الترتيبات الأمنية وضرورة إعادة هيكلة ودمج القوى العسكرية المسلحة في السودان .. “رسالة مفتوحة للأطراف المتفاوضة بجوبا”
كتب محمد أحمد شقيلة، محاضر – قسم العلوم السياسية جامعة بحري:
تجري هذه الأيام بجوبا عاصمة دولة جنوب السودان مفاوضات عملية السلام في السودان بين الوفد المفاوض للحكومة الانتقالية السودانية والوفد الممثل لعدد كبير من حركات الكفاح المسلح المنضوية تحت لواء تنظيم الجبهة الثورية، حيث يناقش طرفيّ التفاوض في هذه المرحلة بند “الترتيبات الأمنية”، والذي إن اتفقا حوله سيكون السلام قد أصبح واقعاً في البلاد بقدرٍ كبير. لكن بالضرورة أن التفاوض حول هذا البند لن يكون سهلاً وربما يتعثّر، ولكن يمكن الاتفاق في النهاية إن توفّرت الإرادة السياسية لدى الطرفين واصرارهما وعزيمتهما لبلوغ السلام، ورغم التعقّد الكبير الذي يلازم قضية الأجهزة الأمنية في السودان وفي مقدّمتها القوات المسلحة أو الجيش السوداني.
يشيع تقسيم نظم الحكم في السودان منذ الاستقلال إلى نظم حكم مدنية أو ديمقراطية ونظم حكم عسكرية، هذا أمر صحيح لا خلاف حوله، ولكن ما هي الأصول العرقية والثقافية لأولئك الذين يستحوذون على السلطة سواء أكانوا من المدنيين أو العسكريين؟
تتمثل الإجابة عن هذا التساؤل في أن مركز السلطة السياسية في السودان منذ الاستقلال وحتى اليوم تُسيطر عليه المجموعة النوبية المُستعربة، أي أولاد البلد، سواء كان ذلك في ظل الحكومات المدنية أو العسكرية، بل أن الأفراد المنتمون لها، يُمثلون بصورة دائمة مركز النخبة السياسية والقرار السياسي.
ذلك أن كل الأحزاب التي تُوصف بالقومية (نقيض إقليمية)، قد أسستها وتُهيمن على قيادتها مجموعات المنتمين للمجموعة النوبية المستعربة بمختلف أيديولوجياتها أو برامجها، ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكل حزب سياسي ينشأ عن قوى اجتماعية من خارج هذه المنظومة “منظومة أولاد البلد” يُوصم بـ “العنصري” أو “القبلي” أو “الجهوي”، وهذا ينطبق كذلك على أي محاولة انقلابية للاستيلاء على السلطة يقودها من هو خارج هذه المنظومة.
بصورة أكثر وضوحاً، فإن هذه المجموعة أو المنظومة بمختلف توجُّهاتها وخلفياتها السياسية، وفي ظل مختلف الحكومات، هي التي تُسيطر على مقاليد السلطة السياسية في السودان، ولا تتعدّى مشاركة أبناء القوميات السودانية الأخرى أن تكون لمجرد إضفاء الصفة “القومية” للحكومة المركزية سواء كانت مدنية أو عسكرية، وحتى هؤلاء “الديكوريون” تُعيّنهم منظومة أولاد البلد، ويُمارسون دورهم في حدود ما يُرسم ويُحدّد لهم، وبعيداً عن مراكز القرار والسلطة الحساسة، وهم لا حول لهم ولا قوة في تقلُّدهم لمناصبهم أو استمرارهم فيها أو عزلهم، فهذا كله في يد المنظومة السياسية التي أتت بهم.
ينسحب ذلك حتى على مستوى المؤسسة العسكرية والشرطة وغيرها من الأجهزة الأمنية الأخرى. ذلك أن المجموعة النوبية المُستعربة تحتفظ لنفسها دائماً بالأغلبية في سلك الضباط، ويكون سلك ضباط الصف والجنود من نصيب القوميات السودانية الأخرى خاصة من تلك الموجودة في جنوب وغرب البلاد.
المؤسسة العسكرية السودانية أو الجيش هي مؤسسة صنعها الاستعمار البريطاني تحت مُسمّى “قوّة دفاع السودان”، والتي اختار لها الجند من غرب البلاد ومن غير قبائل الأنصار، حيث ركّز في ذلك على قبائل مجموعة النوبا بجنوب كردفان، بينما عمل على استيعاب الضباط من قبائل شمال السودان سيما من تلك الموالية للختميّة مثل الجعليين والشايقية والدناقلة “عصب قبائل منظومة النخبة الحاكمة”، وهو ما جعل القوات المسلحة السودانية “مُختلّة التمثيل” منذ استقلال البلاد، ولم يجري أي نوع من المحاولات لمُعالجة هذا الاختلال، بل أن كل الذي يجري من حينها وحتى اليوم هو العمل على تكريس هذه الوضعية والمحافظة عليها.
بالضرورة أن عملية الهيمنة التاريخية هذه تستمر لتطال الخدمة المدنية وتنسحب على مستوى قيادات الأحزاب السياسية، حيث يتعذّر مثلاً رؤية ذلك المشهد من التمثيل أو التواجد المتوازن لأبناء القوميات السودانية المختلفة في مؤسسة خدمة مدنية مركزية ما بأن تضم أبناء الجنوب والغرب والنوبا والبجا وغيرهم بشكل متوازن فيها، أما المشهد العادي أو الطبيعي أن تجد طغيان الُمنتمين لقبائل الوسط النيلي على مفاصل المؤسسة “القومية”، بينهم عدد قليل من أبناء القوميات الأخرى. ظلت هذه الوضعية تتكرّس يوماً بعد يوم منذ الاستقلال، بل وانقلبت حديثاً خلال عهد نظام الانقاذ المُباد، وهو أكثر النظم التي حكمت السودان ممارسةً للعنصرية، على هؤلاء أنفسهم من خلال تبادلهم الاتهامات أحياناً بقفل مؤسسة ما لقبيلة مُعينة دون غيرها من قبائل منظومتهم، أو توزيع المؤسسات على أساس الحصص “الكوتة” القبلية، أي أن هذه المؤسسة تذهب لتلك القبيلة، وتلك المؤسسة تذهب لهذه القبيلة.
على كلٍ، يبدو من الواضح أن الأجهزة الأمنية في السودان وفي مقدّمتها الجيش هي أجهزة “غير قومية” بمعنى “مختلّة التمثيل”، فهي لا تُمثل كل قوميات وشعوب السودان، وتنحو لأن تكون تُمثّل الشقّ العسكري للمنظومة السياسية المهيمنة على السلطة منذ الاستقلال، أي نادي النخبة السياسية المركزي المُهيمن تاريخياً، وهذا ناهيك عن عمليات الأدلجة والاستقطاب والولاء الحزبي التي أدخلها النظام المُتأسلم المُباد وسط صفوفها ممّا قاد إلى تسييسها بقدرٍ كبير، وابتعادها بالتالي عن المهنية (الانضباط والالتزام بالتقاليد العسكرية) والوطنية (نقيض الحزبية والتسييس).
عندما تحدث إنقلابات عسكرية ناجحة لا يعدو الأمر أن يكون هو تحول السلطة أو الحكم من المدنيين إلى “أخوتهم” العسكريين الأعضاء معهم في نادي النخبة السياسية، وربما أن ذلك يتم بالاتفاق حينما يعجز المدنيين عن إدارة البلاد فينقلون السلطة لرصفائهم العسكريين لعلهم يحققون شيئا، هذا ما قام به عبد الله خليل رئيس الوزراء يوماً عندما قام بتسليم السلطة للفريق إبراهيم عبود القائد العام للجيش، وهو ما يُتهم به كذلك الصادق المهدي عندما كان رئيساً للوزراء في الديمقراطية الثالثة من ضلوعه، على نحو ما، في الانقلاب الذي قام به عمر البشير، على الأقل أنه لم يُحرك ساكناً رغم أن الأجواء السياسية وقتها كانت تُشير إلى أن هنالك انقلاب عسكري قادم في الطريق.
هذا هو ديدن نادي النخبة السياسية مع الانقلابات العسكرية، فإما المشاركة فيها بطريقة ما أو التواطؤ والسكوت عليها مع قول لسان الحال: “لا بأس طالما أن قادة الإنقلاب في النهاية هم مننا”!!!! وبأسلوب وسلوك يُعبّران عن القمة في ممارسة الاستهبال السياسي. وهذا يُمكن أن يُفسر من زاوية أخرى حالتي الذعر من وجود قوات الدعم السريع والحرب الدعائية الشعواء الممارسة ضدها، ورغم دورها الكبير في نجاح ثورة ديسمبر وأدوارها الأمنية والسياسية والخدمية التي قدّمتها ولا تزال، وهنالك مثل يقول: “أنصفوا الشيطان إن عمل صالحاً”، فدعك عن انصاف قوات الدعم السريع وقائدها اللذين لا يتعرّضان لما يتعرّضان له من حملة مسعورة تهدف إلى شيطنتهما إلا فقط بسبب رئيسي يتمثل في أنهما لا ينتميان للقوات والعناصر العسكرية الممثلة لنادي النخبة السياسية المُهيمنة تاريخياً، هكذا بكل بساطة.
كل ذلك يجعل أنه من الضروري أن تتفق الأطراف المتفاوضة في عملية السلام الجارية بجوبا على إعادة هيكلة القوات المسلحة وأجهزة الدولة الأمنية الأخرى بغية معالجة الاختلالات التاريخية التي تُعاني منها هذه الأجهزة، وبما يضمن وطنيتها ومهنيتها واحترافيتها وعدم تسييسها سيما أن الواقع السياسي يقول أن استمرار هذه الوضعية المِعوجّة بات في حكم المستحيل بعد الآن.
إن الذي أصبح يمكن أن يكون فقط هو أن تتفق الأطراف المتفاوضة على عملية يُمكن تسميتها “عملية إعادة هيكلة ودمج القوى العسكرية المسلحة في السودان”، بحيث تشمل هذه العملية جميع جيوش حركات الكفاح المسلح والجيش السوداني متضمناً الدعم السريع وقوات حرس الحدود التابعة إلى موسى هلال، ودون تسريح لجندي واحد، وذلك بداية لأن السودان في حوجة إلى زيادة عدد عناصر قواته المسلحة الحالية للضعف، ولأسباب عدة: عددها قليل مقارنة مع عدد السكان، اتساع مساحة البلاد ومجاورتها لعدد كبير من البلدان المضطربة والهشّة أمنياً وعبر حدود طويلة مفتوحة، مواجهة البلاد لتحديّات الجرائم العابرة للحدود (تجارة السلاح والمخدرات والاتجار بالبشر وتزوير العملات والتهريب) وباعتبارها بلد معبر، ومكافحة الارهاب، والتي تحتاج في جميعها لمجابهتها لقوة أمنية سودانية كبيرة ضعف الحالية، وهذا بجانب مساهمة هذه القوة العسكرية الكبيرة في الأدوار المدنية خاصة في مجالات البُنى التحتية والمشروعات التنموية التي تحتاج لأيدي عاملة وفنية كثيرة العدد.
هذا بجانب المهددات الأمنية الداخلية التي يُمثلها عناصر النظام المُباد وحلفائهم في منظومة الإسلام السياسي العالمية، والتي سيمثل الجهاز الأمني وافر العدد للدولة السودانية رادعاً لها وصرفها عن التفكير في القيام بأي نوع من الحماقات أو المغامرات، لا فرق.
كذلك أن الاتفاق على هكذا عملية سيُعزّز من الوضع القانوني لقوات الدعم السريع ويُنهي اللغط والجدال حولها، كما وسيحلّ تلقائياً معضلة قوات حرس الحدود التابعة لموسى هلال، فأساس الأزمة كان هو رفض هلال لأن تتبع قواته للدعم السريع، ففي هذه العملية ستكون هذه القوات تابعة للقوات المسلحة السودانية “الجديدة” بمعية كل القوى الأخرى بما فيها الدعم السريع.
الأهم من ذلك كله هو أن هذه العملية ستقبل بها قوى الكفاح المسلح وسيتتحقق السلام المستدام، وذلك على الأقل لأن هذا الخيار مقبول لها، على الأقل مع رفضها لأي عملية تقوم على دمج قواتها في المؤسسة العسكرية السودانية الحالية وبقية الأجهزة الأمنية يُمكن أن يطرحها الوفد الحكومي المفاوض، فهذه الحركات تطالب مبتدأً بإعادة هيكلة أجهزة الدولة الأمنية وفي مقدمتها قواتها المسلحة (الجيش) ومعالجة التشوّهات في هياكلها ووظائفها، ويكون الخيار الأوفق هو عملية دمج وإعادة هيكلة قوات الجميع (حركات كفاح وحكومة) بهدف تأسيس جيش وطني مهني ومحترف، وعلى أن تكون هذه العملية متغير تابع لتنفيذ الاتفاق السياسي، أي كلما تم إحراز تقدم في تنفيذ اتفاق السلام رافقه تقدم في عملية الدمج وإعادة الهيكلة، وواضح أن عملية مثل هذه ستأخذ فترة زمنية طويلة، وهو ما يدعو لأن يعمل الطرفين المتفاوضين ويقوما بمدّ الفترة الانتقالية لتكون في حدها الأدنى 6 سنوات وفي حدها المناسب ما بين 8 إلى 10 سنوات إن كانا فعلاً جادّين في تحقيق السلام والتنمية المستدامين في البلاد ونهوضها وانطلاقها مارداً أفريقياً وعملاقاً وسط بلدان العالم النامي كالنمور الآسيوية.
كذلك يجب الاتفاق على أن تكون قوات الشرطة إقليمية، بحيث يكون كل إقليم له قوانينه وشرطته القائمة بذاتها والمسؤولة عن حفظ أمنه الداخلي والتي تتكون من عناصر الشرطة الحالية بالإقليم واتباعها له بدلاً عن تبعيتها الحالية للحكومة المركزية في الخرطوم، وكما هو معمول به في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الفيدرالية الحقيقية، ومضافاً إليها عناصر من حركات الكفاح المسلح وقوات الدعم السريع، وعلى أن تُعاد هيكلة جهازي المخابرات العامة والأمن الخارجي بحيث تضم عناصرها الحالية مضافاً إليهم عناصر من الجيش متضمناً الدعم السريع وقوى الكفاح المسلح مما يضمن مشاركة وتمثيل الجميع فيها، والذي بدوره يُمثل الضامن الأكبر لمهنيتها واحترافيتها وانتمائها وولائها الوطني.
هذه هي الوصفة الصحيحة للترتيبات الأمنية، وليس المهم التسمية التي ستأخذها، المهم الأخذ بها ولو تحت أي تسمية أخرى، ويبقى الأهم هو: هل سيواصل البرهان وجمال عمر في دورهما الوطني ويقدمان مصلحة السودان أم ستغلب عليهما الحمية القبلية والعصبيّة هذه المرّة؟ هل سينتهز حميدتي هذه الفرصة التاريخية التي ستحل له كل شيء دفعة واحدة؟ هل ستتحلّى قوى الكفاح المسلح بالعقلانية وتقبل بهذه الوصفة وباعتبار إدراكها إلى أنه لا وصفة أفضل منها؟ هل سيدركون في جميعهم أن عليهم القبول بهذه الوصفة أو أنه لكن يكون هناك سلام، لا بل لن يكون هناك سودان؟ لننتظر ونرى، وإن غداً لناظره قريب.