على الرغم من الصُّوَر الذهنية المرتبطة بحديث الصعود الإثيوبي، والمسار التنموي الناجح نسبيًّا؛ فإن إثيوبيا تبدو وكأنها عملاقٌ ضَخمٌ قدماه من طين؛ إذ شهدت الهضبة الحبيسة -التي يبلغ عدد سكانها 110 ملايين نسمة وأكثر من 90 مجموعة عرقية- لما يقرب من ثلاثة عقود خلت، توترات عرقية، ودوافع انفصالية تم احتواؤها قهرًا وغصبًا مِن قِبَل نظام الحزب الواحد للجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي.
كانت هذه الجبهة بمثابة تحالف مسلَّح تمكَّن من هزيمة الديكتاتورية الماركسية لنظام مانغيستو هايلي مريم.
ومنذ عام 1995م، تم توطيد سلطة الحزب الحاكم؛ من خلال الاعتماد على مجموعة من الاستراتيجيات التي تضمَّنت: الترويج لرواية تاريخه النضالي، وتبنّي نظام الفيدرالية العِرْقِيَّة، وتحقيق النموّ المتسارع في ظل التسلُّطية السياسيَّة والقيادة الكاريزميَّة لمليس زيناوي خلال الفترة من 1995-2012م، وأصبحت ملامح هذا النموذج من تسلُّطية الفيدرالية العرقية واضحة بحلول عام 2015م، مع بداية احتجاجات الأورومو.
كان الدافع وراء ذلك هو خطة الحكومة الفيدرالية لتوسيع العاصمة أديس أبابا لتشمل أراضي تابعة لإقليم أوروميا، وتقسيم مجتمعات الأورومو إلى مقاطعات إدارية مختلفة. سرعان ما انتشرت مظاهر استياء شباب الأورومو، المحدودة في البداية، بسرعة كالنار في الهشيم في جميع أنحاء البلاد؛ حيث خرج آخرون -بما في ذلك الأمهرة والجماعات القومية في إقليم الشعوب الجنوبية- إلى الشوارع للاحتجاج.
لم تَستطع النخبة الحاكمة مواجهة هذه الموجة من الاحتجاجات غير المسبوقة، وهو ما دفعها للقبول بمبدأ الإصلاحات السياسية. أدَّى ذلك إلى استقالة رئيس الوزراء هايلي مريم ديسالين (2012-2018م)، وانتخاب آبي أحمد الذي ينتمي إلى قومية الأورومو. كان صعود آبي أحمد، الذي كان يبلغ آنذاك 44 عامًا، إلى السلطة، مؤشرًا على ثورة جيلية وعِرْقِيَّة في السياسة الإثيوبية.
انتقال متعثر:
أدَّت التغييرات السياسية السريعة والبعيدة المدى التي اتَّخذها رئيس الوزراء آبي أحمد طوال العامين الماضيين إلى إحياء العديد من التوترات والنزاعات القديمة، كما يتَّضح من زيادة خطاب الكراهية والدعوات الانفصالية. تصاعدت حدَّة الاشتباكات بين الجماعات العرقية الرئيسية في البلاد؛ حيث يشعر التيغراي الذين فقدوا السلطة بالاضطهاد من قبل الأمهرة والأورومو.
ويمكن الإشارة إلى عددٍ من العوامل التي أسهمت في زيادة حدَّة التوتر العرقي وعدم الاستقرار السياسي في ظل حكم آبي أحمد:
أولاً: على الرغم من أن شباب الأورومو قادوا احتجاجات عام 2015م التي جاءت بآبي أحمد في النهاية إلى السلطة، فإنَّ جبهة تحرير أورومو لا تثق كثيرًا في الدوافع القومية لرئيس الوزراء، وأنه يعمل في المقابل لصالح أهدافه السياسية الخاصة في السيطرة ودعم سلطة الحكومة الفيدرالية. لقد دفعت جائحة كوفيد-19 إلى زيادة حدَّة هذا الانقسام السياسي مع قرار الحكومة تأجيل الانتخابات إلى أجلٍ غير معلوم.
ثانيًا: اتخذت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي موقفًا أكثر صرامة في معارضتها لرئيس الوزراء آبي أحمد، حيث قدَّمت نفسها على أنها المُدافع الأمين عن نظام الفيدرالية العرقية الذي ينص عليه الدستور في مواجهة محاولات دَعْم السلطة المركزية في أديس أبابا.
ثالثًا: أدَّت هذه التوترات إلى نتائج سلبية على الصعيدين السياسي والأمني في البلاد، ولا سيما مع تزايد مطالبات الحكم الذاتي، واستثمار مناطق مهمة مثل تيغراي وأمهرة في دَعْم قواتها شبه العسكرية.
رابعًا: اتفاقية السلام الموقَّعة مع إريتريا في عام 2018م، والتي لا تزال بعيدة عن التنفيذ الكامل. لقد أشعلت هذه الاتفاقية التوترات الداخلية في إثيوبيا التي يمكن تفسيرها بسهولة من خلال متغيرات الجغرافيا والعِرْق والتاريخ. كانت الحرب بين البلدين (1998-2000م)؛ بسبب نزاعات حدودية، ولا سيما بلدة بادمي الحدودية في منطقة تيغراي، أقصى شمال إثيوبيا التي تشترك في حدود طويلة مع إريتريا.
وقد قضت محكمة أممية في عام 2002م بأن بادمي وغيرها من الأراضي المتنازع عليها تقع في نطاق السيادة الإقليمية لإريتريا. وقد قبلت أديس أبابا في نهاية المطاف بالحكم.
ومع ذلك، يرى العديد من سكان تيغراي أنه تعسُّفي وغير شرعيّ. وقد تصاعدت حدّة التوترات بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والرئيس الإريتري أسياس أفورقي. لم يكن مستغربًا أن يتم إغلاق الحدود بين البلدين. وعليه يُمثِّل التقارب مع إريتريا مخاطرةً كبيرةً سوف تؤثِّر على الداخل الإثيوبي المنقسم.
خامسًا: التحديات الكبرى التي يواجهها الجيش الإثيوبي. على مدى العقود الماضية، كان جيش البلاد القوي والمدرَّب جيدًا عامل استقرار ليس فقط داخل البلاد، ولكن على الصعيد الإقليمي. لقد عملت النخبة العسكرية في تناغم وثيق مع النخبة السياسية والاقتصادية الحاكمة. ومع ذلك، فإن الثمن الباهظ لقمع المعارضة منذ عام 2015م، والانقسامات الداخلية في الجيش على أُسُس عرقية وجيلية، ومحاولة الانقلاب عام 2019م، بقيادة فصيل في قوات الأمن، كلها عوامل أسهمت في تقويض موقف الجيش.
هذا التحدي النابع من المؤسسة العسكرية يكتسب أهميةً خاصةً بسبب تزايد اتجاهات عسكرة بعض المناطق في الداخل من جهة، وتدهور الاستقرار الإقليمي من جهة أخرى؛ إذ لا يخفي أنَّ إثيوبيا لديها نزاعات مع جيرانها مثل كينيا بسبب وجودهما المشترك في الصومال (كجزء من بعثة الاتحاد الإفريقي، والخلاف حول “مثلث إيلمي” المتنازَع عليه مع كلٍّ من كينيا وجنوب السودان في أعقاب قيام الإثيوبيين بإسقاط طائرة كينية تحمل إمدادات طبية في الأراضي الصومالية.
انتخابات إقليم التيغراي:
لقد ساءت العلاقات بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والحكومة الفيدرالية بشكلٍ ملحوظٍ؛ منذ أن رفضت الأولى الانضمام إلى حزب الازدهار الذي يتزعمه رئيس الوزراء آبي أحمد عندما تم تشكيله في عام 2019م.
وعلى الرغم من تهميش الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تحت قيادة آبي أحمد؛ إلا أنَّها لا تزال في موقع القيادة في تيغراي، التي تُشكِّل ستة في المائة من سكان إثيوبيا.
يعلن قادة التيغراي استياءهم من موقف حكومة آبي أحمد، ويتّهمونها بالقيام بحملة تطهير منهجية ضد موظفي الخدمة المدنية من أبناء التيغراي دون مُبرِّر، ويصفون المحاكمات الفيدرالية ضد مسؤولي التيغراي السابقين بتهمة الكسب غير المشروع وانتهاكات الحقوق بأنَّها غير عادلة وتَنَمُّ عن مكيدة سياسية. ويشيرون على وَجْه الخصوص إلى الاتهام الذي وجَّهه المسؤولون الفيدراليون إلى الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بقتل المغني هونديسا، بأنه افتراءٌ باطلٌ لا يستند إلى دليل.
على أنَّ قرار الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي –التي تُمثّل الكتلة المعارضة الوحيدة في البرلمان الفيدرالي– بإجراء الانتخابات الإقليمية يوم 9 سبتمبر 2020م رغم معارضة البرلمان الاتحادي يمثل أكبر تحدٍّ يواجهه آبي أحمد منذ تقلُّده السلطة عام 2018م. وقد وصفت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي الانتخابات على أنها مسألة حماية الحقوق الديمقراطية والاستقلال الذاتي. وقد ألغت الحكومة الإثيوبية الانتخابات التي كان مقرَّرًا لها أغسطس 2002م إلى أجلٍ مسمًّى وهو ما عارَضه إقليم التيغراي.
أُجريت الانتخابات الإقليمية بالفعل على الرغم من وَصْف آبي أحمد لها بأنها “مجرد تجمعات ومؤتمرات قروية”؛ حيث شارك فيها أكثر من 600 مرشَّح من خمسة أحزاب يتنافسون على 152 مقعدًا برلمانيًّا إقليميًّا، وستقرر الأحزاب المشاركة بعد ذلك كيفية تخصيص المقاعد الـ38 المتبقية في وقتٍ لاحقٍ. وبالطبع فإن المرشَّح الأكبر هو الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، التي قادت الكفاح المسلَّح للإطاحة بنظام الدرج عام 1991م، واستمرت في السيطرة على الائتلاف الحاكم الذي تولى السلطة نحو ربع قرن أو يزيد. وتواجه الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أربعة أحزاب أخرى، أحدها -حزب استقلال التيغراي– الذي يدعو في برنامجه الانتخابي إلى الانفصال وبناء دولته المستقلة.
الخاتمة: وماذا بعد؟
على الرغم من صعوبة التدخل العسكري مِن قِبَل الحكومة المركزية؛ فإن إمكانيات التسوية لا تزال قائمة. من الممكن التوصُّل إلى حلٍّ وسطٍ تُوافق فيه الجبهة الشعبية لتحرير التيغري على إجراء انتخابات ثانية بمجرد السيطرة على فيروس كوفيد-19، على أن يتم تطبيع العلاقة بين الجانبين بعد ذلك.
ومع ذلك؛ فإن الوضع الحالي بعد إجراء الانتخابات التي تعتبرها الحكومة الفيدرالية غير دستورية يمثل خطرًا حقيقيًّا على مستقبل البلاد. يمكن أن يحدث تأثير العدوى الانتخابية، وتتكرر في مناطق أخرى، مثل المنطقة الصومالية، ومنطقة أوروميا، ومنطقة أمهرة. وعلى أيّ حال سوف لا يكون أمام آبي أحمد من خيار سوى التوافق مع إقليم التيغراي. إذ على الرغم من تاريخها المستبدّ، فمن المرجَّح أن تظل الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ممسكة بمقاليد السلطة في الاقليم. ربما يرجع ذلك إلى سببين وفقًا لتحليل “إثيوبيا انسايت”:
أولاً: أنَّ الجبهة الحاكمة أظهرت التزامًا ثابتًا عندما يتعلق الأمر بما يعتبره معظم أبناء تيغراي الموقف السياسي الأكثر أهميةً، وهو الدفاع عن الوجود السياسي والحكم الذاتي لإقليم تيغراي. ومع التهديد الذي تشكّله الجماعات الوحدوية المتطرفة التي تلوح في الأفق، وتلوّح بأهداف معلنة قد تصل حد الانفصال؛ فإن الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي لا تزال تؤمن بخيار الفيدرالية العرقية.
ثانيًا: ثمة ارتباط عاطفي بين معظم أبناء التيغراي والجبهة الشعبية الحاكمة؛ حيث فقدت كلّ أسرة تقريبًا أحد أفرادها على الأقل، في النِّضال من أجل اسقاط الديكتاتورية العسكرية في البلاد. وعليه فمن غير المرجَّح أن يتم قطع مثل هذه الرابطة بسرعةٍ، وهذا بدوره يمنح الحزب مزيدًا من الوقت للتفكير في إصلاحات أكثر إقناعًا وتحظى بالقبول الشعبيّ.