الإمام والانغماس في الذاتي
كتب: د. النور حمد
من أشق الأمور على النفس نقد بنية وعي شخصٍ بعينه، لكن المرء يجد نفسه مجبرًا أحيانا على فعل ذلك، خاصةً حين يتصل الأمر بالصالح العام. فالسيد الإمام، الصادق المهدي، زعيم طائفة دينية كبيرة، وهو علاوة على ذلك، رئيس حزبٍ كبير. وقد كان منذ ظهوره في مسرح السياسة في ستينات القرن الماضي، وحتى انقلاب الإسلاميين على حكومته في يونيو 1989، شخصًا مثيرًا للجدل وللزوابع السياسية. وقد، بلغت إثارته للجدل ذروتها عبر أعوام الإنقاذ الثلاثين، وصولاً إلى ثورة ديسمبر المجيدة. هذه المقالة تعليقٌ مقتضبٌ على مقطع فيديو قصير، مقتطفٍ من مقابلة أجراها معه الأستاذ بابكر حنين، شاع تداوله مؤخرًا في وسائط التواصل الاجتماعي. في هذا المقطع وردت على لسان السيد الصادق المهدي جملةٌ، قال فيها: “أنا يا حبيب عندي صفات غير موجودة، لا في العالم العربي ولا في العالم الإسلامي … دي صفات نادرة”.
هذه الجملة بالغة الغرابة والخطورة، تصلح لأن تكون مفتاحًا لفهم شخصية السيد الصادق المهدي، ولفهم مناوراته السياسية الجمة التي لم تتوقف منذ ظهوره الأول في الساحة السياسية السودانية، في ستينات القرن الماضي، وحتى خروجه الأخير من قوى الحرية والتغيير، عقب طرحه ما أسماه “نحو عقد اجتماعي جديد”. لقد عكس ما جهر به السيد الصادق المهدي تضخمًا للذات، بلغ حدًا منح به نفسه فرادة لا نظير لها في العالمين العربي والإسلامي، اللذين يبلغ تعداد سكانهما ما يزيد على المليار شخص. تقرع تلك المقولة في عقل كل شخص يفكر باتزان، مهمومٍ بمصير البلد، أجراس الخطر. فوصول شخصٌ بهذا التصور للذات، أو أي واحدٍ ممن حوله، ممن يشاركونه رأيه هذا عن نفسه، إلى قيادة الدولة، سيضع البلاد في كف عفريت. فالقيادة في المجال السياسي العام تقتضي الاتزان النفسي، والرؤية الموضوعية للأمور. لا مجال البتة في السياسة المعاصرة للغنوص، وللشعور بالاصطفاء الإلهي. بل إن كل شخص في التاريخ، رأى في نفسه بشرًا استثنائيًا، تسبب في كوارث يشيب لها الولدان.
تشرح فكرة الإمام الصادق المهدي عن نفسه، التي عبر عنها في هذه المقابلة كثيرًا مما غمَّ علينا من تصرفاته السياسية. فهي، على سبيل المثال، شرحت استخفافه بالثورة، ومحاولته خلق تحالف مع الإسلاميين، وربما مع غيرهم، لقلب الطاولة على الفترة الانتقالية. كما أبانت دوافعه للتقدم بمقترحه الضرار، “نحو عقدٍ اجتماعي جديد”، الذي وضع فيه نفسه في موضع ماكينة القاطرة، والآخرين مجرد مقطوراتٍ، تصطف خلفه. هذه الفكرة المتضخمة عن الذات، والشعور بالانتداب الإلهي، هي نفس الفكرة التي امتلأ بها عقل الدكتور حسن الترابي، فأربك بها المشهد السياسي السوداني لخمس عقود. حاول الترابي جعل السودان منصةً تنطلق منها أممية إسلامية تكتسح العالمين العربي والإسلامي. لكن، كانت النتيجة أن انتهينا أسرى لأفسد وأتعس وأعنف نظام حكم عرفه السودان. الجامع بين السيد الصادق المهدي، وبين الشيخ حسن الترابي هو وهم الدولة الدينية، ووهم القيادة الإسلامية المتجاوزة لحدود القطر. من زار السيد الصادق المهدي، مؤخرًا، من دهاقنة قدامى الإسلاميين، يعرفون سيطرة هذا الوهم عليه. وبالفعل، لم يخيب ظنهم فيه. فبعد نحو أسبوعٍ من تلك الزيارة، خرج الإمام من صفوف الثورة، لينزلق، فيما أحسب، متاهته الأخيرة.