البرجوازية الصغيرة: هل هي والصفوة سيان (1)

0 91

كتب عبد الله علي إبراهيم:

(قلت مرة إن الشيوعيين كفوا مؤخرا عن التحليل الطبقي للمجتمع سوى من قولهم “الرأسمالية الطفيلية”. وهي عندي “شتيمة” لا أداة تحليل لأنها تطلق هكذا على عواهنها بلا حيثيات ولا تثبت. ثم سمعت الأستاذ الخطيب مؤخراً يطلق على جماعة من قوى قحت “البرجوازية الصغيرة” مروراً أيضاً. وبدا لي من ذكر الخطيب العابر والنادر للمصطلح أنه أدخل في التبخيس لهذه الجماعة الموصوفة لا التحليل.
من عاش فترة انقلاب 25 مايو 1969 عرف مركزية هذا المصطلح في النقاش الكبير الذي اجتاح الحزب الشيوعي حول تقييم ذلك “الانقلاب” وانتهى بانقسامه البليغ إلى جناح لأستاذنا عبد الخالق محجوب وآخر لمعاوية إبراهيم ضم مثل أحمد سليمان وعمر مصطفى المكي. ودار النقاش آنذاك حول هل ما وقع صبيحة 25 مايو “ثورة” أم “انقلاب”. وكانت عقيدتنا في جناح أستاذنا أنه انقلاب قامت به الشريحة العسكرية في البرجوازية الصغيرة. ولم يسعدنا لأنه خرق أخرق لما تواضعنا عليه في الحزب وهو التكتيك: البروليتاري” (العمالي). وهو تكتيك يلزمنا الصبر على مكاره نكسة ثورة أكتوبر، التي غبنت القوى الحديثة، لنستنهض الجماهير لاستكمال مهام الثورة بعمل صبور دؤوب (وهذا هي العبارة بالتحديد). ولكن سبقتنا البرجوازية الصغيرة العجولة إلى السلطة بل و”قمحتنا” في نصف أعضاء لجنة الحزب المركزية ناهيك من رفاق قادة المناطق والقواعد ممن هجرونا إلى وكر طبقتهم الانقلابي. ثم كف الحزب منذ مأساة 22 يوليو 1971 عن أي ذكر للبرجوازية الصغيرة في تحليله لسياسة المجتمع. وانتهز هنا فرصة ذكر الخطيب للطبقة مؤخراً لأعيد نشر كلمة لي عن منزلة هذه الطبقة في مجتمعنا).
إذا أردنا أن نمسك حقاً بسبب الهرج ضارب الأطناب في بلدنا وجب علينا أن ننمي تقليداً نقدياً لفئة البرجوازية الصغيرة المدينية المتعلمة أفضل مما هو متاح لنا. فما زلنا نسميها الصفوة ونشق الجيوب لخذلانها لنا بمنطق أنها مستودع علم نافع ضلَّ، وإرادة للخير تهافتت، أو ريادة نكصت على عقبها. وهذا نقد يفترض أن ضلال الصفوة المزعومة مجرد عثرة ستفيق منها، وإن طال الزمن، متى أحسنا ال “حوار مع الصفوة”. وهذا افتراض كاذب اقتضانا انتظاراً طويلاً عقيماً لعودة الصفوة المزعومة إلى طريق الرشد والهداية.
الصفوة المزعومة طبقة اجتماعية قائمة بذاتها كانت معروفة ب “الأفندية” أيام العز والجعاصة. ولها ككل طبقة اجتماعية صفوتها أو صفواتها. وصفوة الطبقة هي “أركانحربها” الفكري الذي يشيع وجهة نظرها في المعاش والمعاد بين الناس، فتغريهم بصواب طبقتها، وتقبل صدارتها في المجتمع بأشكال تتراوح من التعبير السياسي المباشر حتى خلجات الإبداع الروائي والسينمائي والتشكيلي. ولا نقول “تشيع” هنا بمعنى البروبقندا فحسب لأنه قد يكون من بين تلك التعبيرات ما قد يقسو على الطبقة المخصوصة ويكاشفها بعللها حتى تسقيم على جادة مصالحها الحقة، وتسلم من الشطط الذي قد ينفر الناس من قيادتها لمجتمعهم. و”حوار مع الصفوة” لمنصور خالد من جنس هذه القسوة على الطبقة لتزدجر.
كان للبرجوازية الصغيرة الأفندية حداتها خلال الحركة الوطنية من أمثال الشاعر علي نور. كما كان للأفندية البرجوازية الصغيرة نقدتها الباكرين من مثل الأستاذ محمود محمد طه الذي اعتزلها وغادر مؤتمرها للخريجين بعد أن نعى عليهم فقرهم للمنهجية. وسلقهم بنقده خاصة حين تفرق هؤلاء الخريجون شيعاً لائذين بالطوائف الدينية السياسية. وهي الطوائف التي كانت في نظر الأستاذ مؤسسات متخلفة عن ركب الدين وركب الحياة. بل خرجت صفوات راديكالية أخرى من الأحزاب الاتحادية خاصة وأسست الحزب الشيوعي طمعاً في تحالف من نوع جديد مع الحركة الوطنية العمالية التي شقت عصا الطاعة على المستعمرين. وكان بين هؤلاء الخارجين الأساتذة حسن سلامة وحسن الطاهر زروق وحسن أبو جبل ممن صاروا شيوعيين. ومنهم الأستاذ أحمد خير المحامي الذي مال إلى اليسار بغير انضمام لحزبه كما يشهد كتابه “كفاح جيل”.
لم نحسن في اليسار معرفة البرجوازية الصغيرة كفئة اجتماعية ذات موقع معلوم في عملية الانتاج برغم تحسبنا من شرورها على حزبنا الشيوعي من مثل صفة الذبذبة والتهريج والعجلة والمغامرة التي يعقبها التهافت واليأس والزهادة في القضية. وربما كان سر ملكة أستاذنا عبد الخالق القيادية العالية هي علمه الدقيق الفصيح بهذه الطبقة. ومن أراد الوقوف على هذه الملكة فليقرأ تقويمه لانقلاب 25 مايو المقدم إلى مؤتمر الكادر الشيوعي الاستثنائي في أغسطس 1970 (تجده في “الحزب الشيوعي نحروه أم أنتحر؟ ” لفؤاد مطر وربما كتاب القدال” الحزب الشيوعي وانقلاب مايو). وفيه أمسك بطموح هذه الطبقة السياسي الذي توسلت فيه على الحكم بالعنف واستولت عليه بالانقلاب. وفيه أعاد قوله إن الانقلاب هو تكتيك البرجوازية والبرجوازية الصغيرة خلال مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. وهو تكتيك على النقيض من منهج الطبقة العاملة وحلفائها الداعي إلى مراكمة القوى، والصبر في المنشط والمكره بالدعوة إلى سبيل المجتمع الجديد بالموعظة الحسنة. ومن أسف أن هذه الطبقة وحيلها قد غابت عن رادار الحزب الشيوعي منذ وفاة الرجل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.