٩٥ عاماً على ميلاد عبد الخالق محجوب (١٩٢٧): إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير

0 54
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تمر بيوم ٢٢ القادم خمسة وتسعون عاماً على ميلاد أستاذنا عبد الخالق محجوب. ونخصص للذكرى مقالات أولها هذا العرض لتقريره المعنون “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير” (١٩٦٣) الذي تصادف صدوره في سبتمبر من تلك السنة. وهذا احتفال أيضاً بذكرى التقرير الثامنة والخمسين.
مر على صدور “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير” (١٩٦٣) لأستاذنا عبد الخالق محجوب ثمان وخمسون عاماً. وكان عَرَضه أول مرة بين أعمال دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في سبتمبر ١٩٦٣.
والتقرير في عداد الكتابات التربوية التي تنشئ عضوية الحزب على الفكر الماركسي من خلال الممارسة. وهذا خلاف التربية التي تشترط ألا تبدأ الممارسة من قبل إحسان تربيتك فيما ستمارسه: مثل أن تستذكر الماركسية حرفاً أولاً حتى تتضلع فيها قبل أن تبدأ نشاطك العملي.
عاد عبد الخالق في الوثيقة إلى خلافات 1951-1952 بينه وبين عوض عبد الرازق التي ساقت إلى انقسام الحزب. ودارت تلك الخلافات حول الطبيعة الطبقية للحزب: هل نقبل بحقيقة قيام طبقة عاملة بيننا تستحق حزباً شيوعياً جهيراً، أم ألا نعترف بوجودها ويبقى الحزب ثورياً وماركسياً لا ينذر نفسه لطبقة عاملة؟ وجرى في ذلك الخلاف إنكار وجود طبقة عاملة مستحقة لحزب شيوعي بذريعة إما أنها لم توجد بعد أو أنها لم توجد صناعية مئة مئة كما تصورها ماركس.
ورد عبد الخالق العقيدة الأخيرة إلى نصوص وردت في بعض الكتب الماركسية تقول إنه يقتصر الشيوعيون في مثل بلادنا على حزب ديمقراطي وحسب. وكان ذلك رأي عوض عبد الرازق. وخلص أهل العقيدة الأولى بقيادة عبد الخالق إلى أن ببلادنا “طبقات ثورية وأن بها كتلة من الشيوعيين يمكن لهم، بل واجبهم، أن يكونوا حزباً شيوعياً مستقلاً”. ولم يكن ذلك ما اتفق لعوض وجماعته.
أراد عبد الخالق من تقريره أن يستكمل “الانتحار الطبقي” لعضوية الحزب من البرجوازية الصغيرة المتعلمة التي اختارت أن تنضم لحزب أعلن على الملأ أنه للطبقة العاملة والكادحين. وأراد عبد الخالق من التقرير، بعبارة أخرى، أن يحسن الذبح لمن جاؤوا تطوعاً لخدمة طبقة غير طبقتهم ليخرجوا بروليتاريين على السكين.
لو سألنا ما هي زبدة الكتاب فهي في إحساننا استقبال الماركسية في بلدنا. وأقول هذا حذا قول القانونيين عن استقبال القانون العام البريطاني (reception of the common law). ويعنون بهذا أقلمته على البيئة التي استدعته من مكمنه الإنجليزي. ووجدت الدكتور رقية أبو شرف، بنت أخت أستاذنا، سمّت في موضع آخر دعوة خالها في استقبال الماركسية وتقعيدها في واقعنا ب”جعلها لغة دارجة”. وهي تعريب مستكره لعبارتها وهي “vernacualariztion “.
جاءت هذه التربية في “إصلاح الخطأ”، كما اشتهر التقرير موجزاً بين الشيوعيين، في سياق إعداد الحزب لجيشه السياسي لخوض النضال ضد نظام الفريق عبود. فكان الحزب قد فرغ في ١٩٦٣ من مسألتين حول هذا النضال. فقرر، من جهة، في ١٩٦١ أن الإضراب السياسي العام هو الطريق للإطاحة بالنظام. أما المسألة الثانية فهي عزيمته أن يخوض هذه المعركة بقيادة الطبقة العاملة بعد أن قنع ظاهراً وباطناً من جبهة الأحزاب الوطنية التي خملت بعد وفاة السيد الصديق المهدي. بل وخرج الحزب مستقيلاً منها بعد خلافه معها حول دخول انتخابات المجلس المركزي.
بقرار الحزب الإضراب السياسي كان قد حسم صورة النضال لما بعده. فقد اتجه النضال حتى تاريخه لهز هيبة النظام. وقد نجحت الحركة المناهضة له في ذلك. وأما، وقد تواثق الحزب على خطة بذاتها للإطاحة بالنظام، فوجهة النضال عنده تغيرت إلى استعادة المنابر الجماهيرية (نقابة واتحاد) كأدوات لإدارة العمليات تجاه تطبيق الإضراب السياسي. فقصد التقرير في تلك الملابسات بناء حزب مستعد للتحدي لمعركة استعادة الديمقراطية. وتحسب التقرير لأن مثل هذا التحول من الإثارة إلى الدبارة سيلقى مقاومة البرجوازية الصغيرة التي الإثارة مهنتها ومتعتها في حين تتحاشى أثقال الدبارة وكُلفها.
اشتغل التقرير برسم نهج الحزب لاستقبال الماركسية أو استئناسها في واقع السودان، أو ما اشتهر بصفة “التطبيق الخلاق للماركسية على الواقع السوداني” في كتابات الشيوعيين. كان عبد الخالق مدركاً أن الماركسية التي دعا لها ستتنزل في بلد أكثر ثقافته ثيولوجية لم يمتحنها عصر نهضة ولا عصر تنوير، ولم تطعن فيها ليبرالية الغردونيين إلا “جلافي”. ولا مشاحة. فالمأزق هنا مأزق الماركسية لا الثقافة التي ستتزل عليها. وبالنتيجة لن تجد الماركسية في مثل هذه الحال إلا العداء. وهذا مفهوم. أما ما لن تجده حقاً فهو “تيارات فكرية مناوئة” رصينة تحصحصها، وقد تلجمها، فتكيف استقبالك لها، وتحول دونك والشطط.
كتب عبد الخالق تقريره، وهو لينيني مفتق، بطلاقة استمدها من كلمات لينين إلى شيوعي الشرق المسلم في روسيا. قال لينين لهم أن يعتمدوا على النظرية الشيوعية العامة، ولكن التحدي الحقيقي لهم، في قوله، يتمثل في تكييف أنفسهم وفق ظروفهم الخاصة التي لا وجود لها في البلدان الأوربية. وناشدهم: “لا تطبقوا الحرف طبقوا الروح”. ولم يترك تقرير عبد الخالق حجراً على حجر بحثاً عن الروح لإشاعتها في دراسة واقع آخر غير واقع الماركسية في منشئها.
وكان ما يخشاه عبد الخالق، وحال ثقافتنا على ما عليه، أن تغلب النصوصية على استقبالنا للماركسية بدلاً عن اشتباك النص بالواقع. فالنصوصية هي الأصل في الثقافة الثيولوجية التاريخية عندنا وحتى في تعليم غردون. وضرب مثلاً على هذا النهج بما جرى في أروقة الحزب في ١٩٥١. فقال اتخذ النقاش في الخصومة طريقة نفض الغبار عن الكتب الماركسية والتنابذ بنصوصها سبيلاً للإقناع.
كان عبد الخالق يخشى من أن تصير الماركسية زينة ثقافية للبرجوازية الصغيرة لا مبضعاً لتحليل الواقع. وقال إن هذا النهج سيسوقنا إلى العزلة واحتقار تجارب الشعب تبدو به الماركسية “دعوة لا جذور لها بين شعبنا، ولا مكان لها بين تجاربه ومعارفه”. فلا يأتي للحزب، في قوله، عضو كاللوح الممسوح. فكل من يأتينا عليه نقش من الواقع يكون عليه مدار تعليمنا الماركسية له لأنها هي تطور لكل معرفة ثورية أصيلة.
وفي تعلق عبد الخالق بماركسية نافذة في واقع السودان كاد يصيح في الحزب كفوا عن “يلحقنا وينجدنا”. ليس بالحزب شيخ أحاط بالأمر كله وله في كل قضية فتيا. فنوه بالدعوات، التي سماها غريبة، التي تطلب فيها دوائر في الحزب مثل منطقة الجزيرة قول الماركسية في مثل منطقتهم ومشروعهم. فليس للماركسية، في قول التقرير، خطة للجزيرة في الأزل لم تتوافر منظمة الحزب فيها على بنائها من واقع ممارستهم من القواعد إلى القيادة. فليس من صلاحية مركز الحزب، الشيخ، “فتح الكتاب” ليدل تلك المنظمة على قول الماركسية الفصل. فعلى كل منظمة حزبية أن تقوم بما عرف ب”دراسة المجال” أي الواقع الذي حولها. وستكون الماركسية هي ما تسفر عنه هذه الدراسة للمجال لأن الماركسية في قول موجز للينين هي الدراسة المتعينة للواقع.
كان رحمه الله لا يعلم خير الماركسية لغمار الناس فحسب، بل أيضاً كيف أنها بالوسع أن تصبح مضغة بائسة على لسان البرجوازية الصغيرة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.