الحكومة الإثيوبية وقادة (TPLF) ليسا في موقف أخلاقي متكافئ

0 80
كتب: هايلي مريام ديسالين/ رئيس الوزراء الإثيوبي السابق
.
“ينشغل هذه الأيام معظم المحلّلين للشأن الإثيوبي وأولئك الذين يطلق عليهم خبراء في قضايا القرن الأفريقي في الدعوة إلى حوار وطني شامل ، ووقف سريع لإطلاق النار والأعمال العدائية في الصراع المتفجر بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تغراي (TPLF).
هذه الدعوات الطيّبة مقدّرة وصادرة عن نبل وحسن نيّة في الظاهر . فالدعوة إلى التفاوض من أجل إحلال السلام إجراء صار مألوفا لحلّ النزاعات أينما وجدت. وأعتقد بأنّ الداعين إلى مثل هذه المقاربة من الوسطاء الأجانب ينطلقون عن حسن نيّة ، ويصدرون من الحكمة التقليديّة عن أسلوب حلّ الأزمات في أفريقيا.
المشكلة أنّ عروضا عامّة كهذه لا تحلّ الأزمات غالبا ، وحالة جمهورية جنوب السودان المجاورة لإثيوبيا مثال نموذجي على الوضع في إثيوبيا ، ويظهر لنا كيف ينظر ويتعاطى معها المجتمع الدولي. فعندما حدث النزاع في الحزب الحاكم بعد استقلال جمهورية جنوب السودان ؛ فإنّ الحوار الذي أعقبه من أجل السلام نتج عنه ترتيبات تقاسم السلطة فقط متجاهلين إخضاع المسؤولين عن المذابح الجماعية للمساءلة والمحاسبة.
يكمن جوهر المشكلة في المبادرة التي تقدّم بها المجتمع الدولي من أجل جنوب السودان وحاليا إثيوبيا التي كنت أتولّى رئاسة حكومتها من عام 2012م إلى 2018م في افتراض تكافؤ الموقف الأخلاقي ، والذي يؤدّي بالحكومات الأجنبية إلى تبنّي موقف الحياد الزّائف والمسافة المتساوية بين الطرفين. فالمساعي الدوليّة تغيب عنها الحقائق والتفاصيل المتعلّقة بطبيعة الصراعات ، والقوى المتسبّبة في إشعالها وإذكائها ، ومن ثمّ يتمّ التوصل إلى اتفاقات سلام ما تلبث أن تتدحرج إلى مربّعها الأوّل بعد التوقيع عليها مباشرة.
أودّ أن أعترف أنّ فترة الـ 27 عاما التي حكم فيها التحالف الذي كانت تهيمن عليه الجبهة الشعبية لتحرير تغراي اتـسم بالتآمرية . وبعد أن اضطرّ لتسليم زمام السلطة تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية ضدّ سوء إدارتنا السياسية والاقتصادية التي كنت أنا جزءا منها ، فإنّ قيادة الجبهة خططت والآن تنفّذ استراتيجية تهدف إلى استغلال الموقف النمطي المفترض للمجتمع الدولي في ميله نحو الوقوف على مسافة متساوية من طرفي النزاع ، والدعوة إلى الحلول التفاوضيّة. وقادة الجبهة انتهازيّون يدركون جيّدا قابليّة المجتمع الدولي للتلاعب والاستغلال .
فالدافع الرئيسي وراء لجوء الجبهة إلى افتعال المواجهة العسكرية مع الحكومة الفيدرالية هو استغلال ثغرة في الصيغة النمطيّة في مقاربات الحلول التي يتقدّم بها الوسطاء الدوليّون. فذلك سيضمن لقادة الجبهة الإفلات من المساءلة عمّا ارتكبوه في الفترات الماضية والحالية ، وفي الوقت نفسه يؤمّن لهم مشاركة في السلطة عبر صفقة يرعاها المجتمع الدولي. واتفاقية كهذه ستمكّن قادة الجبهة من ممارسة تأثير يتجاوز مستوى التأييد الذي يتمتعون به في واقع بلد يعيش فيه مائة وعشرة مليون نسمة .
وهذه الاستراتيجية مبنيّة على ثلاث فرضيات :
الأولى : أنّ المجتمع الدولي يجنح عادة إلى تجاهل التعقيدات السياسية ، وحقيقة الموقف الأخلاقي ، ويدعو إلى إجراء حوارات متكلّفة ، والتي دائما ما تنتهي باتفاقات تقاسم السلطة ومن ثمّ مكافأة الفاسدين على إشعالهم أعمال العنف.
الثانية : الاعتقاد الذي يستبطنه قادة الجبهة ، ويعزّزه بعض المحلّلين ومن يطلق عليهم الخبراء أنّهم قوّة قتالية لا تقهر ، ويستطيعون الصمود أو حتى هزيمة قوات الدفاع الوطني الإثيوبي ، كأنّ سائر الإثيوبيين أقلّ منهم شأنا. والحقيقة أنّ جميع الإثيوبيين مقاتلون أشدّاء وليس فقط أفراد الجبهة.
فالانطباع السائد يقول بأنّ أيّ مواجهة عسكرية يدخلها قادة الجبهة ستكون طويلة الأمد ، تتوسّع وتتمدّد.
والواقع الذي توجد فيه الجبهة وقوّاتها الآن حصار مطبق يحيط بها من جميع الجهات ، وخيارات محدودة في التصدّي للجيش الوطني. والقدرات الأسطورية التي تمّ رسمها لقادة الجبهة بأنّه لا يمكن إخضاعهم عزّز فيهم نزعة الغرور ، وانتهاج سياسة حافة الهاوية.
الفرضية الثالثة وراء غرور قادة الجبهة اعتقادهم بأنّ ما زرعوه من بذور النزاع و الشقاق في الحياة السياسة الإثيوبية وفي مؤسسة الجيش لعقود سيجعل من اليسير عليهم تحقيق انتصار سهل في أيّ مواجهة عسكرية. بهذا الحسابات الخاطئة ورّطت الجبهة نفسها في إشعال مواجهة مسلّحة مع الحكومة الفيدرالية.
توهّم قادة الجبهة عن شراسة قوتها التي لا تقهر سرعان ما تبدّدت. والتصرّف المشين الذي أقدمت عليه المجموعة ضدّ الجيش الشمالي بالهجوم على قواعده ، والاستيلاء على معدّاته العسكرية مع شقه إثنيّا ، ومن ثمّ ارتكاب مجزرة بشعة في أفراده غير المنتمين إلى قوميّة التغري أدّى إلى تقوية عزيمة الحكومة الفيدرالية وكثير من المواطنين الإثيوبيين للعمل على تسوية القضيّة بتقديم العناصر المجرمة إلى العدالة.
ويبدو أنّ الأمر الوحيد الذي سار وفق خطة قادة الجبهة هو دعوات فئة من الشخصيات والناشطين الدوليين للحوار بين الحكومة الفيدرالية وقيادات الجبهة. وبالرغم من الإشادة بالأصوات الداعية إلى التفاوض إلا أنها على ما يظهر تتجاهل الإنتهازية القاتلة في بقايا نظام الجبهة القديم ، ولا يجرؤون على إدانة نشاطاتهم التي تعمل على زعزعة استقرار البلد.
ولو ضمن قادة الجبهة تحقيق رغبتهم في الإفلات من المحاسبة عبر صفقة دولية فإنّ ذلك سيلحق ضررا كبيرا بمبدأ العدالة والسلام المستدام ، وفوق ذلك سيصبح سابقة خطيرة تحتذيها مجموعات أخرى منضوية في الفيدرالية الإثيوبية ، وتتعلّم منه درسا خاطئا وهو : إنّ العنف تتمّ مكافأته.
العمليات العسكرية التي تقوده الحكومة الفيدرالية يجب أن يكتمل بأقصى سرعة ممكنة ، وبطريقة تقلّل من كلفتها البشرية في حملتها الساعية للقبض على قادة الجبهة وتقديمهم للعدالة مع حماية المدنيين.
وفي الأثناء فإنّ أولئك الداعين إلى الحوار مع الجبهة ينبغي أن يكونوا واعين فيما تتضمنه دعواتهم من عواقب ؛ حيث إنهم بذلك يفتحون صندوق باندورا الذي ستخرج منه مجموعات إثنية على استعداد للنسج على منواله. وما ينبغي أن يفهمه دعاة الحوار أنّ احتمالية التفاوض مع القادة الحاليين للجبهة خطأ من الناحية المبدئية ، ولا تقتضيه الحكمة.
في الأيام القليلة الماضية ظهرت بجلاء حقيقة قادة الجبهة الشعبية لتحرير تغراي ، فأحد شخصياتهم الرئيسية الناطقة باسمهم أقرّ بأنهم خططوا ونفذوا هجوما على الجيش الشمالي ، وذبحوا أفراد الجيش الذين رفضوا الانصياع لمطالبهم في عمليّة أطلق عليها الخطوة الاستباقية للدفاع عن النفس. والجريمة النكراء بحق المدنيين في منطقة (ماي كادرا ) التي يتهم بها قادة الجبهة ، والتي دعت فيه منظمة العفو الدولية إلى تحقيق جهة مستقلة بالحادث ، سيظهر في حال ثبوته تورّطهم في ارتكاب جريمة التطهير العرقي.
أما الهجمات الصاروخية باتجاه العاصمة الإريترية أسمرا والتي نفّذت في مسعى يائس لتدويل الصراع يظهر أن قادة الجبهة يمثلون تهديد لسلامة وأمن دول الجوار.
لا ينبغي أن نتوقّع من الإثيوبيين أن يحتضنوا حزبا بائسا وخطرا تحت ذريعة ما يدعى الحوار الشامل . قيادة الجبهة الشعبية لتحرير تغراي بوضعها الحالي ليست أكثر من تنظيم إجرامي ولا يمكن إدراجه في أيّ حوار يهدف إلى رسم مستقبل إثيوبيا.
محبّو السلام من أعضاء الجبهة ، وعموم شعب إقليم تغراي مع سائر الإثيوبيين هم الأصحاب الحقيقيون لإثيوبيا الديمقراطية.
ومن ناحيتها يجب على الحكومة الفيدرالية أن تعمل على تجنّب حدوث أيّ ضرر للمدنيين ، وحماية جميع أولئك الذين هم عرضة للتأثر بالصراع الجاري. كما يجب السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى إقليم تغراي .
يتمّ تداول اتهامات بشأن ممارسة تمييز عرقي ضد التغراويين في بعض المؤسسات الفيدرالية ، وعلى إدارة رئيس الوزراء أبي أحمد القيام بتحرّيات عاجلة للتحقق من صحة هذه الاتهامات ، فلو ثبتت فإنها تعتبر تطوّرا خطيرا يجب إدانته دون أيّ تحفّظ ، وتقديم المتهمين إلى العدالة.
ينبغي أن تكون إثيوبيا مكانا يحترم فيه الدستور ، ويعلو حكم القانون ، وتتسارع عمليّة التحوّل الديمقراطي ، حتى لا تنزلق بلادنا الحبيبة إلى هاوية الفوضى.
مترجم من مجلة فورين بوليسي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.