بقلم / كمال الجزولي
(1)
مكَّنتني مشاركتي في بريد إليكتروني جماعي من مطالعة حواريَّة راقية بين مفكِّرَين مرموقَين، هما السُّوداني د. محمَّد محمود والعراقي د. كاظم حبيب، حول موضوعة (الاستعلاء الإثني) كبعض ثقافة مأزومة تعشِّش في عقلنا الباطن الجَّمعي. إنتقد كاظم مَن يهاجم الشَّباب، ووصفه بأنه “يعيد إنتاج تاريخ جدِّه الأسود”! عقَّب عليه محمود مستنكراً إساءته العنصريَّة لـ (اللَّون الأسود)، فانتبه الأخير، واستدرك، ليس فقط بأن أقرَّ بخطئه، وإنَّما ذهب إلى أبعد من ذلك، في شجاعة فكريَّة نادرة وسط شناشن المكابرات السَّائدة في سجالاتنا الفكريَّة، ، بأن عزا الأمر، لا إلى مجرَّد (زلَّة لسانٍ)، بل إلى تأثير ثقافة بالية تتغلغل في العقل الباطن، فتُستخدم دون وعي بمدى حطِّها من قدر ذوي البشرة السَّوداء. وضرب أمثلة لهذا الاستخدام اللغوي التِّلقائي البائس بقولنا (السُّوق الأسود) بدلاً من (الموازي)، و(الحظ الأسود) بدلاً من (العاثر)، و(التَّاريخ الأسود) بدلاً من (المخزي)، وهلمَّجرَّا. ثمَّ ألقى باللائمة على النَّظريَّة العنصريَّة الوقحة التي قسَّمت البشريَّة على أبناء نوح، حيث (يافت) هو جدُّ الجِّنس الآري الذي تدَّعي رفعته؛ و(سام) هو جدُّ الآسيويين الأقلِّ شأناً؛ أمَّا (حام) فهو جدُّ الأفارقـة الذين تزعـم أن الله (صبغهم) باللون (الأسود)، وجعلهم عبيداً لليافتيين والسَّاميين، عقاباً لهم على خطيئة ارتكبها جدُّهم! وأخيراً تسنَّم كاظم قمَّة الرُّقيِّ الفكريِّ، متمنِّياً على أنصار حقوق الإنسان، والكتَّاب، وعموم المجتمع، أن يتخلصوا من خطاب هذه الثَّقافة البالية في جميع الحضارات واللغات!
(2)
أحسن السَّيدان محمود وكاظم صنعاً بتهوية هذه القضيَّة فائقة الحساسيَّة. مع ذلك فإن أخطر جوانبها ما يزال مسكوتاً عنه، وهو المتعلِّق بوهم فادح ما انفكَّ يسيطر على عقل قطاع عريض من الجَّماعة المستعربة المسلمة السُّودانيَّة، ويستعمر وجدانه، بشأن ما بقي يتصوَّر أنَّه نقاء في عرقه ولغته وثقافته، دون أعراق ولغات وثقافات مساكنيه (الآخرين)، مِمَّا أنتج وضعيَّة (استعلاء إثني) استقبل بها هذا القطاع، لاحقاً، صورة (الوطن)، و(المواطنة)، و(الوطنيَّة)، بالمفارقة لحقائق الهُجنة الناجمة عن خمسـة قرون ـ بين التاسع والرابع عشر المـيلاديَّيْن ـ من اخـتلاط الدِّمـاء العـربيَّة الوافـدة بالدِّمـاء المحـليَّة، النوبيَّـة بالـذَّات، رغم أن حقيقة هذه الهجنة، خصوصاً بالنِّسبة للنُّوبيين الذين استعربوا، “تبدو ماثلة للعيان بقوة لا تحتمل المغالطة” (يوسف فضل، 1988م)، فيجدر التَّعاطي معها كحقيقة معرفيَّة لا ينتقص منها أن دعواها، في أصولها العرقيَّة عند ماكمايكل وتجلياتها الثَّقافيَّة عند ترمنغهام متهومة لدى بعـض المفكـرين بأنهـا “تنطـوى عـلى فرضـية انحـطاط” (عـبد الله علي إبراهيم، 1996م). وقد تكفي مراجعة عجلى لكتاب (طبقات ود ضيف الله)، أو (كاتب الشُّونة)، أو بعض سلاسل الأنساب وأشجارها، وجُلها مختلق، أو وثائق تمليك الأرض، أو غيرها من المصادر التَّاريخيَّة، للكشف عن مدى ما أهدر هذا القطاع من وقت وجهد وعاطفة فى (تنقية) أصوله من العناصر المحليَّة، وإرجاعهـا، ليس، فقط، لأعرق الأنسـاب (القرشـيَّة)، بل وإلى (بيت النبوَّة) نفسه، ما حدا ببعض الكتَّاب لأنْ يطلق على هذه الظاهرة (أيديولوجيا الأصالة)، بل وأغواه على اقتراح مقاربتها من بوَّابة (علم النفس الاكلينيكي)، بإحالتها إلى مجرَّد (عقدة نقص) تجاه الوضعيَّة التَّراتبيَّة لأصول المصادر فى الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة (أبَّكر آدم اسماعيل، 1999م).
(3)
مهما يكن من أمر، ففي حين راح القطاع المشار إليه يعمِّق من وعيه الزَّائف بهُويَّته (المنتحلة) هذه، كما صاغها وهمه الفخيم في طبوغرافيا تاريخه الإجتماعي على أيَّام (مملكة سنار)، وفي حين راح يراكم الثَّروات المنهوبة من نظام التِّجارة البسيط في المملكة، ويفتح الطريق أمام نشؤ وتسيُّد تيَّار (الاستعلاء الإثني) بالسُّلطة السِّياسيَّة والإقتصاديَّة والإجتماعيَّة والثَّقافيَّة، متجاهلاً حقوق مساكنيه الأغيار بالكليَّة، وفي حين راحت (سنَّار) نفسها تتآكل، نتيجة لذلك، وتضعف، وتذوي تماماً، قبل أن تنقضَّ عليها ضباع محمَّد علي باشا في 1820م، كان ذلك القطاع الناشط فى تفكيكها منشغلاً، ضمن ملابسات صراع السُّلطة والثَّروة، باحتياز أسلابها، واقتسام أشلائها، وتأسيس منظوره الجَّديد للبلاد، من أقصاها إلى أقصاها، كَمجرَّد كَنَفٍ موطَّأ لامتيازاته وحده، دون الأغيار من مساكنيه؛ وبتعميق رؤيته الفادحة لـ (الذَّات) و(الآخر)، حيث أصله وحده الكريم، وعرقه وحده الجَّليل، ولسانه وحده الفصيح، أمَّا (الآخرون) فلا أصل لهم، ولا فصل، وأمَّا ألسنتهم فمحض رطانات أعجميَّة! دمه وعِرضه وماله وحدهم الحرام، أما (الآخرون) فكفَّارٌ لا حرمة لدمائهم، ولا لأعراضهم، ولا لأموالهم! لونه هو ذهبىٌّ تارة، وقمحىٌّ تارة، وتارة (خاطف لونين)، حتَّى إذا دَكِنَ وصار إلى سَجَم الدُّوكة أقرب، فما تلك سوى (خُدرة دُقاقة) أو (سُمرة) تتدوزن بفتنتها الأعواد فى المدن، والطنابير عند السَّواقي، أمَّا ألوان (الآخرين) فإما (سوداء) أو، إذا ترفَّق بهم، وتلطَّف عليهم، فـ (زرقاء) كصباغ النِّيلَج! شلوخه تضئ على خدَّيه مطارقَ نبيلةً، أو تى، أو إتش، أو (حِلُوْ دَرْبْ الطيرْ فِي سكينةْ)، أو كما ظلَّ يصدح، عبر مذياع الحكومة وتلفازها، ليلَ نهار، مغنيه الذي لا يموت ولا يفوت، أمَّا فصودُ (الآخرين) فوشومُ رجرجةٍ شائهة مُعتمة! وأمَّا لدى المصاهرة فأمره العجب العجاب، حيث يروح يتشمَّم الآباط، يدقِّق مليَّاً في الأنوف والشِّفاه، يتقصَّى حتَّى ألوان بواطن الآذان، وذاك مبلغ عِلْمه من قول النَّبيِّ (ص): “تخيَّروا لنطفكم فإن العِرق دسَّاس”، كضرب من إخضاع النَّصِّ الدِّينىَّ لـ (أيديولوجيا الاستعلاء)، إذ يفسِّر الحديث عرقيَّاً، رغم “اعتبار الإسلام لمثل هذه الاتِّجاهات جاهليَّة ممقوتة”، فتخيُّر الزَّوجة يكون “من منبت صالح بمفهوم أخلاقي وديني، وليس إثنيَّاً بحال” (الصَّادق المهدي، ورقة “تباين الهويَّات في السُّودان” ـ قاعة الشَّارقة بالخرطوم، 23 مارس 2004م). لقد تكرَّس ذلك كله استعلاءً جهيراً فى حمولة الوعي الإجتماعي من (حِكَم) شعبيَّة “تشكِّل حاجزاً نفسيَّاً بين أهل السُّودان .. مثل: جِنِسْ عَبِدْ مِنُّو الخِير جَبِدْ ـ عَبْدَاً تَكُفْتُو بَلا غَبينةْ ـ سَجَمْ الحِلَّةْ الدَّلِيلَا عَجَمِي وفَصِيحَا رَطَّانْ ـ الهَمَلَةْ السَّوَّتْ العَبِدْ فَكِي” (الصَّادق المهدي؛ ورقة “المصالحـة وبناء الثِّقـة في السُّـودان” ـ قاعة الشَّارقة بالخرطوم، 6 ـ 7 مارس 2004م).
(4)
الفئات المزوَّدة بمعارف عالية، لكنَّها تدعم القوى (السُّلطويَّة/التَّفكيكيَّة)، هي المسؤولة عن إزكاء هذه (النَّزعة الاستعلائيَّة) التي تتهدَّد (الوحدة الوطنيَّة) بخطر حقيقي، مِمَّا يستوجب تأسيس الموقف التَّفاوضي لـ (العقلانيِّين/التَّوحيديِّين) على نزع الأقنعة، فى علاقاتنا الإثنيَّة، عن كلِّ المُغطى، وفضح المتكتَّم عليه، وتعرية المسكوت عنه، فتلك أوَّل خطوة باتِّجاه أيِّ مخرج مأمول من مأزقنا الوطنىِّ الراهن، لأن “ما يفرِّق السُّودانيين هو ما لا يُقال”، على حدِّ تعبير فرانسيس دينق.