أنظمة العسكر المَلَكِيِّة الجديدة

0 124
كتب: د. النور حمد
انبثق فجر الحداثة وانداح ضوءُه في سماوات الكوكب، بعد نضالاتٍ مريرةٍ خاضتها أوروبا لقرون طويلة، خرجت بها من قبضة تحالف الملكية والكنيسة والاقطاع. فتحت تلك النضالات الجسورة الباب للتقدم المعرفي والعلمي والصناعي والتنموي. أهلَّ فجر الحداثة، وما لبث أن انتشر، عبر الاستعمار، إلى جميع بقاع الأرض. عبر بضعة قرون تقلصت الأنظمة الملكية وتحول بعضها إلى ملكيات دستورية، يملك فيها الملك، ولا يحكم. ولم يبق الآن من الأنظمة الملكية القُحَّة في العالم الآن إلا ما نراه في الدول العربية.
شهد العقد الثاني من القرن العشرين الثورة الشيوعية، التي انداحت لاحقًا لتشمل الصين وكوبا. وشهدت ثلاثيناته صعود النازية والفاشية، في كل من ألمانيا وإيطاليا. أما النصف الثاني منه، فقد شهد انقلابات عسكرية في كثير من دول العالم النامي، بعد خروج الاستعمار. كشف انهيار الشيوعية أن قيادة الحزب الشيوعي لم تكن سوى هيئة ملكية حاكمة، فاشلة. أما الصين، فقد حولت الحزب الشيوعي إلى ملك هي الأخرى. لكنها حققت نجاحًا اقتصاديًا واجتماعيًا وتقنيًا، غير مسبوق في تاريخ العالم. ومعلومٌ أن لكل بلدٍ ظروفه الخاصة التي تفرض عليه نموذجه. وليس كل نظامٍ ديكتاتوري أو ملكي تقليدي، هو بالضرورة نظامٌ فاشل. وليس كل نظام ديموقراطي هو بالضرورة نظامٌ ناجح. وينبغي أن نحاكم كل نظامٍ في السياق الخاص به. لكن، تبقى الديمقراطية هي النهاية التي لا مفر منها.
النقطة المركزية لهذا المقال هي أن الأنظمة العسكرية العربية تحوَّلت إلى ما يشبه الأنظمة الملكية، وإن كانت بلا ملكٍ متوَّج. تجلس على رأس هذه الأنظمة القيادات العسكرية التي أصبحت المالك للموارد، بصورةٍ شبيهةٍ للأنظمة الملكيَّة الخليجية. أصبحت المؤسسات العسكرية، كما في مصر والسودان، تايكونات اقتصادية، تمنح الشعب مكرمات لتكسب رضا الشعب وتسليمه، مثلما يفعل الملوك، وإن أبى، فهي تعرف كيف تهدد أمنه و”تسوِّد عيشته”. وتسعى الأنظمة الملكية الخليجية، حاليًا، لنشر نموذجها عبر الجيوش فتصبح أسرًا مالكةً بصيغة جديدة. فحيث الدولة غنية والشعب مطيع، كما في الخليج، يستمر النظام ملكيًا قحًّا. وحيث يكون الفقر وروح التمرد الشعبي، يصبح النظام مَلَكِيَّةً عسكرية.
بعد نجاح الثورة دعم الفريق أول حميدتي الاقتصاد المنهك بحوالي مليار دولار. وأعقب ذلك بفترة تصريح لوزير المالية قال إن منظومة الصناعات الدفاعية وافقت على رفد الاقتصاد بـ 2 مليار دولار، من عائد صادرات مسلخ الكدرو. فهل يمكن لدولة تتلقى من مؤسستها العسكرية 3 مليار دولار تستطيع أن تكون شيئًا بإزاء تلك المؤسسة العسكرية؟ ألا يُحوِّل ذلك المؤسسة العسكرية إلى مَلِكٍ متوج، والحكومة المدنية إلى خيال مآتة، والشعب صاحب السلطة إلى مجرد رعايا؟ لقد أحدث نظام البشير خللا هيكليًا فادحًا في نظام الدولة السودانية. ولكي نضع البلاد على الصراط المستقيم، لابد من وضع جميع أوراق اللعب على الطاولة. ثم نتحاور بناءً عليها، حول مستقبل بلادنا، بوطنيةٍ صادقةٍ وبتجرد وبعقلانية. يمكن للجيش أن يكون له ذراعٌ اقتصادي، لكن تحت رقابة المال العام. فالوضع الذي صنعه البشير، لشيءٍ في نفس يعقوب، معوجٌّ بكل المقاييس. أما محاولة الخليجيين نقل نمطهم إلى السودان فلن تنجح، لأن طبيعة السودان التاريخية والبشرية والثقافية والمزاجية، لا تسمح بهذا النمط. وهو، على كل حالٍ، نمطٌ غارب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.