آل بوربون في السودان… أصل الأزمة
كتب: فائز السليك
.
أصبح آل بوربون المساكين مثالاً لتكرار التجارب الفاشلة، وصارت سمعتهم أسوأ سمعة عبر تاريخ البشرية، ربما لأن الفرص تكررت لهم مرات عديدة، وابتسم الحظ لهم أكثر من مرة، إلا أنهم لم يتعلموا من الدروس شيئاً ولم ينسوا من بؤس أفعالهم شيئاً.
وآل بوروبون سلالة قوم أوروبية أصولها في فرنسا واسبانيا، وحكمت عدة دول انطلاقاً من المنطقة التي تحمل اسمهم، ومع أن الفرصة سنحت لهم قبل نجاح الثورة الأولى وفترة نابليون بونابورت، ثم عادوا بعده للحكم ، إلا أنهم عادوا بذات سلوك المترفين، والمنفصلين عن واقع المواطنين، فكانت نهايتهم المستحقة هي السقوط المدوي.
ونحن في السودان نجحنا في اسقاط الفريق عبود، في ثورة أكتوبر المجيدة في سنة ١٩٦٤، لكن فشل قادتنا في الحفاظ على الديموقراطية، وشهدت الفترة خلافات وصراعات وصلت حد ابطال قرار المحكمة الدستورية، وكانت النتيجة المفجعة التخطيط مع العسكر في مايو ١٩٦٩ بواسطة الحزب الشيوعي السوداني ومجموعة من الناصريين والعروبيين، وبعد ستة عشر عاماً انتصرنا على آلة نميري القمعية لكنا سلمنا السلطة للعساكر بانقلاب خططت له ونفذته الجبهة الإسلامية القومية في عام ١٩٨٩، فأذا قتنا المرتين لأننا لم نتعلم شيئاً ولم ننسى كذلك.
اليوم بلغنا المنعطف، ودخلنا حافة الهاوية، وأصاب الصمت قادة أحزابنا بعد أن وصلت الأمور الى طريق مسدود، وعطل السيد رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، كل مؤسسات التواصل ما بين المكونين العسكري والسياسي.
مجلس السيادة لا ينعقد لأن الفريق البرهان، لا يود الجلوس الى جانب عضو المجلس السيادي محمد الفكي، ومجلس الشركاء الذي ولد بلا روح لا يتذكره أحد من أعضائه، ومؤسسات الحكم الأخرى لا يمكن عقدها لأن الجميع لا يطيق بعضهم البعض، أي المسألة مسألة حب وكراهيةّ.
والقوى السياسية تعيش حالة تشظي داخلي حد يصل أن يشارك وزراء حكوميون في مظاهرات تهدف إلى حل الحكومة، أو ليس من الأجدر أن يستقيلوا أولاً؟ لماذا تشارك في حكومة وتعتبرها فاشلةً؟
يذكرني واقع شركاء الحكم اليوم موقف طيبة الذكر ” الحركة الشعبية لتحرير السودان” أيام اتفاقية السلام الشامل، وأيام شراكتها مع “المؤتمر الوطني”، واليوم لا يختلف موقف الدكتور جبريل، وزير المالية والسيد مناوي، ذات المواقف القديمة، والتاريخ يعيد نفسه في السودان.
يشاركون في الحكم ويقفون ضده، يريدون اسقاط الحكومة ونصرة المعارضة ولو شمل ذلك معارضة الفلول التي تبتسم ساخرةً من عبث المشهد.
ولو دققنا في جذور الأزمة الحالية لوجدنا أن كل ما يجري لا يعدو سوى تجليات ونتائج لسبب مباشر، وهو رفض المكون العسكري قبول اتفاق تسليم رئاسة المجلس السيادي الى السلطة المدنية، وأن تتم عمليات هيكلة الجيش السوداني وبناء جيش قومي واحد وعلى أسس وطنية وعقيدة قتالية جديدة.
وتشمل إعادة الهيكلة كذلك جهاز المخابرات وقوات الشرطةـ وفق ما نص الوثيقة الدستورية التي أكدت على مدنية الجهازين باعتبار أن المخابرات جهاز لجمع المعلومات وتحليلها وتقديمها لجهات اتخاذ القرار السياسي والتنفيذي، وحددت الوثيقة تبعية الجهاز الى السيادي ومجلس الوزراء، إلا أن الوثيقة أكدت أن الشرطة تتبع لمجلس الوزراء واعتبرتها مؤسسة قومية وطنية مهمتها تنفيذ القانون.
إن المعركة صارت جلية، ويكشفها تعنت قادة المكون العسكري وتشدد تصريحاتهم وتحويل المعركة الى مواجهة بين الشعب والجيش، في وقت يدخل فيه مناوي وجبريل الى حلبة الصراع مع مكونات من أحزاب السلعلع السياسي، التي نبتت فجأةً وظهرت كما اللبلاب تتسلق فوق حوائط المشهد السياسي.
يبدو للمراقب البعيد أن المشهد السوداني مشهد عبثي، إلا أن هذا العبث يمثل انعكاساً لأزمة الدولة ومشروعها الوطني منذ استقلال السودان، أو خروج المستعمر الذي ترك دولةً هشة وفاشلة، وقابلة للتشظي ، وهي مثل كرة الرمل، كلما هبت عليها العواصف، أو تدحرجت تفتت.
وما نشهده اليوم من عبث وتدحرج كرة لهب، يعبر عن فصل من فصول مأساة طويلة وممتدة.
ولذلك لن يصلح الحال ما لم نجد حلاً جذرياً، وتبني حوار وطني عميق حول هويتنا ، ومن نحن؟، وهو ما قادنا إلى هذا الوضع المأزوم.
نحن نتاج فكر مأزوم، أي نحن مواليد الأزمة، فكان أن صار تفكيرنا مأزوماً، وظللنا نتأرجح فوق مقصلة تفكير الأزمة، وأزمة التفكير، وعلينا الاعتراف بأن الدولة السودانية الحالية، دولة فاشلة، وإن كانت دولة ألبسها الاستعمار ثوب الحداثة لتحقيق مصالحه، ولما خرج تركها كما هي، فورثها من بعده من رأى أنها تحقق له مصالحه، وتعبر عن رؤاه، وتصوراته، ثم تحولت إلى دولة مهترئةٍ.
لكن قبل الشروع في حوار حول مشروع الحوار حول القضايا الاستراتيجية؛ يتطلب الحال اجراء حوارٍ عاجل، والبحث عن ألية أو جسم صغير من الحكومة لإدارة الأزمة، ويمكن أن يضم الجسم مثلين للمجلس العسكري، مجلس الوزراء وقوى الحرية والتغيير والطرف قوى سلام جوبا.
لن يكون هناك حلاً من غير وضع خارطة طريق بمصفوفة زمنية واضحة وملزمة تجاوب على أسئلة مهمة مثل تاريخ تسليم المكون العسكري السلطة للمكون المدني مع الإبقاء على الشراكة مع الجيش والقوات النظامية حتى اجراء انتخابات عامة، وأن تكون أدوار الشركاء معروفة، وخطوط المشاركة بينة وفق ما جاء في الوثيقة الدستورية حرفيا، على أن يتم تحديد زمن الانتخابات، والبدء في تشكيل المفوضيات ووضع خطة لتكوين المجلس التشريعي.
يجب أن تبدأ عملية تكوين المفوضيات بمفوضية العدالة الانتقالية حتى تساعد في خفض درجات التوتر الحالية، وتحقيق مصالحة اجتماعية في المستقبل على طريقة جنوب أفريقيا أو التجربة الرواندية حتى نوقف شلالات الدم، والموت الرخيص، والقتل خارج القانون، وأن تنتهي مرحلة الحصانة من العقاب.
إن هذا الشعب جدير بحق الحياة، وأن يوجه طاقاته نحو البناء والتعمير لا تفريغها في المشاحنات والمشاكسات والصراع والقتال ونشر خطاب الكراهية والعنصرية، إن طي صفحات الاحتراب لا تتم الا عبر تحقيق مصالحة شاملة ووئام اجتماعي، واتفاق على البناء والنجاح.
أما موضوع توسيع قاعدة المشاركة، فيجب أن تضع لجنة إدارة الأزمة معايير توسيع قاعدة المشاركة، والتي يجب أن تشمل قوى الثورة الحية، مثل لجان المقاومة، اللجان في المؤسسات الحكومية والخاصة، النساء؛ مع ضرورة تنازل قوى الحرية والتغيير عن مقاعد من نسبتها لصالح توسيع دائرة المشاركة حتى تكون قاعدة صلبة لحماية الثورة، وليست فرصةً لتقسيم الغنائم والوظائف، وأن لا يكون حصان طروادة لدخول فلول البشير عبره لتقويض الانتقال الديموقراطي.
على مستوى شعبي أقترح أن تشرع لجان المقاومة في عملية اختيار ممثليها للمجلس التشريعي على المستويين الإقليمي والمحلي حتى تنجح قوى الثورة في سد ثغرات يعمل الفلول للتسلل عبرها.
يجب أن لا تكون الحلول الاسعافية حلولاً تخديرية، أو عملية جراحية سطحية تغطي الجراح دون أن تنظفها أو تزيل أسباب الأوجاع الحقيقية، ويجب أن ندرك أن الخروج من عنق الزجاجة بداية السير نحو مفهوم التغيير الحقيقي.
يتطلب التغيير مشروعاً نهضوياً، وتنويرياً، إن كل تجارب الشعوب تؤكد ان التغيير رهين الاستنارة والنهضة، والانعتاق من كهوف العقول المظلمة ، ومن سبات الأزمنة الراكدة، فلا يمكن أن تنجح ثورة في تحقيق أهدافها من غير رؤى قوية، تفتح النوافذ نحو المستقبل مشرعةً بالأمل.
مثلما فعلت أوروبا بعد انتكاسة القرون الوسطى، وعصور الظلام، وسيطرة اللاهوت والكهنوت على أمور السياسة والمجتمع، فانتشرت صكوك الغفران ، في أكبر عملية تزييف للوعي بعد أن تواطأت الكنيسة مع الأباطرة.
ولزاماً أن يحمل مشروع التغيير في طياته ثورةً ثقافية، واجتماعية، والثورة الثقافية هي رافعتنا الوحيدة ؛من هوتنا السحيقة التي تدحرجت في داخلها دولتنا ، وهي ثورة تعني بالتعدد العرقي والديني واللغوي، يجعل كل منا معتزاً يثقافته، ومحترماً لثقافة الغير، يتحدث بلسانه أو أي لسان يريد طالما له حرية الاختيار.
التغيير هو أن نحتفي بتنوعنا التاريخي ، وتنوعنا المعاصر، احتفاءً عملياً، فعلاً لا قولاً، بأن الوحدة في التنوع، وأن القوة في التعدد، وأن منصة انطلاقنا في عملية التأصيل هي حضاراتنا العريقة، في مروي وكوش، والمقرة ، وسوبا، والبجراوية، والمصورات، وسنار، والفور، والمسبعات، وتقلي، والوقوف في كل شرفات التاريخ المضيئة، في انتصارات بعانخي وتهراقا، وتسامح النوبة مع الوافدين الجدد من العرب العاربة والمستعربة، وتسامح المسيحية مع الإسلام، وبسالة أنصار المهدي في كرري.
يقيني أن التغيير الكبير لن يتحقق ما لم نتجاوز ازمتنا الحالية، التي تحتاج إلى أشخاص شجعان يبادرون، يطرحون، يخترقون الحواجز، وأن تكون المبادرة من أجل الوطن لا من أجل حزب سياسي أو نخب اجتماعية معينة. المؤكد أن بديل سيناريو الحوار سيكون سيناريو المواجهة، طالما تم اغلاق كل الطرق.
.