الأدوية والعبث بأرواح الناس

0 70
كتب: د. النور حمد
.
إن أسوأ ما يصيب أمة من الأمم هو تخريب الضمائر حد إماتتها تماما، وقتل الحساسية وسط الصفوة المتنفذة تجاه معاناة عامة الناس. وهذا ليس جديدا، وإنما هو قديم قدم التاريخ. فقد جاء في القصص القرآني: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا”. وتحتاج هذه الآية إلى شرح كثير ليس هذا محله. الشاهد، أن نهج تدمير ضمائر الصفوة وإماتتها ظل يتنامى منذ نيل الاستقلال، وقد بلغ أوجه في فترة حكم الإنقاذ. ولا يوجد ما هو أكثر إنامة للضمائر، وإماتة لها، من المفاهيم الدينية الخاطئة. والمفاهيم الدينية الخاطئة هي ما روجت لها الإنقاذ طيلة سنوات حكمها الثلاثين، فانتهى الأمر بها إلى تحويل الحزب الحاكم وذيوله إلى أكبر سارق للمال العام في العالم. والآن، ما أكثر تمظهرات موت الضمير في حياتنا اليومية. فكل أزماتنا المتعلقة بأساسيات العيش؛ كالخبز والدواء والوقود، يمثل موت الضمير واحدا من أهم مكوناتها. ولا ينحصر موت الضمير وفقدان الحساسية تجاه معاناة الناس في حالتنا الراهنة، في كارهي الثورة وجيوشهم الناشطة بكل سبيل في العمل على إفشال الفترة الانتقالية، وإنما يمتد فقدان الحساسية وموت الضمير إلى التنفيذيين الذين أتت بهم الثورة. فالداء منقسم بين الفريقين. فلولا غفلة السلطات وقلة حساسيتها وعجزها الإداري، ما وجد المستهترون مجالا للاستهتار والعبث بحيوات الناس.
لقد انشغلت وسائط التواصل الاجتماعي والأوساط الصحفية منذ قرابة الأسبوعين بالفيديو الذي صوره سائقو الشاحنات المحملة بالأدوية التي ظلت تنتظر التفريغ جنوب الخرطوم، لما يزيد عن عشرة أيام. غير أن المسؤولين لم يتحركوا سوى قبل بضعة أيام. فقام السيد عمر مانيس بزيارة الصندوق القومي للإمدادات الطبية، كما قام الدكتور عبدالله حمدوك بإقالة مديرة الصندوق. وما دام أن تقصير المديرة قد ثبت بما برر إقالتها، فلماذا لا تقدم ضدها وربما بعضا ممن حولها من مرؤوسيها تهما جنائية؟ فالذي جرى فيه تلاعب صراح بأرواح الناس.
تعللت إدارة الصندوق القومي للإمدادات الطبية بأنها غير قادرة على استيعاب الشحنات الجديدة لنفاد السعة التخزينية لديها. فإذا كانت أرفف الصيدليات فارغة والناس في طول البلاد وعرضها يشكون لطوب الأرض من انعدام الأدوية، بما في ذلك الأدوية المنقذة للحياة، فما الذي يجعل مخازن الإمدادات ممتلئة؟ هل يحجزون الأدوية في المخازن لتستفحل الأزمة؟ ولماذا لم تحدث مشكلة التخزين هذه طيلة السنوات الماضية؟ لماذا حدثت الآن بالذات؟ ونحب أن نذكر الصندوق القومي للإمدادات الطبية أنه سبق أن تفاخر في سنة 2017 أنه زاد السعة التخزينية بمقدار 46 ألف متر مكعب بتكلفة بلغت 174مليون جنيه. والسؤال الأخير: ألا يعلم الصندوق أن هذه الأدوية قد تحركت من البلاد التي أتت منها، ثم تحركت بالشاحنات من بورتسودان متجهة إلى الخرطوم، وأن من واجب الصندوق أن يكون جاهزا لتفريغها من حمولتها؟ وأن من واجبه أيضا أن تكون له خطط احتياطية كاستئجار مخازن مبردة؟ فإما أن أمور البلاد وحياة الناس تدار بعبث واستهتار ولا مسؤولية تفوقان التصور، أو أن هناك قصدا مبيتا لاستمرار أزمة الدواء وهلاك المواطنين، لكي تكسب من ذلك جهات سياسية او تجارية بعينها.
أما إعلامنا؛ الحكومي وغير الحكومي، فأمره عجب. حاولت أن أجد تحقيقا شافيا حول هذه القضية، وهي قضية رأي عام من الدرجة الأولى، فلم أجد ما يشفي الغليل. وشكرا لوسائط التواصل الاجتماعي، فقد أثار هذه القضية سائقو الشاحنات الذين تضرروا من طول الانتظار وتعطل عملهم، وإلا ربما لم نسمع بهذه المشكلة أصلا. وبعد أن سمعنا بها توقعت أن تتسابق محطات التلفزيون والصحف إلى الموقع لتنقل تقارير حية وتسأل هل هذه الأدوية في شاحنات مبردة أم في حاويات قابعة تحت شواظ الشمس. فدرجة الحرارة داخل حاوية مغلقة يمكن أن تصل منتصف النهار إلى أكثر من 50 درجة مئوية. وإذا كانت الأدوية في حاويات وليس في شاحنات مبردة فهل تصلح هذه الأدوية بعد أن بقيت عشرة أيام تحت درجة حرارة عالية؟ ينبغي على مجلس الوزراء أن يأمر المسؤولين في مثل هذه الحالات بإقامة مؤتمرات صحفية يسألهم فيها الإعلام. بل يجب أن يلزموا من قبل الحكومة بقبول دعوات الفضائيات لهم والحضور إلى الأستديو والإجابة على أسئلة حارقة يقدمها محاورون مقتدرون. بغير هذا سيبقى المسؤولون على هذه الحالة الكارثية؛ يرتكبون كل الموبقات ويستهترون بحياة الناس، ويندسون وراء وظائفهم، رافضين الحديث للإعلام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.