الإعتصام السلمي سلاح الهامش الجديد

0 91

الثورة الصناعية الرابعة، الثورة التكنولوجية/الرقمية، التي هزّت أركان عصرنا الراهن، أشاعت المعلومة وعولمتها، قافزة بالوعي البشري قفزات هائلة، لدرجة أن الأميين اليوم قادرون على امتلاك قدر محترم من المعرفة والثقافة، سماعا ورؤية. والنتيجة هي اتساع قطاعات المجتمع التي باتت قادرة على معرفة ودراسة ما يدور حولها، ومن ثم تحديد أدوارها فيه، من أجل تحقيق تطلعاتها المشروعة لعالم أكثر عدالة ورحابة.

وأعتقد أن قفزة الوعي هذه، ساهمت في إعلان ميلاد ثورات أبناء الهامش والمناطق الطرفية في السودان، والتي اتخذت اشكالا متعددة، تبعا للاختلاف والتنوع الإثني، ووفقا لتفاوت مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي وكل تفاصيل الجغرافيا السياسية، وكذلك حسب سطوة وقبضة السلطة المركزية على هذه المناطق، واخيرا حسب القدرات والإمكانات الذاتية لهؤلاء الثوار. وما كل الاتفاقات التي وقعها نظام الإنقاذ في السودان مع الحركات التي حملت السلاح في الأطراف، بما فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان وحركات دارفور ومؤتمر البجا، إلا دليلا على طبيعة هذه الثورات ونجاحها بدرجة أو أخرى وهذا أمر له دلالته.

فأن تأخذ الثورة في السودان منحى إثنيا، لم يأت من فراغ، بل جاء كرد فعل طبيعي لهيمنة الثقافة العربية الإسلامية في المركز منذ الاستقلال، والتي اكتسبت بين يدي سلطة الإنقاذ طابع الطغيان والاستبداد، المترجم إلى عنف، تجاه الثقافات والقوميات الأخرى، مما دفع الأخيرة للرفض والتمرد. والملاحظ، أن هذا التمرد، لم يكن ضد سلطة المركز وحدها، وإنما تفجّر أيضا ضد القوى السياسية التي ظلت، ولفترات طويلة، تحتكر التعبير عن هذه المناطق، لكنها فشلت في تلبية مطالبها، بل زادت الطين بلة بممارساتها السياسية الخاطئة والمتراكمة عبر السنين.

المقاومة المسلحة لنيل المطالب والحقوق ليست قدرا محتوما، وأن هناك من يفكر في فعل مقاومة لا يكون وقوده الأرواح الصاعدة من قتل السوداني للسوداني، حتى وإن كان هذا الفعل في منطقة تماس ميادين القتال الدائر اليوم

ولقد كان للثورة الرقمية المدهشة، وما صاحبها من متغيرات كونية عاصفة، الأثر المباشر في تطور حركة الاحتجاجات والاعتصامات في بلادنا، واكتسابها سمات جديدة. فاحتجاجات واعتصامات مناطق المناصير بولاية نهر النيل 2011، ومنطقة لقاوة جنوب كردفان 2014، ومؤخرا منطقة نيرتتي وسط دارفور، والمستمر منذ أكثر من اسبوع، تضمر حالة سياسية، وأخرى فكرية، جديدة أكثر تقدما بالمقارنة مع حالات الاحتجاج السابقة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي كانت محصورة في تكوين الروابط والأندية المناطقية والقبلية في المركز، كما أنها تختلف، أو تتمايز، عن الاحتجاجات المسلحة التي ظلت تقودها الحركات المسلحة في الهامش.

ويمكننا مشاهدة تخلّق هذه الحالة السياسية/الفكرية الجديدة، في عدد من الملامح. فهذه الاحتجاجات والاعتصامات، وكأنها تؤكد أن المقاومة المسلحة لنيل المطالب والحقوق ليست قدرا محتوما، وأن هناك من يفكر في فعل مقاومة لا يكون وقوده الأرواح الصاعدة من قتل السوداني للسوداني، حتى وإن كان هذا الفعل في منطقة تماس ميادين القتال الدائر اليوم، احتجاجات لقاوة ونيرتتي نموذجا، وحتى وإن واجهت السلطات هذا الفعل السلمي بالعنف المسلح، احتجاجات المناصير نموذجا. ولعل الاستنتاج الرئيسي هنا، أن هذه الاحتجاجات والاعتصامات السلمية، والمنظمة والواعية، تبنت شعار الإضراب السياسي العام، وترجمته إلى فعل الاعتصام في ميادين الأطراف، مؤكدة أن هذا الشعار لم يعد ماركة مسجلة حصريا فقط لدى القوى الحديثة في المدينة وفي المركز.

أيضا، كل هذه الاعتصامات والاحتجاجات ترفع شعارات واضحة ضد التسييس والاستغلال الحزبي للقضايا التي تثيرها، وتتمسك بها بقوة، دون أن ترفض السياسة أو الأحزاب، ودون أن تتوهم هي، أو نتوهم نحن، أن اعتصاماتها واحتجاجاتها هذه بعيدة عن السياسة. أيام الإنقاذ، ربما كان رفض التسييس وإقحام الحزبية في هذه الاحتجاجات يأتي تخوفا من ردة فعل الحكومة الشرسة والمتوقعة حال ظهور الأحزاب في الصورة، مما يهدد الحقوق. لكن، أعتقد أن هذا الرفض، في الأساس، ينبع من فكرة تمتين وحدة وتوحد المحتجين حول القضايا المطروحة، وتحصنا ضد مرض التجيير الحزبي الذي كثيرا ما يفضي إلى الصراعات المضيعة للحقوق، مثلما يفضي إلى الاستجابة لاغواءات كراسي السلطة والسلطان على حساب حقوق الناس.

ولعل الاحتجاجات بذلك، تود إرسال إشارتين هامتين، الأولى رسالة تحذيرية إلى الحكومة بألا تبتذل الأمر وتتهرب منه، وتتحلل من مهامها وواجباتها في مخاطبة المطالب الحياتية في مناطق الهامش عبر اختزال القضية ووصمها بأنها أحد أوجه الصراع السياسي بين الحكومة ومعارضيها، كما كانت تفعل الإنقاذ. والإشارة الثانية مرسلة إلى الأحزاب والقوى السياسية، وتتضمن نقدا ورفضا لسلوك هذه الأحزاب ومناهج عملها التي لا تضع مناطق الهامش وقضاياها ضمن أولويات اهتماماتها.

ومن ناحية أخرى، فإن مواقف المحتجين تجاه التسييس والحزبية، فيما يخص القضايا المحددة موضع الاحتجاجات، تعكس أيضا وعيا متقدما يتجلى في إدراك أن تنمية مناطقهم لن تتأتى من خلال مسؤول حاكم، ولو كان متبوئا رتبة رفيعة في الدولة، ما دامت تنمية المناطق المهمشة ليست ضمن أولويات هموم الدولة، وليست ركنا من أركان استراتيجياتها، وفي رفضهم إغراء الانضمام للحزب الحاكم من أجل تحقيق أهدافهم المعلنة، ورفضهم أن يستخدم النظام، أي نظام، ابناء المنطقة المنتمين للحزب الحاكم لكسر شوكتهم. ومن هنا قناعتي بأن الاعتصامات والاحتجاجات المناطقية هذه تحمل بزرة فعل سياسي جديد سيتعلم بسرعة كيف يضع السياسي، أو نائب الدائرة، أو المسؤول الحكومي، في كرسي المساءلة، ويواجهه بالاستجوابات والاستفسارات ويحاسب على أدائه.

حكومة الإنقاذ المبادة كانت تتهم المحتجين والمعتصمين بتنفيذ مكائد ودسائس المعارضة المسلحة. ومع ذلك، لم يخف هذا الاتهام ولم يمنع، مثلا، أهل لقاوة المعتصمين في المنطقة المتاخمة لميدان الحرب في جنوب كردفان من استقبال برقية التضامن التي أرسلها لهم القائد عبد العزيز الحلو، زعيم الحركة الشعبية/شمال، رغم اختلافهم عن الحركة في منهجية وأسلوب المقاومة. استقبلوا البرقية بكل هدوء واحترام، دون أن يطوف في خلدهم أي تخوف باتهامهم بالانتماء للحركة، بل وكأنهم يرفضون مواقف الحكومة التخوينية التي توصم بها مثل هذه الحالات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.