إدمان الرهان على الحلول الخارجية (2)
كتب: د. خالد التجاني النور
.
(1)
خلصنا في المقال السابق إلى استمرار وطأة التاثير الخارجي في تشكيل كيان الدولة السودانية الحديثة على مدار القرنين الماضيين، وتجلي ذلك في إدمان النخبة السودانية على البحث عن حلول خارجية للأزمة الوطنية، ونواصل هذه القراءة بالتأكيد على أن النخبة العسكرية، وهي أيضاً وليدة هندسة الاستعار البريطاني، كحل النخبة المدنيةليست براءاً من داء العجز عن مواجهة استحقاقات تحديات بناء الأمة السودانية والمشروع الوطني الجامع بالهروب إلى الأمام متدثرة بأوهام “فرص”باستدعاء التدخلات الأجنبية لتقديم حلول سحرية لن تكون ممكنة ولا مجانية على الإطلاق.
(2)
ولا شك أن المؤسسة العسكرية تتحمل المسؤولية الأكبر بحكم هيمنتها الكاملة على السلطة لأكثر من نصف قرن، هي غالب سني الاستقلال، ولم تكن هذه النخبة العسكرية تجد حرجاً في عقد صفقات سياسية بروافع أجنبيةمن أجل ضمان الاستمرار في احتكار السلطة، كانت في الغالب خصماً على اعتبارات للسيادة الوطنية، وعلى المصالح السودانية في المحصلة، كما أنها تتحمل جزءاً من المسؤولية في تجريف العمل المعارض ودفع القوى السياسية لالتماس دعم العمل المعارض من الخارج، وإن كان ذلك ليس مبرراً كافياً لأن تستسلم بسهولة لغواية الاستنصار بقوى أجنبية، تلك التي لن تكون حسنة النية بأي حال من الأحوال.
(3)
تحرص المؤسسة العسكرية دائماً على تكريس صورتها كحامية للمصالح الوطنية بامتياز، وتقديم التضحيات في سبيل ذلك، ولكن الممارسة العملية للنخبة العسكرية التي تعاقبت على دست الحكم خلال أكثر من خمسين عاماً تحتاج إلى فحص دقيق لأقتباسها، كما لا يستطيع الجيش كمؤسسة أن يتنصل عن تحمل تبعات الأنظمة الشمولية ظلت تستند على شرعية احتكاره للقوة، وتوظيفها لصالح ترجيح مواقف نخبته القيادية في لعبة السلطة، والقبول بهذا الدور لا يعفي المؤسسة العسكرية من تحمل المسؤولية عن دورها في توفير غطاء سيطرة سيطرة نخبته على السلطة، وتوظيفها لتمرير هذه الصفقات على حساب الصالح العام، وللمفارقة أن هذا لم يحدث في عهد عسكري واحد، بل كان ديدنا تكرر خلال كل الأنظمة الشمولية التي حكمت السودان.
(4)
حدث ذلك في عهد الحكام الجنرالات، ففي عهد الجنرال عبود تمت اتفاقية مياه النيل في 1959، وفي عهد الجنرال نميري تم تدشين التعامل مع إسرائيل باعترافه باتفاقية كامب ديفيد،ثم في مطلع الثمانينيات بلقاء شارون ولحقها بتهريب الفلاشا، وحدث كذلك في عهد الجنرال البشير الذي انخرط في الحرب الأمريكية على الإرهاب منذ العام 2000، وأيضاً باتفاقية نيفاشا 2005 التي أدت إلى فقدان البلاد لوحدتها الترابية وتقسيم السودان تحت سمع وبصر ومباركة المؤسسة العسكرية، والخيط الناظم بين كل هذه الصفقات أنها تمت تحت قيادة حكام عسكريين. ولم تحقق أياً من مصلحة وطنية معلومة للسودان، وذهبت كل الوعود البرّاقة التي تم تبرير كل هذه “الفرص المتوهمة” تحت لافتتها إدراج الرياح، والآن يتم إعادة تسويق هذه السيناريوهات نفسها تحت عنوان فضفاض باسم المصالح السودانية، التي لو كان تحقق منها شيئاً واحداً في المرات السابقة لما كان هذا حال البلاد اليوم التي لا تزال تتسول المساعدات، وتقدم التنازلات تلو التنازلات بلا مقابل، جرياً وراء سراب حلول خارجية ثبت بوارها تحت ظل ثلاث أنظمة عسكرية سابقة.
(5)
وبهذه الخلفية فإن أي محاولة للمضي قدماً في هذا الطريق الذي ثبت بواره باستمرار، لا يعني سوى أن النخبة السودانية، بجناحيها العسكري والمدني المؤيد لهذا النهج، لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً، وتصر على تجريب المجرب، وتتوهم أنها ستأتي بما لم يأت به الأوائل. ولا نحتاج للحديث عن اهتراء وضعف بنية الطبقة الحاكمة اليوم وعجزها عن الوفاء بمهام الفترة الانتقالية واستحقاقات الوثيقة الدستورية، وهو فشل ذاتي ناجم عن عدم القدرة على تقديم النموذج القيادي المؤهل لتمثّل تطلعات التغيير وتجسيد قيم الثورة، وتفجير طاقات الاقتصاد السوداني، وبدلاً من أن تواجه هذا العجز بشجاعة، والعمل على تصحيحه آثرت الهروب إلى الأمام بحثاً عن حل خارجي لن يكون إلا سراباً بقيعة، ولن يكون حال رهانات اليوم بأقل سوءاً من مصيرمن سبقها الذين جرى استخدامها لتمرير أجندة آنية، وسرعان ما تم التنكر لهم بعد أن تقضي المصالح الأجنبية وطرها.