في تذكُّر نَجوى قَدَحَ الدَّم: القضايا ذات الجَّدَل.. العَرَب والغَرْب وإسرائيل (2)
كتب: المحبوب عبدالسلام
وَلَجَ إدوارد سعيد إلى الثورة الفلسطينيَّة أوان الثورة، ولحظتها ذهبيَّة، لا كما تقوم الانتفاضات العابرة ويدُق جرسٌ مفاجئ في كُلِّ بيت، فيخرُج الناس إلى الشوارع ويُمسكون بها. للثورة الكبرى زمانٌ ينفتح لها كل قلب، ويسارع الناس أفواجاً للانضمام إليها، كما انحاز الجنوبيون في السُّودان من كُلِّ قبائله وصاحوا مع نداء جون قرنق، بل وتناسوا القبائل والمناطق والانتماءات السابقة وصاروا بعضاً من حركة الشعب، وكما استمرَّت ثورة الجنوب سنين عدداً، مضت ثورة دارفور بضع سنين مع لحظتها الذهبيَّة، كان العالم كأنه كله يشِدُّ من أزرها وينحاز إليها أبناء الإقليم بلا عدد، وفيما كانت تسميها الخُرطوم “التمرُّد”، كان أهل دارفور جميعاً يعرفونها بـ“الثورة”.
عندئذٍ، دخل أستاذ جامعة كولمبيا والناقد الأدبي المرموق، وقبل أن يصبح مؤلف الاستشراق إدوارد سعيد إلى الثورة الفلسطينية، اللحظة التاريخيَّة التي اندلعت فيها المقاومة واستوت “فتح” على سوقها، وتبلورت المنظمة وأتاها الفلسطينيون زرافاتٍ ووحداناً من كُلِّ صوب. المجاز هُو معني المعني، كما يقول محمود درويش، اختار ادوارد سعيد لقصَّة حياته عنواناً مازجاً بين الحقيقة والمجاز “خارج المكان”، فهو مَقدِسِيٌ وُلد من أبٍ فلسطيني، ولكنه يحمل الجنسيَّة الأمريكيَّة، أي الأب الميسور الحال، درس إدوارد في القاهرة مراحله إلى ثانوية فيكتوريا، ثم هاجر ليلتحق بالجامعة في الولايات الأمريكية، ثمَّ هو مكتوبٌ في خانة الديانة: مسيحي بروتستانتي. ومع نشأته الميسورة بوصفة نجلاً لبرجوازي ثري، فقد كان إدوارد سعيد يري نفسه بوجهً من الوجوه ناطقاً باسم المظلومين والمُهمَّشين، والذين تعرضوا لسوء الفهم والتشويه المُتعمَّد، فبعد كتاب الاستشراق، الذي هو بحث المُصنَّفين ثانياً وثانوياً وغرائبياً وشهوانياً في عُقُول الذين صنفوهم كذلك، كتب سعيد “تغطية الإسلام”، طارحاً مرَّة أخرى مجازاته الموجعة عنواناً لكتابه، فبين ثلاثمائة صحفي أميركي كانوا يُغطون الثورة الإيرانيَّة عشيَّة انتصارها، لم يكن من بينهم من يتحدَّث الفارسيَّة، فالإسلام يتعرَّض للتغطية التي تمسح أحداث اليوم، وللتغطية التي تحجب حقيقته بسبب الجَّهل المريع والغرض في وسائل الإعلام الأمريكية، وقد كانت قضية فلسطين التي مزج دمه من تُرابها، مثالاً نقياً يجمع ظلم الاستشراق للشرق، وصورة العربي المتوحِّش وتغطية الإسلام الجائرة، وحالة المُهمَّش غير المعترف بقضيته والمظلوم المقتلع من أرضه.
دخل سعيد للسياسة من سرتها وطريقها اللاحب الذي تمُرُّ عبره كل الطُّرُق وتنتهي عنده الأفكار، و“بيروت اختبار الله”، كما يقول درويش، وكما هي القضيَّة الفلسطينيَّة للضمير الحُر، والذي يزعُمُ الحُريَّة، لقِيَم الحضارة الغربيَّة ولمثل الدِّيمُقراطيَّة العُليا ولدعاوى الإنسانية. كما هي أكبر معهد ومعمل لمعرفة السياسة في أعمقها البعيدة وعبر ذرَّاتها الدقيقة، فمَن عَرِفَ القضية الفلسطينيَّة فقد عَرَفَ الشرق الأوسط، ومن عَرِفَ الشرق الأوسط فقد عَرَفَ السياسة، كما هُو الأمر في السياق الأوسع لبحث الاستشراق.
دخل إدوارد سعيد إلى القضية الفلسطينية زمان الهزة الكبرى، هزيمة حزيران ١٩٦٧، فللثورة الكبرى أوان ملاحمها وانتصاراتها وهزائمها ومضات تُوهج، وقد دخل إدوارد سعيد وثلة من الأكرمين مع انفجار النيزك، ثلة من الأكاديميين كانوا في قواقعهم الحصينة لا يضُرَّهُم من فاز ومن خسر في معارك السياسة، الباحث هو الذي يذهب إلى المكتبة عندما يذهب الناس إلى العمل في تعريف سعيد نفسه. منهم هشام شرابي، الذي أخرجته النكسة من الحياد رأساً إلى الماركسيَّة وقد لامس الأربعين من عمره، من جورج تاون الجامعة المرموقة في واشنطن إلى معسكرات الفدائيين الفلسطينيين في الأردن، من علم النفس التربوي إلى قعقعة السلاح الروسي، وهو يُقدِّم المثال الأشد مضاضة في مُباينة المفكر والسياسي وحالة المُثقف والسُّلطة. يقول هشام شرابي: «جئتُ من عمَّان إلى بيروت بعد ‘أيلول الأسود’، ووجدتُ قادة منظمة التحرير علي مكاتبهم الوثيرة يُدخنون ويشربون القهوة ويثرثرون، كأنَّ الدُّنيا لا تزال بألف خير».. صدمة عمَّان وبيروت أعادت شرابي إلى واشنطن وأعادت بحثه إلى زمن النبوة، ليسأل: «أين أصبح المجتمع العربي أبوياً ومرائياً وكيف فقد الفاعلية والتركيز؟ إنه مجتمعٌ منافق يُحبِّذ المسايرة علي المُواجهة لتكون النتيجة الحتميَّة هي الغيبة والنميمة. كما دخل للثورة الفلسطينيَّة في ذات الوقت ميخائيل حنا، صديق إدوارد سعيد الأثير، أستاذ الكيمياء بجامعة هارفارد، الفلسطيني المسيحي مثله، والذي حوَّل ميدان دراسته بالتمام من الكيمياء إلى دراسات الشرق الأوسط، باعتباره احتياجٌ شخصي ليعرف أكثر عن شعبه وتاريخه، كما ذكر ذلك بنفسه لإدوارد سعيد، فكما سار شرابي الشوط كله، سار ميخائيل المعروف بـ“أبو عمر” بعد أن أصبح مسئول الإعلام الخارجي في منظمة التحرير الفلسطينيَّة، ولكن إلى أبعد ممَّا مضى شرابي، إذ لقي الشهادة علي ظهر قارب حمله من بيروت إلى طرابلس دون أدنى تأمين في لُجى توجبه إسرائيل طولاً وعرضاً، وفي ميتةٍ غامضةٍ لها سوابق ولواحق في تلك الفترة من أواخر السبعينات في تاريخ المنظمة.
يقول إدوارد سعيد في المقدِّمة التي كتبها لكتاب حنا ميخائيل “السياسة والوحي”، وهو للدهشة دراسة عن الماوردي، نال بها درجة الدكتوراه من هارفارد، وكتب عنها في مراجعات الكتب ألبرت حوراني، يقول سعيد: «لقد صُدِمتُ عندما رأيتُ صديقي القديم أستاذ هارفارد وسياتل لا يرتدي مُطلقاً سوى زي المُجنَّدين ولا يقود سيارة، ورغم انه كان يزوروني بانتظام في الغرفة الصغيرة التي اتخذتها مكتبة بشقة أمي في بيروت، فلم أكن أدري أين يسكن، وإذ كُنتُ أزورُ بيروت بانتظامٍ فقد ساعدتني علاقاتي بكمال ناصر وميخائيل حنا في التعرُّف على قادة منظمة التحرير من قُرب. أذكُرُ أني كلما جئت إلى بيروت انخرطتُ في نقاش طويل عن السياسة الأمريكيَّة مع حنا، وأذكر جيداً إصغائه التام واستماعه الذكي، كما أذكُرُ جيداً المحاضرات التي تمتد لساعاتٍ التي يُخضعني لها قادة المنظمة عن السياسة الأمريكيَّة وكلها مأخوذة من مقالات النيوزويك ومن بورصة بيروت للإشاعات».
لا ريب أنَّ إدوارد سعيد استعاد ذكرى لقائه المحبط في باريس مع سارتر وسيمون وفوكو قبل نحو عقد كامل، عندما اتصل به ميخائيل حنا في ساعة متأخرة وأخبره أنه وجان جنيه يرغبون في زيارته، فقد ظنَّ إدوارد سعيد أنَّ ميخائيل يمزح كما ظنَّ من قبل عندما قرأ البرقيَّة المُرسلة من باريس. جان جنيه هو أفضل ناثر فرنسي بإجماع النقاد، كما هو شاعرٌ وروائي، لكنه كذلك منفيٌ ومتشرِّد وعاشق الفلسطينيين الأكبر صاحب كتاب “عشاقٌ في السُّجُون”، لم يُصدِّق إدوارد سعيد أنها لم تكن مزحة إلا عندما دخل إليه جان جنيه بصُحبة ميخائيل حنا واستمرَّ حوارهم حتى الفجر، وإذ لم يكن ميخائيل يجيد الفرنسية مثل إدوارد فقد كان يفهمُها بشكلٍ كافٍ، ولكنه ظلَّ صامتاً أغلب الوقت، لا يتدخل إلا لإضافة مهمَّة.
أما القضية الفلسطينيَّة، فقد مضت هي الأخرى أشواطاً مهمَّة من بيروت إلى تونس إلى أوسلو إلى كامب ديفيد، بل منذ أن أطلَّ الحبيب بورقيبة من على هضبة عمَّان وانبسطت أمام أودية الأردن ومهابط سوريا ولاحت بروق فلسطين وأطلَّ جبل لبنان، رآها أرض صغيرة متلاحمة مهما بدت مقدَّسة، فإنَّ قاطنوها من بني الإنسان.
ذهب الحبيب متحمِّساً لقضية العرب الأولى، وعاد طارحاً مبادرته الصَّاعقة في ابريل ١٩٦٥: تعيد إسرائيل للفلسطينيين لإقامة دولتهم، عودة اللاجئين، السَّلام بين العرب وإسرائيل ونهاية الحرب. بورقيبة مثالٌ للسياسي البراجماتي، الذي يغلب حسابه شُعُوره، وكذلك أنور السادات. كلاهُما نظر بعين البصيرة السياسيَّة بعد تجربة طويلة منحت تلك النظرة الإحاطة بالتاريخ والسياسة الدوليَّة، كلاهُما غارقٌ في السياسة العمليَّة وفِي الهَمِّ بالإنسان.. نعم، فلسطين مقدَّسة، ولكن الفلسطيني أشدَّ قداسة، لكن الفرق بين زيارة التونسي إلى الأردن وزيارة المصري إلى القدس عقدٌ ونيف، كالعد بين عُمريهما وكما المسافة بين دولة مواجهة خاضت حربين مع إسرائيل ودولة عربية لكنها تطل علي المتوسط وتشاطئ أوروبا.
يقول إدوارد سعيد: «لم أكن يوماً معارضاً للحوار والسلام مع إسرائيل، ولكن لن أقبل أبداً عن اتفاق يرضى بقطعة أرض صغيرة مُحاطة ومُخترقة بإسرائيل، لم أفهم كيف انتهى ذلك النضال الكبير لاتفاق غزة أريحا، الذي لم يحفظ كرامة الفلسطينيين بوصفهم شعبٌ مظلوم ومُقتلعٌ من أرضه، وكيف غاب الحس التاريخي عن أولئك الكبار كما غابت عن جميع أعضاء الوفد المفاوض أن تكون معه خريطة لفلسطين وخريطة مفصَّلة لغزَّة، فذهب نصفها لإسرائيل وسيطرت علي مداخلها ومخارجها، وفي حين تكلم رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين عن دماء الإسرائيليين وعن الإرهاب بذلك المزيج المعروف من الأكاذيب البشعة وأنصاف الحقائق، الذي يُصوِّر الفلسطينيين وهُم الضَّحايا وكأنهم مُعتدون، أشار عرفات بسلبيَّة إلى شعبه وأنه يعيش علي أرضه طيلة تاريخه ولم يتعرَّض أبداً إلى الاحتلال العسكري والسجن والتشريد وحق العودة والاقتلاع من الأرض.
وكما تشابه الحبيب بورقيبة وأنور السادات، تشابه موقف إدوارد سعيد إلى حدٍ كبير مع موقف المُفكر السُّوداني محمود محمَّد طه في ذروة فوران المدِّ القومي وبعد هزيمة ١٩٦٧، لقد اعتبر الأستاذ الزعم بالاحتفاظ بلاءات الخُرطوم الثلاثة (لا للتفاوض، لا للصُلح، لا للاعتراف بإسرائيل) والسَّعي للحلِّ السِّلمي تناقُضٌ صارخ، خاصة وقد قبلت دول المُواجهة كافة (مصر وسوريا والأردن ولبنان) بمبادرة روجرز وتعاطت مع سياسة هنري كيسنجر “الخطوة وخطوة”، ثم رحَّبت بقرار مجلس الأمن الأشهر رقم: ٢٤٢، والذي تضمَّن بالكامل أطروحة بورقيبة السَّالفة. تشابهت بصيرة الأستاذ محمود في المستقبل مع رُؤية الدكتور إدوارد سعيد: إعلاء شأن الإنسان وإيمانه العميق بجوهر المصير الإنساني المُتعايش في المستقبل، على حدِّ كلماته، فصاح في البريَّة العربيَّة: «اصطلحوا مع إسرائيل».. وإذ كانت المواقف العربية تتقدَّم باضطراد نحو الجوهر الإنساني، كانت إسرائيل تخسر. يقول جاك استرو وزير الخارجيَّة البريطاني الأسبق عن القضيَّة الفلسطينيَّة في مقالٍ نشره قبل أعوام: «لا يمكن أن تقارن مقدار التأييد الذي كانت تلقاه إسرائيل عندما كُنتُ رئيساً لاتحاد طلاب جامعة أكسفورد عام ١٩٧٤، وبين الرَّفض والتحفظ الذي تُقابَلُ به مواقف وسياسة إسرائيل في الغرب اليوم، كان هُنالك إجماعٌ تام بين الطلاب وفِي الصحافة والمجتمع مُؤيِّدٌ ومتعاطفٌ مع إسرائيل بعد أكتوبر ١٩٧٤، كانت إسرائيل بالنسبة للبريطانيين والغرب بؤرة الضوء التي تشع منها الدِّيمُقراطيَّة في محيطٍ عربيٍ ديكتاتوريٍ ومُتخلف، لكن إذ يكسب الفلسطينيون تعاطُفاً كُلَّ يوم، ينحسر مدَّ الرَّفض لانتهاكات إسرائيل الواسعة والمستمرَّة.
لم تلتبس المواقف علي جاك استرو كما التبست على فرانسوا ميتران حين رآها أرض واحدةُ وشعبين. لم يتردَّد السياسي البريطاني المرموق ولم يزور كما أزور سارتر وفوكو ولم تهتم سيمون دي بفوار، كان العالم حتى في أميركا قد نفذ صبره.. عندنا أضحت السياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة أكثر تعبيراً عن همِّ إسرائيل من مصلحة الشعب الأمريكي، لكن أزور الفرنسيون لأن ذكريات المحرقة وأعمال الإرهاب وطقوس التوارة وقصصه ما تزال ماثلة.
وسوي أنه ناقدٌ فريد للأدب انتقل به في سلاسة وعمق إلى الفلسفة والأنثروبلوجيا ثمَّ إلى السياسة، فاجأ إدوارد سعيد غالب قُرَّائه الذين كانوا يظنون أنه عازفٌ جيد للبيانو، عندما صدر له كتاب “المفارقات والنظائر”، واكتشفوا مدى عُمق إلمامه بالموسيقي لدرجة الحوار المُتوازي المتساوي مع الموسيقي الإسرائيلي المُختص دانيال بورنبويم، وإذ أنَّ الحوار في أصله هو مداولة نادرة للعلاقة بين المُوسيقي والمُجتمع، لم تكن القضيَّة الفلسطينية غائبة، بل حاضرة لدرجة المُقارنة بين النوتة الموسيقية ووثائق أوسلو، فرغم أن برنبويم يُعَدُّ في الطبقة الأولى للموسيقيين العالميين وأهم قائد أوركسترا في العالم، فقد اعتاد على تحدي إسرائيل والعزف في رام الله، والتعبير عن أمله بوصفه فناناً ويهودياً حقيقياً في سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكما صُدِمَت الأوساط الثقافيَّة بالخبر الذي نشرته ‘لندن رفيو’ عن منع السُّلطة الفلسطينيَّة توزيع كتب إدوارد سعيد، رُوِّعت ذات الأوساط بتحريم الصهيونيَّة لأعمال بورنبويم لأنه قدم إلى جانب أعمال بيتهوفن وموتسارت أعمال للموسيقي الألماني الفذ ريتشارد فاغنر، لأنَّ هتلر كان يُحِبُّ موسيقاه، ورغم أنه أسلم رُوحه عام ١٨٨٣قبل عُقود طويلة من ميلاد هتلر، فقد كان اعتراض إدوراد سعيد الأساسي على ياسر عرفات أنه حوَّل منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تجسِّد روح الشعب المقاوم إلى جهاز أمني، وكان اعتراض بورنبويم على الصهيونيَّة هو تجاهُل الهُوَّة التي لا تُحتمل بين وثيقة الاستقلال ومواصلة الاحتلال، بين الشعب اليهودي الذي يحفل تاريخه بالمُعاناة وبين اللامُبالاة إزاء معاناة شعبٍ آخر.
نواصل…