أعط وجهاً للأذى: واغرورقت عيون مستر زاكي الدين بالدموع
كتب: د. عبد الله على إبراهيم
.
لم اتحقق من اعتزال معارضة الإنقاذ، التي في سدة الحكم الانتقالي الآن، للصورة في إعلامها مثل ما تحققت من موقف للجنة إزالة التمكين أخذته عليها. فجاء في أحد مؤتمراتها الصحفية أنها صادرت طائرة مملوكة للمؤتمر الوطني. ولم تشفع ذلك بفيديو لها في حركتها وسكناتها. ولم أرغب في ذلك رفعاً للشك في حقيقة الطائرة بل ليطمئن المشاهد فضلاً عن النفاذ بعيونه إلى تمرغ المترفين في الفسق. وكانت الدكتورة لندا دق، أستاذتنا في علم الحكاية الشعبية بجامعة إنديانا، تحدثنا أن الأحاجي (المعروفة عندهم بالسحرية) هي سبيل الفلاحين للطلة على عوالم سلاطينهم الرطيبة.
يستغرب المرء لبخل معارضي الأمس حكام اليوم بالصورة في عهدنا الديجتالي المعاصر. وقد بلغت الصورة من الأسر في حياتنا حتى أنني قرأت لمسلم هنا يود لو راجع المسلمون تحريمهم تجسيد أفضل البشر في صورة. وكانت حجته أن من شأن ذلك حرمان أطفال المسلمين في أمريكا وغيرها من رؤية صورة لنبيهم كما يري غيرهم أنبياءهم عن طريق مورد الصورة الذي لم يعد منه فكاكاً لتمام العلم. وزاد بقوله إننا لم نحرم على الكتابة تصوير النبي في أحسن صورة ما شاء ركبه لمّا كانت هي وسيط التعبير الوحيد.
وبلغ قصورنا عن توظيف الصورة حداً أن أكثر وثائقياتنا تأثيراً منذ الثورة كانت تلك التي استقت مادتها من أرشيف الإنقاذ. فمنها تلك التي انتجها إنقاذيون بتلفزيون السودان على عجل للطعن في الثورة ثم حجبت. وكذلك التي انتجتها قناة العربية باسم “الأسرار الكبرى” وخامتها أرشيف إخواني خالص.
تعطي الصورة وجهاً للأذى كما لا تفعل غيرها. فالصورة الواحدة تعادل ألف كلمة في تأثيرها (a picture is worth a thousand words).. وهي مود نهدره فتتسرب النظم المستبدة من بين أيدينا وشرورها قول لا بصمة. فليس بوسع أي منا اليوم إقامة معرض لأذى عبود أو نميري في الوطن لأننا أطلقنا لساننا فيهما ولم نقيد استهانتهم بالوطن بالصورة.
تواردت عليّ هذه الخاطرات وأنا أقرأ للدكتور موسى عبد الله حامد الجزء الثالث من كتابه “مستشفى أم درمان”. وفيه وجه تغضن بأذى الإنقاذ حد الثمالة. وهو وجه مستر زاكي الدين أحمد حسين زاكي الدين الجراح المسمى ممن سارت بحسن أحدوثته الركبان. قال موسى إن زاكي الدين، مدير مستشفى ابن سينا ورئيس مجلس إدارته، طلب منه، وهو زميله وتلميذه في وقت معاً، في إول عهد الإنقاذ أن يحضر إليه ضحي ذات يوم. وسأله موسي عن السبب. فأجاب:
-أنا عاوزك في موضوع مهم جداً الآن.
وقرأ موسي من صوت زاكي الدين المتهدج أن الأمر نكد.
لما دخل موسى على زاكي الدين وجده مثقل الخاطر مغرورق العيون بالدمع. فاستعجل موسي أستاذه أن يطمئنه عليه. فقال:
-أجلس سأقص عليك كل شيء. أرسلت لي الوزارة طبيباً صغير السن كمدير طبي تحت إمرتي. ولكنه بدّع. فاستحوذ على كل شيء. فصار يحرك عربات المستشفى مثلاً كيف شاء لا يرجع لي فيه. ولم تغباني الرسالة من تعيين الفتي. فلقد أرادت السلطات الصحية بإرساله أن تدفعني دفعاً للاستقالة لأنها تعلم أن أمثالي لا يقبلون بمثل هذه الإهانة. ومتى استقلت وتركت المستشفى طوعاً تظل يدها بيضاء من غير سوء. ولم تكتف سلطات الصحة بتحريج حال زاكي الدين بفتاها المدلل بل عقدت له مجلس محاسبة على منصرف مالي ما برئاسة من هو دونه منزلة في المستشفى.
لم يخف على موسى أن زاكي الدين كان بحاجة إلى أذن تصنت له. فلم يكن موسي أقرب تلاميذه اليه ولا أصدق أصدقائه. ويبدو أن الاختيار وقع عليه من باب كلنا في الهم شرق. فموسي نفسه كان وقتها طريد مستشفى أم درمان التي كان مديرها وفي غمرة مشروعات عمرانية تكاد تبعثها مؤسسة صحية من العدم. فنصح موسى أستاذه وزميله أن ينأى بنفسه من بيئة صارت للئام. وأرغى صدر موسي بالغيظ من دناءة الإنقاذ تعرض أستاذه لمجلس تأديب على سدته من دونه في الدرج الوظيفي. فخرج من حدود لياقة المؤاساة إلى الأمر بقوله ألا يعرض نفسه على مجلس التأديب مطلقاً.
استمع زاكي الدين لموسى طافر الدمع يزود عنه بمنديل من ورق تارة وبآخر قماشي حسن النسج والتنميق. وعاج على درج في مكتبه وأخرج ورقة قرأ لموسي منها استقالته. ولم تتأخر وزارة الصحة في قبول ما كانت تنتظره منه، أو ما أرادته منه. وما سمع تلميذه مامون حميدة، مدير جامعة الخرطوم وقتها، بخبر فصله-استقالته حتى أعاده للتدريس بكلية الطب.
سينما يا موسي. وهي عبارتي كلما قرأت ما بدا لي سيناريو مثالياً لعمل درامي
*رحم الله بروف زاكي الدين الذي أشرف على علاج الوالد في منعطف أخير من العمر رعاه أخي المرحوم زين العابدين. نسأل الله لهم جميعاً الرحمة وأن يسكنهم عالي جنانه.