الإسلام السياسي والتداول السلمي للسلطة
تزوِّد الأيدولوجيا معتنقيها بقناع يحجب رؤية الواقع كما هو، ويجعلهم هائمين في ملكوت من صنع الخيال، ويستخدم الخطاب الأيديولوجي أدوات عديدة لتزييف الواقع وإحلال الصور البديلة المتخيلة والمرغوب فيها، وتمثل اللغة إحدى الأدوات التي يشتغل عليها ذلك الخطاب لتحقيق أهدافه وذلك لما تمتلكه من خصائص تسمح بالتمويه والتعميم والتوظيف وغير ذلك.
في مقابلة خاصة مع موقع “الجزيرة نت” سُئل رجل الدين وأحد أبرز رموز تيار الإسلام السياسي في السودان، عبد الحي يوسف، السؤال التالي: متى أصبحت تؤمن بصندوق الانتخابات؟ فأجاب بالآتي: “ليس الآن، أنا أؤمن بأن الإسلام لا يعترف بحكم يأتي عن طريق القهر والقوة، والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كلهم جاؤوا عن شورى، الحكم عبارة عن عقد اجتماعي قائم على الرضا والاختيار مثل غيره من العقود، بموجبه يكون الحاكم خادما للرعية، له حقوق وعليه واجبات، كما للرعية حقوق وواجبات تجاه الحاكم، ليست لدينا نظرية تفويض إلهي، الرضا والاختيار في زماننا هذا يمثله صندوق الاقتراع، ولهذا أنا سعيد بما يحدث في تونس من تداول سلمي للسلطة”.
الإجابة أعلاه تحتوي على الكثير من التمويه، فعلى سبيل المثال قوله إن “الإسلام لا يعترف بحكم يأتي عن طريق القهر والقوة”، يجافي حقائق التاريخ التي يعلمها كل شخص، فتاريخ الخلافة الإسلامية هو تاريخ الاستبداد والملك العضود والدماء والدموع، حيث أن الخلافة، شأنها شأن أنظمة الحكم في العصور الوسطى، لم تعرف أساليب للتداول على الحكم سوى أسلوبي الغلبة والتوريث حتى إلغائها في عام 1924.
درس التاريخ يعلمنا أن خلافة الراشدين نفسها لم تنتقل بالشورى السلمية التي يتحدث عنها وهو الأمر الذي تشهد عليه دماء المسلمين التي سالت بغزارة في الجمل وصفين والنهروان!
إجابة عبد الحي أيضا تتضمن صورة غير واقعية متخيلة ومرغوب فيها، حيث أن الإشارة لكلمة “الإسلام” بالعموم توحي بأن هناك تصورا مثاليا مجردا للحكم الإسلامي الصحيح لم يتم تطبيقه بعد، وهو مثال لا يعترف بحكم يأتي عن طريق القهر والقوة، وهذا ضرب من التزييف لأنه أيضا يتعارض مع حقائق التاريخ.
إن أحد أوجه التزييف التاريخي في إجابة عبد الحي يتمثل في قوله “الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كلهم جاؤوا عن شورى”، ذلك لأن درس التاريخ يعلمنا أن خلافة الراشدين نفسها لم تنتقل بالشورى السلمية التي يتحدث عنها وهو الأمر الذي تشهد عليه دماء المسلمين التي سالت بغزارة في الجمل وصفين والنهروان!
ومن ناحية أخرى، فإن عجز تجربة القرون الطويلة لأنظمة الحكم الإسلامي عن إنزال التصور المثالي الذي يتحدث عنه عبد الحي لواقع التطبيق العملي سوى بضع سنوات، هي فترة الرسول الكريم، من مجموع أكثر من 1400 عام يعني استحالة إنزاله مرة أخرى، وأن التجربة الصحيحة نفسها تجربة فذة وغير قابلة للتكرار.
أما التناقض الأكبر في إجابة عبد الحي يوسف فيتمثل في أن الرجل نفسه ظل يؤيد حكم الإخوان المسلمين في السودان لثلاثين عاما حتى سقط بثورة شعبية كاسحة، كما أنه كان يستمتع بالأموال التي يمُن بها عليه النظام الاستبدادي الفاسد لتشغيل استثماراته في مجالات الإعلام وغيره، مع أنه يعلم علم اليقين أن ذلك النظام لم يصل للحكم عبر صناديق الاقتراع بل عن طريق الانقلاب العسكري “القهر والقوة”!
في ذات الحوار سئل عبد الحي يوسف السؤال التالي: “لماذا أنت مهتم بالنموذج التونسي؟” فأجاب بالقول: “النموذج التونسي يستحق الإشادة والاحتفاء، وآمل أن تنسحب التجربة ذاتها على كل شعوبنا سلما وأمانا وتداولا سلميا لسلطة يحتكم الناس فيه للشعب لا البندقية والمؤامرات، ولم تجنِ بلادنا من الانقلابات سوى المر والعلقم”.
يبدو جليا في الإجابة أعلاه التمويه الذي يهدف لإبراز التداول السلمي للسلطة كعملية مستقلة عن نظام الحكم الديمقراطي، في حين أنه يستحيل تداول السلطة سلميا دون اكتمال حلقات ذلك النظام المتمثلة في وجود دستور مدني ينص على أن الشعب هو مصدر السلطة ويكفل جميع الحريات والمساواة بين أفراد الشعب، وتنبني فيه الحقوق الواجبات على أساس المواطنة وليس الدين أو العرق أو النوع أو المكانة الاجتماعية أو غير ذلك.
النظام الديمقراطي هو التجسيد الأمثل “للدولة الوطنية” التي تم تدشينها في عام 1648م بموجب اتفاق ويستفاليا، والتي ولدت على أنقاض الدولة الدينية التي ـ كما يقول محمد جلال هاشم ـ كانت تحكم وقتها بادعاء التفويض الإلهي وتفرق بين الناس بحكم طبقاتهم الاجتماعية “النبلاء مقابل العبيد والأقنان”.
التناقض الأكبر في إجابة عبد الحي يوسف فيتمثل في أن الرجل نفسه ظل يؤيد حكم الإخوان المسلمين في السودان لثلاثين عاما حتى سقط بثورة شعبية كاسحة
لا يختلف اثنان ولا تنتطح عنزان في أن أتباع الإسلام السياسي، ومن بينهم عبد الحي يوسف، لا يؤمنون بالأسس التي يقوم عليها بنيان النظام الديمقراطي والدولة المدنية، فعلى سبيل المثال ينص الدستور التونسي في مادته السادسة على أن الدولة :كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية”، فهل يوافق عبد الحي على مثل هذا النص الذي يسمح للشخص المسلم أن يترك الاسلام دون أن تطاله عقوبة الردة؟
كذلك ينص الدستور التونسي في فصله الثالث على أن “الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات”، وهذا نص يتعارض بشكل أساسي مع أطروحة تيار الإسلام السياسي حول موضوع السيادة، حيث تمثل قضية “الحاكمية” مسألة عقيدة دينية بالنسبة لذلك التيار، وبالتالي تخلق التعارض المبدئي مع الديمقراطية التي تقضي بسيادة الشعب.
تعمد عبد الحي يوسف التعميم والتمويه في إجابته حول النموذج التونسي وأبدى إعجابا زائفا بموضوع التداول السلمي للسلطة وهو يدرك يقينا أن ذلك النموذج يتعارض في الصميم مع ما ينادي به تيار الاسلام السياسي الذي يمثله.
يمثل التداول السلمي للسلطة (صندوق الاقتراع) الحلقة الأخيرة من حلقات النظام الديمقراطي الذي ينشأ في دولة المواطنة التي يتساوى فيها أفراد الشعب دون تمييز ديني، وحتى يبلغ تيار الإسلام السياسي مرحلة الاقتراع فإنه يتوجب عليه تصحيح العديد من المبادئ والأفكار والمفاهيم التي تتعارض جذريا مع قيم الدولة الوطنية الحديثة.