الترتيبات الأمنية الثقافية لسلام السودان: الرق
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
جاء في اتفاق المنطقتين (جبال النوبة والنيل الأزرق) دون غيره في وثيقة سلام جوبا حق المنطقتين في كتابة تاريخهما للاحتفاء بمساهمة شعوبهما في ترسيخ قيم ومعاني الوحدة الوطنية. ورد هذا في مادتين (٩،٨ و٩،٩) متطابقتين بلا داع سوي أن الأخيرة خصت دراسة المنطقتين لتاريخ الرق فيهما دون غيره لإزالة آثار الشقاق الوطني وتعزيز الوحدة الوطنية.
وهذه لفتة ثقافية مرموقة من الميثاق ذكرتني بما كتبته خلال الفترة الانتقالية بعد اتفاق السلام الشامل في ٢٠٠٥ داعياً إلى ما سميته ب”الترتيبات الأمنية الثقافية” على غرار الترتيبات الأمنية ست الاسم. وعرضت في الكلمة لكتاب لفرانسيس بوك، الجنوبي من السودان القديم، وعنوانه “هروب من الرق” صدر في ٢٠٠٣ عن دار سنت مارتن للنشر المرموقة. وحكي فيه عن اختطافة بواسطة قوات المراحيل البقارة وهو صبي بعد، وجعله عبداً يرعي سعية واحد منهم. وهرب وقصد أمريكا وظل منذ قدومه اليها في 1999 ريحانة لوبي محاربة الرق هنا. فقد شهد عن الرق السوداني في كل موقع وأمام كل جمهرة. والتقي بكل رقم سياسي. وكان من شهود توقيع سلام السودان في صحبة الرئيس بوش.
وقلت في ختام كلمتي إن هذه ثقافة الحرب صدقت دعوة الرق أم كذبت. وكل الدلائل تشير الي أنها لم تسلم من مبالغة مقصودة في أكثر الأحيان. وما فاقم منها الا طناش الحكومات عنها ظناً أنها ستتبخر من تلقاء نفسها. ومهما يكن فلم تشكل هذه الثقافة صورة السودان الآئل الي السلام عند العالمين فحسب بل شكلت صورة جزء من الأمة لجزئها الآخر من جنوبيين (وشماليين بالكوم) الذي سيقرر بعد الفترة الانتقاليه إن كان سيبقي في الوطن أم ينصرف الي حال سبيل. وسيعتمد مصير السودان الواحد علي ما نقوم به من عقد ترتيبات أمنية ثقافية تراجع الحرب التي دارت في تلك الجبهة بعلم ومنهج وواقعية.
سيلقى من ستقع عليهم دراسة مسألة الرق بحسب اتفاق المنطقتين عنتاً كبيراً. فقد داخل المسألة تسييس مبالغ فيه من النوع الذي يحيط بموضوع أكثر المطلوب منه البروبقاندا في بلد كأمريكا لا يسألون أخاهم حين يشكو من الرق علي ما قال برهانا. وبلغ التسييس حداً طلب فيه إلكس دي وال، الباحث النجيض في شأن السودان، من العقيد قرنق ألا يجعل الرق أكثر همه لأنه متي كذبت رواية عنه انقلب الأمر عليه. وكان ذلك في مقال في مجلة اليسار الجديد عام ١٩٩٦. وانقلب الأمر علي قرنق لما انفضحت مزاعم منظمة التضامن المسيحي عن أسواق عتق للرقيق من ملاكه في منطقة التماس كما قد نتطرق إليها متى اتصل الحديث، أو ستجدها في كتابي “الرق في السودان: أنثربولوجيا الخبر”.
وكانت أبواب تسييس الرق السوداني خلال الحرب الأهلية في الثمانينات والتسعينات، والإسراف في ذلك، كثيرة، وليس أقلها شأنا ركوبه ممن هم في أول سلم مهنهم من شباب الغرب طريقاً مختصراً للشهرة. ووجدتني أقبض على يد الصحفية الأمريكية دبورا سكروجنز بجريدة أتلانتا كونستتيوشن ويدها مضرجة بالمسألة.
وبؤس سكروجنز كصحفية لا يحتاج لضوء. فقارئ كتابها “حرب إيما” سيقف ( متى رفض رهن فؤاده لسلطان الغرب وأعمل عقله) على أنها صحفية بلا أعراف من ناشئة المهنة الذين يريدون تثبيت أقدامهم فيها بأي ثمن وعلى حساب من شئت. وقد روت بنفسها الملابسات “الإنتهازية” التي أذاعت بها خبر الرق في السودان لأول مرة على العالمين.
جاءت سكروجنز بادئ الأمر للسودان لتغطية أخبار مجاعة أثيوبيا في 1987. وكانت هذه التغطية هي التكليف التحريري الأول لها. وبعثت للجريدة بقصة عن اللاجئين الأثيوبيين في السودان. فكتبت الصحيفة لها: “لا بأس بما فعلت. ولكن أين المجاعة”. وبدأت سكروجنز تسمع عن الرق في الجنوب في وسط دوائر المنظمات غير الحكومية بالسودان وبعد نشر كتاب بلدو وعشاري في 1987. ورأت الصحفية الناشئة أن خبر الرق، متى ثبت، كان أول عتبة لها في سلم الشهرة في المهنة. واستعادت إسكروجنز في كتابها ما جال بذهنها في لحظة بدأ سماعها بنبأ الرق. فقد بدت لها مخايل النجاح المرتقب متى كانت هي البادئة بإشاعة الرق السوداني في الوسائط. فقالت:
“يمكن للقراء الأمريكان أن يمروا مرور الكرام بخبر عن اللاجئين والأوبئة والأمراض. ولكن سيؤذيهم خبر المجاعة لأن ذلك يجعلهم يحسون بالذنب لأنهم يكنزون بطونهم بالطعام بينما يتضور آلاف الأفريقيين جوعاً لحد الهلاك. فالأمريكيون قد يحتملون بغير كبير عناء مآس أفريقية عدة إلا المجاعة فهي من الكبائر. وأظن أنهم سيستاؤون جداً لخبر تجدّد الرق استياءهم لخبر المجاعة.” وقالت إنها أبرقت صحيفتها بنبأ الرق الموعود قائلة: “قد أعثر على ممارسة للرق في دارفور.” وقالت إن التلكس صمت هوناً. واشتعل من جديد:” حسناً. ولكن عليك أن تسرعي بالنبأ.”
وللقصة بقية إن شاء الله.