يوميات حرامي نحاس: كانت سحابة شرطة وانقشعت
كتب: د. عبد الله على إبراهيم
.
اشتغلت صبياً بتعدين النحاس من مكب نفايات ورش السكة الحديد بظهر مستشفى عطبرة الشمالي حين سكنت حلة التمرجية بداخلة عطبرة في ١٩٥٤. ولم أواصل الشغل لأنه تعب ووسخ وفائدته قليلة. وتفتق ذهني عن سرقة النحاس من منزل بحينا جعله ود الحسين، التاجر الباسل، مخزناً لأشيائه ومنها النحاس الذي كان يشتريه من المعدنين الصغار في نفايات السكة حديد ثم توقف. واكتشفت هذا الكنز في المرات التي كانت تطير كرة الشراب وتقع في حوشه ونقفز لاستعادتها. وعرضت مشروع أخذ النحاس غلابا على ثلاثة أصدقاء صار أحدهم مديراً بالسكة حديد، والثاني جنرالاً في الجيش، والثالث أدارياً يشار له بالبنان.
لا أذكر التفاصيل التي أوصلتنا إلى قرار سرقة نحاس ود الحسين طالما أهمله كل هذا الاهمال وبيعه مرة ثانية لصالحنا. ولكن ربما كنا تداولنا أنا والإداري حول الأمر أولاً لأن الكنز في حلتنا وكنا نحن من اكتشفه. وربما فاتحت صديقي الجنرال وقريبي المدير ووقع الاتفاق. ما أذكره جيداً مع ذلك الخطة الجهنمية التي وضعناها لسرقة النحاس. فقد استبعدنا أن نأتي الدار من أبوابها لأنها تفتح على ميدان وشارع. وخططنا بالمقابل أن نقفز من فوق سور البيت من قفاه لأنها منطقة موات كامل. فقد كانت بيوت القفا إما كاملة ولكنها مهجورة مثل منازل الشيخ محمد علي الزبير أو السيد علي التوم وكثير غيرها، وإما ناقصة البناء مثل حوش زمراوي. وزمراوي ليس صاحب الدار بل هو مستثمر فيه يؤجره لباعة القش واللبن لتبيت فيه حميرهم لقاء تعريفة أو قرش. وكان المنزل الملاصق بالقفا لمخزن ود الحسين من هذا النوع الأخير. واستحسناه لأنه مما يمكن أن تدخله بغير عناء ويؤمن مع ذلك ظهرك.
أما أكثر حيلنا للسرقة جهنمية فقد كان توقيت التسلل للنحاس المهمل. فقد اخترنا الساعة الثالثة ظهراً. وهي ساعة تنشف فيها القدم في الحي جملة وتفصيلا. فقبلها يكون العمال والموظفون قد عادوا إلى بيوتهم في نحو الساعة الثانية والربع، وتناولوا ما تيسر من غداء وشاي نحو الساعة الثانية والنصف إلى الثالثة إلا ربع ثم استسلموا لنومة القيلولة العميقة القصيرة. ولم تكن قلاية صيف عطبرة مما يغري حتى أشقى الصبية بالمغامرة للخروج في تلك الساعة الفاصلة إلا من عصابة الأربعة التي تعرف ما تريد. وموهبة توقيت ساعة السرقة مهارة فطرية في عصابة الأربعة.
وسنرى كيف رتبنا مثل هذه الساعة المباغتة لسرقة أخرى للنحاس. وشملت خطتنا تعيين اثنين منا للقفز فوق حائط منزل ود الحسين واستعادة النحاس. وبقي اثنان لتأمين ظهر السارقين بالتنبيه لأي تحرك غير محسوب، ولحمل المادة المستعادة. وقد جئنا بجردل قديم لغاية ترحيل النحاس المستعاد من ود الحسين. وكلفنا الجنرال بحمل الجردل على رأسه أو كتفه لأنه أطولنا ليحجب عن المتطفلين القصار رؤية ما بداخله. وكنا إذا فرغنا من المهمة اتخذنا طريقنا معاً لدكان الحاج ود بدق، وكان يعاني من بؤس النظر، لبيع النحاس المستعاد من ود الحسين. ونقبض الثمن ونقتسمه وهاك يا طعمية وباسطة وفول وحلوى وسينما.
لا أذكر عدد المرات التي تسللنا إلى دار ود الحسين لتخليصه من نحاسه البائر. ربما أخذنا الأمر مرتين أو ثلاث لتنظيف المخزن من نحاسه عن بكرة أبيه. وعشنا لأسابيع عيشة الملوك.
ثم كان يوماً رمضانياً اجتمع فيه بعض أولاد حلة التمرجية عند حائط ديواننا. وكنت أمضغ بقية بليلة كبكبيه. والتفت نحو منزل ود الحسين فإذا بكومر بوليس يقف عند قفاه وهو موضع تسللنا إليه. ونزل نفر من الشرطة واتجهوا إلى حائط الدار الخلفية. وأوجف قلبي خوفاً، وامتقعت، وباخ طعم البليلة. وبدا لي وكأنني أقرش حنظلاً. وبدا لي أنني قاب قوسين أو أدني للقبض على متى ما قام الشرطة بقص الأثر. وتصدع رأسي بسناريو ما بعد القبض على عبد الله. فستكون الإصلاحية مصيري بعد غضب الوالدين وفضيحة بجلاجل في الحلة.
ووجدت نفسي أنسحب بسرعة من شلة الأولاد وأسرع الخطو نحو منزل الإداري جاري لأخبره بالواقعة. وتجرس الصديق وذكر والده وشدة ضبطه. وقررنا أن نهجر التمرجية للداخلة.
فالتقينا عضوي العصابة بها. وأطلعناهم على التطورات وأن الشرطة ستكون بأثرنا قريباً. واتفقنا على ترك البيوت واللياذ بشاطئ النيل بجهة حلة ود نواوي. يقال عن مثلنا في المثل زنقة الكلب اللحس الخمارة. وكنا أسوأ حالاً. وانحصر خوفنا في أن تقودنا جريمتنا الطفلة إلى الإصلاحية فتنهي مصائرنا التعليمية الواعدة. وكنا نعرف في الحي من مر بالإصلاحية وكانت وصمة وذات دلالة في بؤس التربية المنزلية. وظللنا سحابة نهارنا وعصرنا نحلق عند النهر خوفاً من أن تلحق بنا الشرطة في بيوتنا. كنا على يقين أننا مقبوض علينا لا شك في ذلك. وكنا، عصابة الأربعة، تحالفاً لهاربين خائفين لا يلوون على شيء سوى استبطاء الخبر السيء الآتي.
وقضينا سحابة العصر لم نسمع أن أحداً سأل عنا. وكلما مر الوقت ولم نفجع بالخبر حتى في مخبئنا الواضح كلما تفاءلنا أنه ربما كانت سحابة شرطة وانقشعت. وعند أول المساء رجعنا إلى بيوتنا. وكان مشوارنا عادياً. لم يشر علينا أصبع اتهام. وبلغنا بيوتنا ذاتها. لا شيء. الحمد لله. لم نبت في الإصلاحية. لم تهتد الشرطة إلينا. لقد قيدت البلاغ ضد مجهول. كانت سحابة شرطة وانقشعت.