الحملة ضد الدكتور عمر القرّاي: المغزي والمرامي وخيبة المسعى!
كتب: د. محمد جلال هاشم
حملة منظّمة ضدّ عمر القرّاي
هناك حملة منظّمة من قبل مجموعات معروفة ضدّ الدّكتور عمر القرّاي الذي تمّ اختياره كمدير لإدارة المناهج بوزارة التّربية والتّعليم. هذه الحملة يقودها، كالعادة، فلول الكيزان المندحرة، يظاهرها في هذا بعض منسوبي الهوس الدّيني من أنصار سنّة وتكفيريّين داعشيّين، بجانب بعض أتباع الصّادق المهدي الذين أضلّهم اللهُ بما أضلّ إمامهم. أدناه سوف نحاول أن نستجلي طبيعة هذه الحملة المنظّمة والخائبة في نفس الوقت. ولن نصرف دقيقة في مرامي مجموعات أنصار السّنّة والدّاعشيّين التّكفيريّين، فهؤلاء ما هم إلاّ طبعة مستنسخة من الكيزان في أسوأ صورهم وطبائعهم. كما لن نصرف كلمة واحدة في الصّادق المهدي وأتباعه ــــ ولا أقول “الأنصار”، فهؤلاء لا يمكن التّحدّث عنهم بصيغة الجملة على أنّهم يتبعون الرّجل. فالصّادق المهدي يبدو كما لو كان يخشى من إعادة النّظر في المناهج أن تمسّ الصّورة الإيمانيّة لحقيقة جدّه محمّد أحمد عبدالله الدّنقلاوي وما إذا كان فعلاً مهدي آخر الزّمان أم لا. وبالطّبع، لم يثبُت أنّ هو آخر الزّمان، حتّى يأتي المهدي المنتظر الذي سيمليها عدلاً كما مُلئت جورا؛ وبالتّالي فإنّ مهديّته ليست سوى محض ادّعاء كذّبه التّاريخ. فليت حفيده هذا الذي يلينا كان صادقاً، وليته كان مهديّاً! إلاّ أنّ الدّوافع الحقيقيّة للصّادق المهدي في معارضته لتعيين الدّكتور عمر القرّاي لا تنبع من هذه المخاوف، بل هي فقط لحقيقة انتمائه الفكري والمنهجي لحركة الإخوان المسلمين، وهي الحقيقة التي ذكر البعضُ أنّ والده عليه رحمةُ الله كان مدركاً، مستنكراً لها. فهو هنا يتصرّف بوصفه أحد الكيزان الملتزمين، ليس إلاّ، وعلى هذا سوف نتعامل معه.
فلماذا يعارض الكيزان، الصّرحاءُ منهم والدّاعشيّون والصّادقون الكاذبون منهم، تعيين دكتور عمر القرّاي في وظيفة مدير المناهج بهذه الطّريقة المنظّمة؟ أدناه في الحلقة الأولى سوف نتحدّث عن طبيعة الجهات التي تقف خلف هذه الحملة، اجتماعيّاً وسياسيّاً؛ ثمّ في الحلقة الثّانية سوف نتحدّث عن الجريمة النّكراء التي ارتكبها الكيزان في ذبح مناهج التّعليم، العام والعالي، مقدّمين أدلّة مستمدّة من كتب المدارس الابتدائيّة؛ وفي الحلقة الثّالثة والأخيرة سوف نتحدّث، باقتضاب، عن هبة السّماء لوزارة التّربية والتّعليم، ألا وهو الدّكتور عمر القرّاي، ونعلم أنّ هذا ممّا لا يُرضيه، ولو سمح لنا، إذن لسوّدنا عنه الصّحائف، وما كنّا سنكفيه حقّه. فالحقُّ، مطلقاً كان أو محدوداً، لا يُحاطُ به، بل يُشار إليه ويُعرفُ باسمه ورسمِه الذي يلينا في المحدود. فالزّعمُ بإحاطة الحقِّ في فضاء المحدود ليس سوى وهم، ذلك لأنّ المحدود إنّما ينتهي بنا إلى المطلق؛ فلو أحِطنا بالحقِّ في المحدود، إذن لأحطنا به في المطلق وهيهات، هيهات.
لماذا هذه الحملة المنظّمة ضدّ عمر القرّاي؟
أقصر الإجابات عن هذا السّؤال هو لتمكّن عقليّة “التّمكين” من قلوب وعقول الكيزان، كونها تحتلّ موقعاً مركزيّاً في بنية منهجهم الضّلالي. لقد حكم الكيزان لثلاثين عاماً حسوما، عاثوا في البلاد فساداً ما بعده فساد، ثمّ أسلموها لحكومة الثّورة وهي عظم بلا لحم. وما كلّ هذا إلاّ لأنّهم عجزوا عن أن يفهموا طبيعة الدّولة الوطنيّة القائمة على حقوق المواطنة بصرف النّظر عن المعتقد أو الجنس أو الإثنيّة أو الوضع الاجتماعي. ويعني هذا أنّنا إذا أردنا تعيين موظّف عمومي، ينبغي علينا أن ننظر في شهادة كفاءاته الفنّيّة لنحدّد هل هو مؤهّل لشُغل الوظيفة العامّة أم لا. لكن لا ينبغي ابداً أن ندخل في ضمير أيّ إنسان لنفتّش عن إيمانه من عدم إيمانه، عن مذهبه العقدي وإلى أيّ المذاهب ينتمي.. إلخ. ولهذا أسموها بالدّولة الوطنيّة التي تقوم على قيمة المواطنة، لا على العقيدة، ولهذا ظللنا نكرّر وسنكرّر دون ملل أنّ الدّولة الوطنيّة هي بنيويّاً عَلمانيّة.
والسّؤال هو: كيف ولماذا لم يتمكّن الكيزان من فهم هذه الطّبيعة الأساسيّة للدّولة الوطنيّة؟ هل فهم هذا الشّيء صعب على العقول والأفهام؟ لا بالطّبع، أللهمّ إلاّ أن يُضلِلْكَ اللهُ بما تعلم، وما هذا إلاّ أن تقع في حبائل الغباء الأيديولوجي. فمهما كانت درجةُ ذكائك عالية، فإنّك سوف تنتهي إلى حالة من الغباء المُطبق، ذلك إذا تورّطت في مشروع غبي. وهل هناك مشروع أغبى من أن تعمل لعقود وسنوات كيما تصل للحكم في زمن الدّولة الوطنيّة العَلمانيّة بغرض تجريدها من وطنيّتها والرّجوع بها إلى مرحلة ما قبل الدّولة الوطنيّة، أي بالعودة بها إلى أربعة قرون على أقلّ تقدير؟ فهذا بالضّبط ما فعله كيزان السّودان باعتبار أنّهم سيحقّقون دولة الرّفاهيّة والعدالة التي كانت على زمن نبيّ الإسلام محمّد (ص)؟ كيف كانوا يعتقدون أنّهم سيحقّقون هذا؟ صدّقوني لمجرّد قطعهم يد السّارق وجلد المخمور والزُّناة غير المحصنين، وصلب مجرمي الحرابة، ورجم الزّناة المحصنين (حتّى هذه لم يقدروا عليها). فجميع هؤلاء الخُطاة لا تزيد نسبتُهم في المجتمع عن ١٠%، بينما الذين يطالهم العقاب لا تزيد نسبتُهم عن ٥%. فماذا أعدّ هؤلاء للمجتمع في عمومه وغالبيّته، أي لنسبة الـــ ٩٠%، وهي الغالبيّة العظمى من المجتمع؟ لا شيء! وهذا ليس زعماً منّي، بل هو ما شهدناه وعايشناه جميعاً خلال سِنِيِّ حكمهم البائدة والمقيتة. وتكمن ضلالتُهم في اختزال الإسلام كلّه، كنظام حكم، في العقوبات ليس إلاّ.
ولكن هل هذه هي كلّ الضّلالة التي وقعوا فيها؟ أبداً والله! لقد زادوا عليها ضلالةً فوق ضلالة! فقد نظروا إلى الدّولة الوطنيّة على أنّها غنيمة حرب قد غنموها (وكنّا سنعذرهم لو أنّهم فعلاً خاضوا حرباً حقيقيّة في سبيل نيل هذا). وهكذا كان مناط مصطلح “التّمكين” الذي سكّوه بأنفسهم، فماذا يا تُرى يعني هذا المصطلح؟ إنّه يعني أنّه لا يحقّ لكائنٍ من كان من أبناء الشّعب أن يعمل بالدّولة في الوظائف العامّة ما لم يكن ينتمي لتنظيمهم الضّلالي، ولو كذباً ونفاقاً (وتكاد الخدمةُ المدنيّة أن تكون قد اكتظّت بهؤلاء المُداهنين المنافقين، وهم لَعَمْري أشدُّ كفراً ونفاقاً من الأعراب، ذلك لأنّهم بِطانةُ الكيزان، ولو كان فيهم خير، لما بقوا في وظائفهم). هذه هي ضلالةُ الكيزان الكبرى! فهم بهذا قاموا بهدم أسس الدّولة الوطنيّة التي لا تدخل في ضمائر النّاس لتفتيش قناعاتهم ونوع إيمانهم. هؤلاء الكيزان ليسوا فقط متخلّفين بأربعمائة عام فحسب، بل لقد أعادوا إنتاج التّاريخ، لا في صورة المجتمع الإسلامي الأوّل الذي تظاهروا بأنّهم إنّما يعملون من أجل استرجاعه، بل أعادوا إنتاج التّاريخ في أسوأ صوره، ألا وهي العصور الوسطى المسيحيّة التي شرعت فيها الدّولة في تفتيش ضمائر النّاس حتّى أنشأت لذلك محاكم هي محاكم التّفتيش سيئة السّمعة. ألا كم صدق رسولُنا الكريم عندما قال بأنّ هذه الملّة الضّالة سوف تتّبع ضلالات النّصارى حتّى أنّهم، لو دخل النّصارى جحر ضبٍّ، لدخلوه وراءهم. وبالفعل، دخلت دولة محاكم التّفتيش في جحر ضبّ وانتهت إلى مزبلة التّاريخ، هذا بينما دخلت دولة الكيزان في فتيل، وهو لعمري المرحلة السّابقة لدخولهم جحر الضّب! ذلك لو اللهَ قد هدى حكومتَنا لكلا الحسنيين: العزل السّياسي للكيزان بمختلف مشاربهم وأسمائهم، ثمّ السّجن لمن أجرم مالاً أو فعلاً.
الفساد الزّاخم باسم الإسلام
والزّخمُ هو رائحة الفطيسة المُنتنة، ولَعَمري هذا ما شممناه في عهد الإنقاذ من فسادٍ وأكلٍ لمال السُّحت والحرام، نهباً للمال العام والخاص، خالفوا فيها كلّ قيم الإسلام حتّى شهد فيها عليهم كبيرُهم الذي علّمهم السّحرَ أوّل أمرهم وأكل مال السُّحت. وما هذا إلاّ لأنّ فكرَهم المُدّعَى لا يوجد فيه شيء اسمه الدّولة الوطنيّة. وأحرمُ محارم الدّولة الوطنيّة هي، أوّلاً، السّيادة على الأرض (وقد فرّطوا فيها ودرجوا على بيع أرض الوطن بالمتر والكيلو متر المربّع)؛ ثمّ، ثانياً، السّيادة الوطنيّة (وقد فرّطوا فيها حتّى ملأت مركبات القوّات الأمميّة ومليشيات الجنجويد الأجنبيّة علينا الشّوارع)؛ ثمّ، ثالثاً، المال العام (وما أسموه بالمال العام إلاّ لأنّه ملك الشّعب، لا الحاكم)؛ وهذا سرقوه ونهبوه، نقداً وعيناً بطريقة كشفت عن درجة من عدم “الاختشا” لم يكن أحد يتصوّرُها فيهم من باب حسن الظّنّ العريض (لكنّهم أثبتوا أنّهم يفوقون سوء الظّن ــــ فتأمّل)؛ ثمّ، رابعاً، قتل النّفس التي حرّم اللهُ قتلها إلاّ بالحقّ، فقد قتلوا قطاعات كاملة من الشّعب، بمسلميه ومسيحيّيه وكريم معتقداته، ليس بالواحد والعشرات، بل بالمئات من الآلاف المؤلّفة، بل بالملايين، فانظر وتأمّل! لقد جاؤوا إلى السّلطة وهم شبه عراة من الثّروة والغنى، ثمّ عندما أتمّ اللهُ لهم أجلَهم المعلوم، برزوا للنّاس وهم كأثرى ما يكون الثّراء الفاحش، نهبوه من مال الشّعب بشره دنيوي لا مكان فيه لحنان الدّين وتحنانِه. لقد تمرّغوا في وحل الفساد المالي والأخلاقي كما يتمرّغ الخنزير في قاذوراته. ما يُبكينا ويُؤلمُنا أنّهم فعلوا كلّ هذا باسم الإسلام! فليت عَمري ما كانوا فاعلين لو أنّهم أتوا للحكم باسم الكفر والإلحاد؟ لربّما كانوا أرحم! إذ لا توجد في تاريخ البشريّة موبقة أكبر فسوقاً وانحلالاً من استغلال الدّين والمتاجرة به.
كثيرون يظنّون أنّ الكيزان جاؤوا إلى الدّنيا وهم بهذه الصّفات المشينة التي عادةً ما يتوارى منها النّاسُ خجلاً. ولكن الحقيقة هي أنّ الكيزان منّنا وفينا، فهم لم يسقطوا علينا من السّماء. لقد وُلدوا معنا وعاشوا في قرانا والتحفوا بلحاف الفقر النّبيل سنواتٍ عددا. كما هم من أسر طيّبة، ولدتهم أمّهات إذ تعالت صرخاتُهُنّ في المخاض والطّلق كأيّ واحدٍ منّا، وأقاموا لكلّ واحد منهم “سماية” فيها فرحوا بهم واحتفلوا، وكانوا قرّة أعين أمّهاتهم وآبائهم؛ ثمّ دخلوا المدارس، أكان في زماننا نحن السّتّينيّين وما فوق، حيث لبس منّا الميسورون جلاّبيّة البوبلين، بينما لبس الفقراءُ منّا، وهم الأغلبيّة، جلاّبيّة الدّبَلان، وفي الشّتاء لبسوا جلاّبيّة الدّمّوريّة وزن ١٠ .. إلخ. كما أكلوا الفول بالكسرة المرّة في الدّاخليّات، وكذلك العدس العامر بعدد الحصى وعدد الرّمل، فما اشتكوا وما تزمّروا، وكيف يكون ذلك والجميع فقراء تعولُهم أمّهم الحنون: الدّولة الوطنيّة! فالكيزان من جيل السّتّينيّين فما فوق هم “أولاد وبنات الحكومة” يا سادتي! ومن هؤلاء جاء أسوأُ الكيزان طبعاً وطبيعةً! فكيف حدث هذا؟ وأين ذهب نُبلُ الفقر وحنانُه، وأين ذهب الدّينُ وتحنانُه؟
كلّ هذا ضاع لغياب المنهج المستهدي بالدّين حقيقةً، ثمّ الهادي إلى سواء السّبيل والحقّ! كيف ولماذا؟ أقصر الإجابات لأنّهم، لعلّةٍ اجتماعيّةٍ مرضيّةٍ تغشى المجتمعات بين عصرٍ وآخر، استبطنوا في وعيهم غير المباشر هوان شعبهم وملّتهم في عمليّة صراع السّلطة على المستوى الإقليمي والدّولي (مجتمع المسلمين المتخلّف والمسيطَر عليه في مواجهة مجتمع النّصارى المتقدّم والمهيمن)، لكن دون أن يعمدوا إلى وعيهم المباشر كيما يستمدّوا منه وبه روشتّة الخروج من مأزق التّخلّف والتّبعيّة. هذا لأنّهم يستبطون ما يعايشونه، أي لا يقومون بترفيعه للوعي المباشر كيما يُعملوا فيه العقل. ولهذا عادةً ما يميلون للتّقليد والاتّباع والطّاعة العمياء، على أمل أنّ من يقودهم مؤهّل للبلوغ بهم إلى أرض الميعاد. فجميعُ الأذكياءُ الوطنيّون يمرّون بحكم الضّرورة بما يمرّ به هؤلاء الاستبطانيّون، ولكن الفرق يكمن في أنّ الوطنيّين الأذكياء لا ينكفئون على واعيتهم غير المباشرة، يجترّون مراراتِهم فتزيدُ بذلك مراراتُهم حتّى تخرجَ بهم عن سواء السّبيل، بأنّ تصبح غُبناً مرضيّاً ينهش الرّوح ويُذهبُ العقل. الوطنيّون الأذكياءُ يعمدون إلى واعيتهم المباشرة، أي إلى قدراتهم التّفكيريّة المباشرة عسى أن يفتح اللهُ لهم بذلك فكراً واقعيّاً هادياً مستنيرا. هذه بينما يظلّ الاستبطانيّون يجترّون مراراتِهم حتّى تفيضَ بهم عن أنفسهم غُبناً مرضيّاً طاغياً يجعلهم غير أسوياء Abnormal بالمرّة. هنا يعوّض هؤلاء عن مرضيّتهم هذه بأن ينكفئوا على ماضٍ زاهرٍ يستمدّون من صوره الزّاهية القدرة على المحافظة على حالتهم غير السّويّة، بجانب استمداد الطّاقة منه للمُضيّ قُدماً في حياة منقسمة بين واقعٍ مادّيٍّ لا مناص من أن يعيشوه، وبين ماضٍ زاهٍ يتملّونه كلّ صباح ومساء من باب التّمنّي. فإلى ماذا ينتهون؟ سوف ينتهون لا محالة إلى حالة من الانفصام بين عالمين: الأوّل عالم مادّي يعيشونه عبر الانصياع لكلّ شروطه الطّاغية، يعبّون منه بالضّرورة وبالرّغبة الخفيّة، وعالم آخر في أذهانهم يحلمون باستعادته لتحريرهم من واقعهم الطّاغي الذي ينصاعون له، عالم رومانسي ذهني ليس إلاّ، لكنّهم يغلّفونه بورق التّاريخ الزّاهي. وهكذا يتطوّر بهم الأمر إلى أن يصبحوا طُهرانيّين Puritanical بمعنى أنّك إذا نظرت لحالهم، لهالك ما هم عليه من شدّةٍ بالنّفس يأخذونها بلا هُوادة، بينما يبدو لك تعايشُهم مع الواقع على أنّه من باب الصّبر على الأذى. كلّ هذا بينما هم لا يعرفون من أمرهم رَشَدا، وكيف يحقّقون ما يحلمون به أيقاظاً غير نيام.
فكيف يا تُرى يعملون على استعادة ماضيهم الزّاهي الذي يحلمون به ليل نهار؟ عبر السّعي المحموم للسّلطة على المستوى الوطني، ولو بطريقة الغاية تبرّر الوسيلة. وهنا تكمن بذرة الضّلالة! فهم في سعيهم المحموم هذا، يسخّرون غُبنهم النّبيل هذا ليخدم كطاقة تنظيميّة، لا كطاقة فكريّة. وفي مقابل هذا القصور الفكري المريع، يعمدون إلى الشّعارات يلهبون بها ظهور المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه، وهو نفس المجتمع الذي أنجبهم، وهو بالضّرورة قد استشعر جميع ما مرّوا به من مرارات. وهنا يكمن الفرق بين الثّقافة في انفتاحها وكيف أنّها تنتهي بالذّكاء توليداً واعتمالا، وبين الأيديولوجيا في استغلاقها بوصفها أحد أخطر الفيروسات التي تصيب الثقافة في مقتل، وكيف أنّ الأيديولوجيا تولّد الغباء الأيديولوجي. فالمجتمع يعيش في الثّقافة ولهذا هو يعيش حالةً من الذّكاء تقيه شرور الوقوع في استبطان مراراته وأوجه قصوره الحضاري، هذا بينما المجموعة الاستبطانيّة المرضيّة تفعل العكس، كونها تنكفئ على نفسها داخل تنظيمها القائم أصلاً على الأيديولوجيا، لا على الفكر (الذي لا يزدهر إلاّ في فضاء ثقافي، لا أيديولوجي). وهنا يلعب أعضاء هذا التّنظيم الظّلامي دوره في ابتزاز المجتمع بشعاراتهم الأيديولوجيّة، من قبيل تطبيق شرع الله (ولا يعنون بها غير القوانين الجزائيّة)، وتحقيق عدالة السّماء (هذا بينما هم في أعماقهم لا يعرفون كيف يحقّقون هذا)، والمساواة بين النّاس (هذا بينما هم بدرجة من الغُبن والغضب الدّاخلي الذي يكويهم بناره من الدّاخل حتّى لا يمكنهم أن يتحمّلوه إلاّ بإسقاطه على المجتمع نفسه الذي يريدون إنقاذه، فإذا بهم يكفّرونه ويتعاملون معه كما لو كان غريمهم وعدوّهم. وهكذا تستمرّ مثل هذه التّنظيمات المَرَضيّة النّاجمة عن المجتمعات المأزومة في التّمدّد في المجتمع، مستغلّةً تكتيك ابتزاز المجتمع عبر الشّعارات التي توعده باستعادة أمجاده من جانب، ثمّ عبر الانقياد الأعمى والطّاعة العمياء للتّنظيم وقيادته، ضلالةً منهم حيث يوهمون أنفسهم أنّ ذلك من طاعة الله، واللهُ ورسولُه وأنبياؤه والمؤمنون براءٌ ممّا يفعلون، إن هم إلاّ مرضى اجتماعيّون ليس إلاّ.
ولهذا، لا يصلون إلى السّلطة إلاّ عندما ينجحون في الانحراف بقطاع كبير من المجتمع، ذلك بنقله من براح الثّقافة وذكائها إلى ضيق الأيديولوجيا وغبائها. وهذا ما أسميناه بالأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، لا نعني بها العروبةَ كما لا نعني بها الإسلام؛ لا نعني بها الثّقافةَ العربيّة الكريمة، كما لا نعني بها الثّقافةَ الإسلاميّة السّمحاء. فالثّقافةُ انفتاح وذكاء، بينما الأيديولوجيا انغلاق وغباء. ويتمكّنون من هذا بسبب تراوح المجتمع (مجتمعنا السّوداني تحديداً) وتجاذبه ما بين هويّته الحقّة بوصفه شعباً أفريقيّاً أسود (حتّى أسموا بلده باسم “السّودان” ما يعني “السّود”)، هذا بجانب كونه شعباً عربفونيّاً (أي ناطقاً بالعربيّة دون أن يكون عربيّاً بالضّرورة)، وما بين الصّورة الذّهنيّة عن أنّنا لسنا فقط عرباً، بل نحن عربُ العرب ونحن أصل العرب وبالتّالي أصل الإسلام، وأنّنا إذا لم نفعل هذا، فإنّ العروبة والإسلام في السّودان سيصبحان مهدّدين وربّما تذهب ريحُهما.. إلخ هذه الأوهام. من هنا جاءت قابليّة قطاعات كبيرة من المجتمع السّوداني الشّمالي (أي في مقابل جنوب السّودان)، الوسطي الشّمالي النّيلي منه خاصّةً، للخضوع لهذا التّيّار الابتزازي المرضي. وما إشارتُنا إلى هذا القطاع الأخير إلاّ لأنّه يبرز بوصفه النّموذج الذي ينبغي اتّباعه في عمليّة إعادة إنتاج الهويّة الأفريقيّة السّوداء داخل الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة عبر مجموعة من عمليّات التّرميز التّضليلي، منها خديعة أنّ هذه العمليّة تقع داخل حقل الثّقافة، وما هي بذلك. فأدناه سوف نوضّح كيف أنّ كلا الثّقافتين العربيّة والإسلاميّة (هنا أيضاً لا نعني العروبةَ كما لا نعني الإسلام) كانتا من أكبر ضحايا دولة الكيزان المندحرة، وسنكشف كيف تدهورت مستويات اللغة العربيّة في المدارس والجامعات، بقدر انهيار مؤسّسة القيم الأخلاقيّة بين قطاعات كبيرة من الشّعب.
الكيزان هم آل البوربون السّودانيّون!
من مخايل الغباء الأيديولوجي هو ألاّ يتعلّم المرء، لا من أخطاء الآخرين، ولا من أخطائه هو نفسه. وقديما قال المثل: العاقلُ من اتّعظ بغيره، والغافلُ من اتّعظ بنفسه، والأخرقُ من لا يتّعظ أبدا، لا بغيره ولا بنفسه. وعلى هذا يظلّ يقع في نفس الخطأ المرّة تلو الأخرى دون أن يُدرك هذا. لقد فشل الكيزان في إنقاذ نظامهم المتهالك لحوالي نصف عام من المدّ والجزر الثّوري المتصاعد باستمرار، ذلك عندما وجد نفسه في مواجهة الثّورة الشّعبيّة المجيدة، ذلك بعد ثلاثين عاماً من مسكتهم الحديديّة للسّلطة. فكيف سيتمكّنون الآن من استعادة الحكم بعد سقوط نظامهم السّياسي وتساقط رموزهم، جانباً عن احتراق مشروعهم تماماً بحسب ما يقولُه عقلاؤهم الذين لا يزالون يحتفظون ببعض من حسّهم السّليم لانتمائهم لهذا الشّعب، مقرّين بالأخطاء والخطايا التي ارتكبوها في حقّ هذا الشّعب الصّابر؟
كيف جاز لهذه القوى المندحرة أن تتوهّم ولو لحظة أنّه في مقدورهم أن يستعيدوا دولتهم التي مدّ اللهُ لهم في طغيانها حتّى أذِن اللهُ في شعبه المقهور أن هبّوا وأزيلوا عنكم حكم الجبروت والكهنوت والظّلموت والنّهبوت والسّرقوت؟ لا يمكن فهم هذه العوصاء إلاّ باستصحاب ما قلناه عن ظاهرة الغباء الأيديولوجي! كيف لا وقد بلغت بهم العِماية، عِمايةُ الأيديولوجيا وغبائها، أن يظُنّوا (وبعضُ الظّنِّ إثمٌ) أنّهم إذا تظاهروا على أنّهم من الثّوّار وشرعوا في حرق اللساتك ها هنا وها هناك، وهتفوا بهتافات الثّورة، في الأسواق وفي الصّينيّات الكبرى، سوف تنطلي الحيلةُ على جموع الشّعب، وبذلك يتمكّنون من استعادة دولتهم التي أذن اهُا في سقوطها، إذ هبّ الشّعبُ ضدّها وهو على قدرٍ مع التّاريخ؟ هل هناك غباء أكثر من هذا؟ إنّ عشرين كلباً إذا اجتمعوا، زاد ذكاؤهم حتّى لأمكنهم أن يتفوّقوا بذلك على الإنسان. فكيف بجموع الشّعب التي خرجت بالملايين وهي كالتسونامي، لا تُبقي ولا تذر؟ كيف جاز على هؤلاء الكيزان المتاعيس ألاّ يكتسبوا العظة من كلّ هذا؟ أقصرُ الإجابات، ذلك لأنّهم لا يؤمنون بالشّعب! كيف؟ ببساطة لأنّهم لا يؤمنون بالدّولة الوطنيّة! فقبل بزوغ شمس الدّولة الوطنيّة، لم يكن هناك شيء اسمه الشّعب؛ بل كان هناك الرّعايا، لا الشّعب. ومن الشّعب تتطوّر الأمّة! هذه كلّها مؤسّسات اجتماعيّة سياسيّة لم تكن معروفة قبل تدشين مشروع الدّولة الوطنيّة بموجب اتّفاقيّة ويستفاليا بين الإمبراطوريّة الرّومانيّة من جانب وما كان يعرف وقتها بجمهوريّة الأراضي المنخفضة. لقد أوقفت تلك الاتّفاقيّة وبروز الدّولة الوطنيّة القائمة على حقوق المواطنة ثلاثة حروب تعتبر الأطول في تاريخ أوروبّا، ألا وهي حرب المائة عام، ثمّ حرب الثّمانين عاماً ثمّ حرب الثّلاثين عاماً. وبذلك برزت إلى الوجود مؤسّسة الدّولة الوطنيّة التي تستمدّ سلطاتها في الحكم من الحقّ الأرضي Secular، أي من الشّعب، لا من السّماء، أو المقدّس Holy، كما كانت تدّعي الإمبراطوريّة الرّومانيّة المقدّسة The Holy Roman Empire. فالحاكم لا يحكم لأنّ الهّ قد فوّضه بالحكم، بل لأنّ الشّعب هو الذي فوّضه بالحكم، ذلك لأنّ الشّعب هو مصدر السّلطات. وهذا ما دفع أوروبّا إلى التّحوّل الدّيموقراطي رويداً رويدا، وتحويل الأنظمة الملكيّة القابضة على الحكم إلى أنظمة ملكيّة دستوريّة. ولهذا كانت الدّيموقراطيّة هي حكم الشّعب بالشّعب وللشّعب. الكيزان وكلّ من والاهم بالباطل ممّن أشرنا لهم، لا يؤمنون بهذا. فبماذا يؤمونون؟ إنّهم يؤمنون بالسّلطة والتّسلّط والفساد وظلم العباد ثمّ تفكيك البلاد. هذا هو ما يؤمنون به بحكم ما عايشناه من تجربة كادت أن تذهب بريح السّودان، أقدم مؤسّسة دولة في تاريخ البشريّة، ذلك لولا أن أذِن الله بهذه الثّورة المجيدة.
كيف فات كلُّ هذا على هؤلاء الكيزان المتاعيس! طبعاً بالغباء الأيديولوجي! في هذا برز الكيزان وهم فعلاً يُعيدون إنتاج تجربة مسيحيّة غربيّة عفا عليها الزّمن. إنّها تجربة أسرة البوربون الذين حكموا أوروبّا لعشرات العقود من الزّمان، أطول من عقود الكيزان الثّلاثة، حتّى ركبهم الوهم، وهم الأيديولوجيا وغبائها، بأنّهم خالدون فيها أبدا ـــ بالضّبط كما ركب هذا الوهم هؤلاء الكيزان المساكين لمجرّد ثلاث عقود ليس إلاّ. ثمّ شرعت الأيّام تعصف بعروش آل البوربون الواحدة تلو الأخرى وهم في غيّهم يعمهون، غير مصدّقين أنّ مُلكَهم سيزول. وقد جعلتهم عِمايتُهم وغباؤهم الأيديولوجي ذلك غير قادرين ليروا الأمور كما هي على الأرض. وكانوا في كلّ مرّة يثبتون أنّهم غير قابلين للتّعلّم من أخطائهم، كما كانوا غير قادرين على التّحرّر من فكرة أنّهم الملوك حتّى بعد زوال ملكهم لعقود وعقود. وفي هذا قال عنهم التّاريخ والمؤرّخون إنّ آل البوربون لم ينسوا شيئاً كما لم يتعلّموا شيئاً! لقد دخل آل البوربون في جُحر ضب، وهنا تحقّقت نبوءة الحديث الشّريف، فإذا بكيزان السّودان يسعون بأيديهم وأرجلهم ليدخلوا في جُحر الضّبّ الذي دخل فيه آل البوربون، وها هم الآن، على حين، يدخلون في فتيل، فأنعم به من مصير. لقد وافق شنٌّ طبقه!
إلى أين ذهب آل البوربون؟ لقد ذهبوا إلى مزبلة التّاريخ ولم يبقَ منهم أيّ شيء بخلاف هذا المثل الذي استشهدنا به. فإلى ماذا سينتهي الأمر بكيزان السّودان المتاعيس هؤلاء؟ بالطّبع سيذهبون إلى مزبلة التّاريخ، غير مأسوفٍ عليهم، كأيّ مجموعة ضالّة ومُضِلّة عاشت في التّاريخ لكنّها عجزت عن أن تكتسب أيّ فهم تاريخي، دع عنك أن تصنع التّاريخ. ذلك لأنّهم لا ينسون شيئاً، كما لا يتعلّمون أيّ شيء! ويبقى الدّكتور عمر القرّاي، هبة السّماء للتّعليم العامّ في السّودان!