامل. لذا فإن كتاباته تعتبر بمثابة “وثيقة تاريخية تجسّد بشكل كامل تعقيد وقوة أيديولوجية “الارتقاء العِرْقِيّ” للأمريكيين من أصل إفريقي.

لكنه بحلول وقت وفاته المبكر في عام 1837م، تخلَّى “إيستون” عن فكرة “الارتقاء” لصالح نهج جديد جذريًّا. فكتب رسالته حول “الشخصية الفكرية والحالة المدنية والسياسية للأشخاص الملونين في الولايات المتحدة”، والتي قدَّم من خلالها معالجة منهجية للعِرْق والعبودية؛ حيث أصبحت البيئة المسيحية عقيدة “إيستون” التي تُحرّكه فكريًّا. فتحدث عن المساواة العِرْقِيّة الفطرية في مقدمة رسالته، لكنه عاد وجادل بأن بعض “أحفاد نوح” تحولوا إلى الوحشية عندما تجولوا في أوروبا، على عكس الأفارقة المسالمين الذين ظلوا في موطن أجدادهم.

وبصرف النظر عما تم مناقشته، فإن نشر كتابات “هوشع إيستون” يُمثّل إضافة ضرورية لدراسة الفكر الإفريقي الأمريكي؛ نظرًا لكونها ربطًا مفصليًّا بين مفكري الجيل الثوري، من أمثال “برنس هول”، و”جون تيزمان”، و”فيليس ويتلى”، وجيل الحرب الأهلية من أمثال “فريدريك دوجلاس”، و”سوجورنر تروث”، و”هارييت توبمان”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.