الثقافة الديمقراطية: هل أباطنا والنجم منها؟
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تخيم على فكرنا السياسي عقيدة أننا شعب لم يخلق للديمقراطية. فنحن في نظر هذه العقيدة خلو من ثقافة الديمقراطية. وهكذا كلما جئنا بها ذهبت أدراج الرياح. ولا أعرف كآبة استدلال في مثل استدلالنا فقر ثقافتنا الديمقراطية من مقدمة ذهابها بعد استعادتها. فالاستدلال كأنه يخول للمعتدى على نظامنا الديمقراطي أن يصادر الديمقراطية منا ليس لأننا لم نحسن لها فحسب، بل لأننا لن نحسن إليها ما عشنا لأننا بلا ثقافة حاضنة لها.
عقيدة أننا بلا ثقافة ديمقراطية معيبة. وينجم عيبها في أننا نقصر حديثنا عن الثقافة الديمقراطية على ممارسات الأحزاب ولا نتطرق للحديث عن الديمقراطية في القاعدة في مثل النقابات والاتحادات والأندية الرياضية والروابط القبلية وزواياها في المدن. وهذا تضييق للواسع. ناهيك من أن الأحزاب نفسها حالة ديمقراطية في حد ذاتها مهما كان الرأي في أدائها بالمفرق أو بالإجمالي. فهي تجسيد لحرية التعبير والتنظيم: جوهر الديمقراطية. وكان حفاظ الأحزاب على وجودها المجرد في شرط الديكتاتورية المتطاول إحسانناً مميزاً للديمقراطية. فقد بقيت في الساحة سراً وجهرة في حين أغلظت عليها النظم المستبدة من لدن عبود إلى نميري إلى البشير، وخططت لاستئصالها، واستبدالها بأحزاب فردة كالمصالح الحكومية. وبحفاظ الأحزاب المر على حق التعبير والتنظيم وفرت، حتى لمن كرهها، حرية أن يقيم حزبه الذي يرضيه.
إن الديمقراطية فطرة فينا. فما أن صدر قانون تنظيم النقابات في 1948 بجهاد نقابي أغر منذ ١٩٤٦ حتى نشأت 135 نقابة حتى عام 1956. انتظم فيها علماء المعهد العلمي، سائقو العربات الخاصة، المخابز، عمال وموظفي الطيران الملكي، الأطباء، الممرضات، سايقو لواري كردفان ودارفور، عتالة كريمة، عمال مالحة بورتسودان، جناينية الحكومة، عمال سكوني فاكوم، عمال مكافحة الملاريا، خبراء الغابات، عمال الميناء البجا، عمال محجر سلوم، العمال السابقون بقنال السويس، الفنانون والموسيقيون، عمال الشحن والتفريغ بورتسودان، الباشممرضين وممرضو غرفة العمليات، ملاك التكسي بالخط، وموظفي مشروع القاش. وهلمجرا. فإن لم يكن ذلك التوافد للنقابة ثقافة ديمقراطية فما تعريف الثقافة الديمقراطية حصرياً؟
ومما يعيب عقيدة خلونا من الثقافة الديمقراطية أن دليل وجودها مما عاشه كثير من مروجيها في نفسه. فكان بعضهم عضواً باتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي كان تطبيقاً مثالياً للديمقراطية. فوقع على فكرة التمثيل النسبي في منتصف الخمسينات بعد أن رأى عاقبة الانتخاب الحر. فاتفق لقادة الطلاب أن الانتخاب الحر (أي أن يرشح كل تنظيم طلابي أربعين من أعضائه لمجلس الاتحاد بما يفتح إمكانية استيلاء تنظيم واحد على كل المقاعد تاركاً الجميع غيره مشردين خارج مؤسسة الاتحاد) أدخل الاتحاد في دوامة اضطراب. فبعد كل انتخاب يغلب فيه تنظيم ما تتحالف التنظيمات الأخرى للإطاحة به بانتخابات معجلة. فانتهى الرأي بقادة الطلبة إلى تبني ديمقراطية توافقية هي التمثيل النسبي للخروج من هذه الدوامة. وهو باختصار ألا يرشح أي تنظيم لمجلس الاتحاد سوى عشرين. فحصيلة فوزه، إن فاز كل مرشحيه، هي عشرين مقعداً وتبقى عشرين مقعداً يتنافس عليها خصومة. ومتى انتهت الانتخابات عرف كل تنظيم قوته وعدد مقاعده بالنسبة للآخرين راضياً مرضيا. وأمن الاتحاد بهذه الحيلة من تجاحد التنظيمات، وسلم من دورة الكيد والكيد المضاد. وقال السيد أحمد عبد الرحمن، فك الله أسره، إن الفكرة مما همس لهم بها الدكتور سعد الدين فوزي، مؤلف الحركة العمالية في السودان (١٩٥٨). فاستدعي أحمد من الإخوان وقريب الله محمد حامد من الشيوعيين وعرض عليه ما عنده. وراقت لهما الفكرة.
لم نراجع العقيدة الكئيبة عن استحقاقنا الديكتاتورية لنقصنا في فيتامين الديمقراطية وقد نهضت الدلائل الطاعنة فيها. فاتفق كل من منصور خالد ومحمد أبو القاسم على أن النقابات كانت الحاضنة لممارسة ديمقراطية غاية في الإحسان من حيث صمامة الاتصال بين قيادتها وقاعدتها، بتداول إداراتها بالانتخاب، ومحاسبة دورات القيادات خلال جمعياتها العمومية الراتبة. علاوة على ما ينعقد في رحابها من نقاشات حول مظالمها وخطط العمل والتعبئة. ورد منصور في “حوار مع الصفوة” (١٩٧٩) هذه الأداء المميز لأنه “ومن حسن حظ الحركة النقابية أنها لم تقع في إسار القيادات التقليدية وإلا لأنتهت إلى شيء أشبه بحزب العمال المصري برئاسة النبيل عباس حليم واللواء محمد صالح حرب لانتهت إلى تنظيم انتهازي هدفة استجلاب الهتافة من المناطق الصناعية (138).
ونظر محمد أبو القاسم في “السودان والمأزق التاريخي” لحيوية النقابة في سياق تحليله لتهافت الفكرة الليبرالية عند طلائع الخريجين في مثل نخبة مجلة الفجر (١٩٣٤-١٩٣٦). فخلافاً لتلك النخبة، فالحركة العمالية شقت طريقها للعمال كعمال ولم تشترط كالفجر أن “تنحل” عند الناس الرابطة الطائفية للأفراد والجماعات. بل استثمرت الحركة العمالية هذه الطاقة الثقافية الطائفية لتتقوى بها. ف”النقابة”، في نظره، هي أكثر الإنجازات الديمقراطية وضوحاً في السودان.
بدا لي دائماً أن حل بيان الانقلاب الأول للأحزاب غير مقصود لذاته. فهو عندي بمثابة عقوبة لها في تراخيها في ضبط الشارع السياسي الذي يمارس الشعب سلطانه من فوق منابره النقابية. فلو اتفق لنا جدلاً زعم الانقلابيين أن الأحزاب أفسدت الديمقراطية فاستحقت الحل فلماذا، بربك، حل النقابات والاتحادات التي لا غبار على ممارستها للديمقراطية كمنظمات مدنية. بل إذا رأيت تركيز هذه النظم على قهر هذه النقابات، أو تدجينها، بدغمها في الحزب الحاكم، لعرفت أنها لم تنقلب لسوءة الأحزاب بل لأن الأحزاب لم تلجم هذه القوى الشعبية كما ينبغي.