أزمة القيادة والتدريب (2 – 2)
كتب: د. النور حمد
.
أود في هذه الحلقة الثانية والأخيرة، من مقالي حول أزمة القيادة والتدريب في بلادنا، أن أسلط الضوء على بعض النماذج الدالة على هذه الأزمة المستفحلة. من ذلك، على سبيل المثال ما يظهر من سلوك من يفترض أنهم قادة، فيما تنقله إلينا شاشات محطات التلفزيون من اجتماعات، ومحاضرات، ومؤتمرات صحفية. المتوقع في أتون جائحة فيروس كورونا الراهنة، أن يضرب القادة، حين يظهرون على شاشات التلفزيون، المثل الأعلى في الاحتراز، من حيث ارتداء الكمامات والتزام التباعد الجسدي. لكن أكثريتهم فيما يظهر لنا، مرارًا وتكرارًا، لا يلقون بالاً لذلك. شاهدت قبل أيام اجتماعًا جرى لمسؤولين في قاعة كبيرة، في واحدة من ولايات السودان. كانت في القاعة مئات المقاعد، وكان حضور اللقاء بضع عشرات. جلس هؤلاء العشرات كلهم في المقاعد الأمامية متلاصقين. وكانت أكثريتهم لا ترتدي كمامات. هذا في حين كان في وسعهم أن يتوزعوا على المقاعد الكثيرة الفارغة، بحيث يكون هناك تباعد كاف بين كل فرد وآخر.
ما وصفته أعلاه، يمثل نموذجًا من نماذج أزمة القيادة غير المدركة لدورها. فالمسؤولية هنا تقع، في تقديري، على الشخص الذي دعا إلى الاجتماع، الذي من المفترض أن يكون على وعيٍ تامٍّ بضرورة أن يجري اللقاء وفقا لضرورات السلامة. فالقيادة المدركة لا تترك إنفاذ الضوابط للجمهور، إن شاء التزم بها وإن شاء لم يلتزم. من واجب من نظموا ذلك اللقاء أن يستبقوه بالتخطيط لكل ما يمكن أن يضمن سيره وفقا لضوابط السلامة. من ذلك، على سبيل المثال، أن يجري الفصل بين كل مقعد للجلوس وآخر، بمقعد مكتوب عليه، بوضوحٍ، “ممنوع الجلوس”. هذه الوضع يضمن أن الناس سيجلسون متباعدين، بدلا من ترك الأمر للتقديرات الشخصية للحضور. ومن سافر هذه الأيام يلاحظ أن كثيرًا من المطارات تضع بطاقات تمنع الجلوس بحيث لا يجلس شخصان إلا وبينهما كرسي فارغ ليصبح فاصلا، مكتوب عليه “ممنوع الجلوس”. يجري ذلك أيضًا في المتاجر، في البلدان التي تدير مرافقها قيادات كفؤة منتبهة. فهي تقوم برسم دوائر على الأرض. تبعد كل دائرة منها عن الأخرى بحوالي ستة أقدام، وذلك لضمان أن يقف الزبائن متباعدين، حين يصطفون أمام مخارج الدفع.
يمثل مطار الخرطوم، وحالته البئيسة الرثة، التي بقي عليها لأكثر من سبعين عامًا، أفضل النماذج التي تعكس أزمة القيادة في الدول السودانية. ولا تقع مسؤولية بؤس ورثاثة مطار الخرطوم على المسؤولين المباشرين عنه، وإنما على كبار المسؤولين في الدولة، عبر مختلف فترات الحكم. ولأن كبار المسؤولين يعبرون من قاعة كبار الزوار، حيث لا يعانون رهقا، فلربما قام في خلدهم أن صالات الجمهور ومرافقها المختلفة، لا تعنيهم في شيء، ما داموا غير معرضين للمرور من خلالها. تطالعك أزمة القيادة في مطار الخرطوم لحظة أن تترك البص وتدخل الصالة لتتجه إلى ضباط الجوازات. فما أن تدخل من المدخل الرئيس، تجد أمامك صالة فارغة. هذا في حين تضع كل مطارات العالم حواجز لخلق ممر متعرج لا يتسع لمرور أكثر من شخص. لهذا الممر المتعرج مدخل واحد، يفرض على القادمين أن يسيروا في شكل طابور واحد، فلا تحدث هرولة أو تدافع، إلى أن يصل المسافر القادم إلى ضابط الجوازات. وعادة ما يكون هناك أشخاص مسؤولون يقفون بين نهاية الممر المتعرج ومنافذ ضباط الجوازات، لمراقبة اتباع النظام، وأيضًا للإرشاد إلى “الكاونتر” الذي فرغ من مسافر قادم، وأصبح جاهزًا لاستقبال آخر. أما المراحيض النتنة، والسرقات المتكررة من حقائب القادمين، فتضع القيادة في مطار الخرطوم، من حيث القدرة على المراقبة والمحاسبة والقدرة على التحسين، في خانة الصفر. هذه مجرد نماذج لا تعطي الصورة الكلية لدولتنا التي يغلب على إدارتها لشؤونها، الارتجال و”الكلفتة”، والدوران في دوامة من العجز المستدام. فأصل العلة هو وصول من تعوزه الملكات القيادية، ولم ينل تدريبا يُعتد به، إلى موقع القيادة، وما أكثر هؤلاء في كل مرافقنا الحيوية.