التحالف الوطني خطوة أخرى للأمام
فتحي الضَّو
على الرُغم من أن تجاربنا السياسية السودانية راسخة في القدم، إلا أننا ما نزال نتنكب الطريق نحو بناء أحزاب حديثة، أي وفق الأطر التنظيمية والأسس المتعارف عليها. ومن باب التبرير كثيراً ما يُلقى باللائمة على الأنظمة الديكتاتورية، باعتبار أنها حالت دون التطور الطبيعي للحياة السياسة، وقد يكون ذلك صحيحاً نسبياً، بحسبها نهشت من جسد الوطن أكثر من نصف قرن منذ الاستقلال، في حين أن الأنظمة البرلمانية الثلاث لم تنل على فترات متقطعة سوى أقل من عشر سنوات. والمفارقة أن أياً من تلك الأنظمة لم تكمل دورة برلمانية كاملة (4 سنوات) على سدة السلطة، وذلك نظراً لأن الانقلابات العسكرية تقف لها بالمرصاد دوماً. وشكلياً تناصفت الأنظمة الديكتاتورية والأنظمة البرلمانية فترة ما بعد الاستقلال رغم التفاوت في عدد السنين بينها، أي بواقع ثلاثة حقب لكلٍ، كما شهدت البلاد خلالها فترتين انتقاليتين بعمر عامٍ لكل واحدة. والجدير بالذكر أن كل ذلك أصطلح على تسميته (الدورة الشريرة) التي نتج عنها تلك الصورة البائسة، بما لا يتواءم وواقع المجتمع السوداني.
لكن لا ينبغي أن يكون تغول الديكتاتوريات على الحكم بمثابة السبب الوحيد الذي يفسر تلك التناقضات. ذلك لأن للقوى السياسية الحزبية نفسها نصيب وافر من الخطايا. فبعض الأحزاب تأسست قبل الاستقلال، أي مضى على تكوينها أكثر من نصف قرن، لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت. وقد تطول الأسباب بصورة يضيق بها حيز هذا المقال. بيد أنه يمكننا أن نكتفي بذكر خطيئة واحدة، تمثل تناقضاً مريعاً، وتعد قاسماً مشتركاً بين جميع القوى السياسية – أياً كانت هويتها يميناً أو يساراً – وتلك الخطيئة هي افتقارها للديمقراطية في بنائها التنظيمي، في حين أنها تروم حكم البلاد ديمقراطياً. ولعمري هذا هو التناقض الذي يجسده القول المأثور (إن فاقد الشيء لا يعطيه) ولهذا كان انقضاض العسكر على السلطة أمراً ميسوراً، والتفريط في ذات السلطة من قبل القوى الحزبية أمراً مكروراً.
يمكن القول إن ثمة تغييراً ملحوظاً بات يطرأ على تلك الصورة الموروثة. فلم تعد الأوضاع تدار بطريقة (الفهلوة السياسية) في زمن التطور التقني والتدفق المعلوماتي المُبهر، والذي بات يجتاح العالم وكاد أن يجعل منه وحدة واحدة، وهي غاية لن يستغرق الوصول إليها زمناً طويلاً. في خضم ذلك لم يعد للدهشة مكاناً حينما ينطوي العالم كله بين يدي طالبه بأسرع مما فعل هدهد سيدنا سليمان. وبالطبع لم يكن الشباب السوداني يقف بمعزل عن تلك الطفرة الحضارية، على الرغم مما فعله النظام البائد بهم، لكنهم كما طائر الفينيق، نهضوا من تحت الرماد، وصنعوا ثورة وضعت نفسها في مصاف الثورات التي خلدها التاريخ الإنساني، وهؤلاء هم من سماهم الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد (الجيل الثالث) في التغيير القادم، فقد أثبتوا حقاً بأنهم يمثلون نصف الحاضر وكل المستقبل في السودان، ويسيرون رويداً رويداً نحو القمة التي لا يراها سوى الذين يحسنون قراءة (الفنجان).
مثل هذه القراءة كانت دليلي في تناول تجربة حزب المؤتمر السوداني في مقال سابق، وهي نفس القراءة التي حفزتني الآن لتناول تجربة صنوه حزب التحالف الوطني السوداني، واللافت فيها تمددها بخطى ثابتة كرقم وضع بصماته على الخارطة السياسية السودانية. وفي تقديري بقناعة راسخة أن هذه القوى الصغيرة سيكون لها شأن عظيم في التفاعل مع قضايا الواقع السوداني مستقبلاً، ولا يخالجني أدنى شك في أنها قادرة على بناء أوعية تنظيمية مبرأة من الأمراض التي أقعدت القوى السياسية الكبيرة عن بلوغ مراميها. ومن المؤكد أن هذه القوى إن كانت صغيرة اليوم، فحتماً سوف تكبر غداً، وتلعب دوراً مشهوداً في النهوض بهذا الوطن من كبوته، بشرط أن تصقل تجاربها وتمضي تنشد رفعة الوطن وتقدمه، دون أن تحيد عن جادة الطريق.
لعل مبعث هذه الرغبة في الكتابة عن تجربة التحالف الوطني هو المؤتمر الصحافي الذي عقده الأسبوع الماضي، والذي يعد الأول للحزب منذ عودة كوادره لحضن الوطن، أي منذ عقد ونصف، وذلك من على منبر وكالة الأنباء السودانية (سونا) ولعل تلك من ثمرات الثورة وحرياتها التي تتجذر في الواقع السوداني يوماً إثر يوم. ففي ذلك المؤتمر الصحافي تحدث رئيس الحزب كمال إسماعيل وهو أحد مؤسسيه الذين صنعوا له صيتاً إبان انتهاجه الكفاح المسلح في ما سمي بالجبهة الشرقية. وبخلفيته العسكرية المعروفة خاض غمار المعترك السياسي والنضالي ضد الطغمة البائدة في إطار التجمع الوطني الديمقراطي، وتواصلت مناهضته ديكتاتورية النظام البائد حتى ثورة ديسمبر المجيدة، ولذا عرَّف نفسه في المؤتمر بأنه يرتدي ثلاث قبعات، بحسب أنها تعينه في التعاطي مع قضايا الواقع السوداني المعقدة.
تحدث أيضاً في المؤتمر المهندس محمد فاروق سليمان نائب رئيس الحزب، وهو أحد الكوادر الشبابية الصلبة الذي عرفتها سوح الجامعات إبان حكم الطغاة، وتواصلت مناهضته للنظام بعد التخرج في الفضاء السياسي المعارض، وشأنه شأن الآخرين الذين يعارضون النظام الديكتاتوري كانت السجون والمعتقلات لهم بالمرصاد، إلا أن ذلك ما كان يثني الذين ينشدون الحرية عن مواصلة النضال. وفي المؤتمر قدم القياديان صورة بانورامية بلغة متمايزة، فيها قدر كبير من الشفافية والوضوح، إذ خاطبت مباشرة قضايا مرحلة الانتقال المتعددة، وتفاصيل بناء الدولة المدنية الديمقراطية، وقدما ذلك في إطار ما أسمياه (مصفوفة أولويات الثورة) الخاصة باستكمال برامجها، مثل العدالة والعدالة الانتقالية، وضرورة الإسراع بمحاكمة فلول النظام البائد، علاوة على تكوين الجهاز التشريعي وتعيين الولاة. وافردت المصفوفة حيزاً كبيراً لقضية السلام وطالبا بضرورة شراكة حقيقة عوضاً عن الشراكة العدائية الماثلة، وأمنا على الوحدة بين قوى مكونات الثورة.
في خلفية تاريخية مقتضبة قيضت لي ظروف الجغرافيا ما بين أسمرا والقاهرة أن أقف على ولادة هذا التنظيم، منذ أن كان نطفة بظهوره في العام 1994 بقيادة العميد عبد العزيز خالد بعد مفارقته القيادة الشرعية، إلى جانب ثلة من العسكريين منهم عصام الدين ميرغني طه، وعبد العزيز النور وسليمان ميلاد وراشد بابكر وكمال إسماعيل وحسن بكري، إلى جانب سياسيين منهم تيسير محمد أحمد ومحمد حسن عبد المنعم وأنور أدهم وجابي فائز غبريال وأمير بابكر وعمر عبود وشاكر زين وطارق إسماعيل وآخرون، كما أفسح مكاناً علياً للمرأة. وكان اللافت في نشاط التنظيم تدشين ما سماه (ثورة الريف)، بانتهاجه العمل المسلح، وهي الوسيلة التي كانت تستنكفها القوى السياسية الشمالية. ولكن ما إن أصبحت أمراً واقعاً حتى شرعت القوى السياسية في التباري حولها.
في العام 2002 خاض التنظيم تجربة غير مسبوقة بإعلان وحدة اندماجية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة دكتور جون قرنق، إلا أن التجربة لم يكتب لها النجاح، بل على العكس فقد أدت إلى انشقاق بعض عضويته، رغم أن الانشقاق لم يحقق أغراضه للقائمين به، فقد ماتت الخطوة في مهدها. كذلك واجه التنظيم حملة عدائية مكثفة من القوى الحزبية قاطبة وبالأخص الأحزاب التقليدية، على الرغم من أن جميعهم بما في ذلك التنظيم المُحارب يجلسون معاً في إطار التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، ولم يكن ثمة تفسير لذلك سوى الغيرة التي تعد أحد أمراض السياسة السودانية. إلى جانب أولئك كان النظام الحاكم في الخرطوم قد وضع التنظيم الوليد نصب عينيه أكثر من الآخرين، إذ كان يقوم بمحاولات تحطيمه وإقعاده عن بلوغ غاياته، لكنه مضى في طريق الألف ميل لا يلوي على شيء، وتلك تجربة متميزة جديرة بالتوثيق!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!