الخروج من الذات لملاقاة الآخر!

رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ:

0 61
الحرَكة الشَّعبية، والبَحْثِ عن السَّلام ووحَدَّة البلاد
.
كتب: د. الواثق كمير
.
الحلقة (14)
بين القاهرة وأسمرا: منصور ولواء السُّودان الجديد
قوات التحالف السُّودانية
كنت قد أشِرتُ في الحلقة (12) للقيام بزيارة إلى أسمرا للتفاكر وتبادل الملاحظات مع ياسر عرمان على برنامج المبادرة، والعضوية المتوقعة، بحسب تكليف د. جون ود. منصور لي عند لقائي بهما في نيروبي، في 30 مارس 1995. وفي نفس الحلقة، ذكرت أيضاً أنه في سياق السعي لبلوَّرة “الوثيقة المفاهيمية وبرنامج العمل” للواء السودان الجديد، عقدنا اجتماعاً لمجموعة القاهرة، في 7 أبريل 1995. أبلغت المجتمعين بأني أعُد لزيارة لأسمرأ بخصوص المبادرة، فطلبوا من أن أبتدر الحوار حولها مع قوات التحالف السودانية بحكم تقارُبِها الفكري والسياسي مع الحركة الشعبية، ومقابلة قائدها أثناء تواجدي بأسمرا. فقد اتفقَّ المجتمعون بأن لواء السودان الجديد لا يتناقض، من حيثُ المبادئ والأهداف العامة، مع برامج وتوجُهات التنظيمات السياسية المشكلة حديثًا، خاصة قوات التحالف السودانية، التي وجدت في نظر البعض، قدرًا من الاهتمام الإعلامي، وتنامي عدد السودانيين المؤازرين لها. حقاً، فقد كان منصور يطلق على قوات التحالف “اللاعب الجديد الأول” في المشهد السياسي كتنظيم سياسي ضم نخبة من المثقفين الشماليين الذين لم تُرضِ طموحاتهم مناهج العمل في الأحزاب اليسارية فهجروها ليلتقوا بمجموعة من العسكريين الوطنيين الذين اختاروا النضال المسلح – لا الانقلاب – كوسيلة للعمل السياسي. كلفني المجتمعون بمقابلة العقيد عبد العزيز خالد في أسمرا وطرح الأمر عليه، وكنت يومئذ على وشك المغادرة إلى المملكة العربية السعودية للعزاء في أخي العيدروس الذي وافته المنية في جدة.
وصلتُ إلى أسمرا في 18 أبريل 1995، وأبلغني ياسر مدير مكتب الحركة بأسمرا، والذي كان حاضراً في اجتماع القاهرة، ومدير مكتب الحركة بأسمرا، بأنَّ اجتماعي مع قيادة قُوَّات التحالُف قد حُدِّد له اليوم التالي من وصولي. وبحسب ترتيباته، ذهبتُ إلى المنزل الذي يقيم فيه العميد عبدالعزيز ووجدتُ معه اثنين من قيادات التحالف، هما الـعقِّيد معاش دانيال دينق (المُسمَّى عيسى حركياً) والمُقدَّم معاش عبدالرحمن عبدالمطلب، وكان من الحضور النقيبين شرطة معاش مجدي الطيب طه ،عبد الله محمد طه. ابتدر عبدالعزيز الاجتماع، بتقديم تنويرٍ عن قُوَّات التحالُف وتاريخ نشأتها، وأنهم في أوَّل الطريق ويعملون على ترتيب أوضاعهم لحين الشُرُوع في العمل الميداني، ومُشاركتهم في اجتماع ما عُرف بـ“مؤتمر القُوى الرئيسيَّة”، الذي عُقد في نوفمبر 1994 بأسمرا. ولذلك، فهو يرى، مقارنة مع القُوى الأخرى المُكوِّنة للتجمُّع الوطني، أنَّ الحركة الشعبيَّة هي الأقرب لهُم فكرياً وسياسياً، ممَّا يستدعي التعاوُن المُشترك معها في مجالي تبادُل المعلومات والتعارُف على الحُلفاء (إثيوبيا وإريتريا) حتى يحين الوقت لبدء عمليات التحالف العسكريَّة. ومن ثمَّ عرضتُ عليهم مبادرة “السُّودان الجديد” وهدفها الرئيس، وضرورة الحوار حولها حتى تكتمل أركانها، وأنَّ الاجتماع مع التحالف هو أوَّل خُطوة في النقاش قبل نقله للمجموعات الأخرى. وبعد أن أكملتُ حديثي، وجَّه عبدالعزيز “عيسي” للردِّ عليَّ، والذي جاء ردُّه فاجعاً لي، إذ قال بالحرف: «إنَّ الهدف الرئيس وراء مبادرة لواء السُّودان الجديد هو أنَّ الحركة تسعى لسحب البُساط من تحت أرجُلنا!». وهذا المنطق بالذات لم يكن يُبشِّر ببداية طيِّبة، فبدلاً من الترحيب بمبادرة أتتهُم من الجهة التي وصفوها بالأكثر قُرباً لهُم فكرياً وسياسياً، جاء الرَّد صادماً، ولم يطلبوا حتى فرصة للاضطلاع على وثيقة المُبادرة لكي يرجعوا لي بالرَّأي القاطع. والأدهى في الأمر، لم أفهم من إيكال الرد عليَّ إلى دانيال دينق “عيسى” إلا أنَّ المقصود هو طالما المُبادرة أتتهُم من “جنوبي” فينبغي أن تكون الإجابة بالمثل من “جنوبي” آخر! مما هزم فكرة “السُّودان الجديد”، التي أبدوا إيمانهم بها، تماماً. ذلك، وكأنما عبدالعزيز أراد أن يقول أنه “جون قرنق الشمال”، وأنَّ جُون قرنق الحركة الشعبيَّة هو “جون قرنق الجنوب”. لم أرغب في أن أضغط على هذه النقطة لأنني أدركت أنه لن يكون متجاوبًا لو فعلت ذلك. فضلت بدلاً من ذلك، أن أشدد على أنه لا يوجد تناقض واضح بين ما تطمح إليه مبادرة لواء السودان الجديد وما يسعى التحالف لتحقيقه، وأن الجميع يمكنهم أن يتكاتفوا لمحاربة العدو المشترك. وهذا ما وافقني عليه.
خاب ظنَّ منصور في “اللاعب الجديد” بعد أن أبلغتُه هو وياسر ود. جون بما دار في الاجتماع، ثمَّ توالت الأيام لتُثبت التضارُب في التوجُّه والمنهج بين قُوَّات التحالُف والحركة الشعبيَّة، من جهة، وبينها وبين التجمُّع، من جهة أخرى. موقفان، على سبيل المثال، فاقما خيبة أمل منصور في قُوَّات التحالُف. أولهُما، على حدِّ تعبيره: «أوحى التحالُف للإريتريين بوجود مجموعاتٍ عسكريَّة جاهزة للانقضاض على النظام في الخُرطوم، ودعمٌ جماهيري كثيف خاصة بين الطلاب والشباب، وتأهُّب من جانب الجماهير لاستقبال المُحرِّرين. ذلك الادعاء لم تثبته الأحداث من بعد، بل ثبت أنه كان غرٌ لم يتبعه استيقان وتمنية للنفس بالباطل» (شذرات 2018، نفس المصدر، الجزء الثالث، ص 200). أمَّا الموقف الثاني، فيتلخَّص في التوتر الذي حدث فيما بعد بين التحالُف والحركة من ناحية، وبينه وبين التجمُّع، من ناحية أخرى. وهُنا أقتبسُ مُطوَّلاً من منصور: «مصدر التوتر كان هُو اقتراح الإريتريين بإيعازٍ من التحالُف بوضع قُوَّات الحركة التي حُشدت في الجبهة الشرقيَّة (جُلُّهم كان من الجنوب وجبال النوبة) تحت إمرة قائد التحالف. ذلك الاقتراح أغضب التجمُّع ولا سيَّما أنهم قد رأوا فيه محاولة من الإريتريين لتجاوز القيادة العسكريَّة لقُوَّات التجمُّع في الشرق وتركيز الاهتمام على قُوَّات التحالف. من ناحية أخرى، أثار الاقتراح ثائرة الحركة، خاصة عندما طُلب منها وضع جيشها تحت إمرة قائد فريق آخر.. ورغم التعاون الوثيق بين قيادة الحركة والقيادة الإريترية، بدا للحركة أن ثمَّة لعبة تدور بحيث يكون هناك عملٌ عسكري في الشمال يقوده عبدالعزيز خالد “قرنق الشمالي”، والحركة الشعبية في الجنوب التي يقودها “قرنق الجنوبي“، على أن تصبح فيه قُوَّات الحركة المُرابطة بشرق السُّودان قوَّة إسنادٍ لعبدالعزيز». هكذا، جاء انطباعُ منصور مطابقاً لاستنتاجي من اللقاء الذي جمعني مع القائد عبدالعزيز وتصوُّره لقُوَّات التحالُف في مقابل الحركة الشعبيَّة وقائدها. فمنصور لا يرى أن في وصفه لعبدالعزيز بـ“قرنق الشمالي” ليس بتخمينٍ، بل يؤكده حادثٌ رواه منصور عن زيارة لعبدالعزيز له في محل إقامته بفندق نيالا بأسمرا. ففي تلك الزيارة، روى عبدالعزيز لمنصور كيف نشأت قُوَّات التحالُف، وما هي عناصر قُوَّتها في الداخل والخارج، وأضاف: «لو كنا قد حققنا ما حققنا قبل انضمامك للحركة لما اضطررتَ للانضمام إليها!». يقول منصور أنه ردَّ عليه بكلمة تُنبئ عن التعجُّب: «“بالله”! إذ طرأ على ذهني أنَّ ظناً انتاب الأخ “المقاتل” بأنَّ كل الذي دفعني للانضمام إلى الحركة هو وجود ضابط عظيم على رأسها يقود جيشاً عرمرماً، وليس هُو اللقاء مع مُفكِّرٌ سياسيٌ واستراتيجيٌ عسكري، يُنقِّبُ في الكتب عن تاريخ الحروب منذ عهد صانزو، وعبوراً بحرب البلبونيز إلى حرب فيتنام، ناهيك عن حرص هذا “العسكري” للتعرُّف على ظواهر مثل التنوُّع العرقي والديني والثقافي والاجتماعي في الأمم ووسائل إدارة ذلك التنوع» (شذرات 2018، نفس المصدر، ص 202).
قبل أن أنتقل إلى موضوع آخر بخصوص “لواء السودان الجديد”، أختمُ هذا الجزء برواية كان لمنصور دوراً فيها أيضاً فيما يتصلُ بقُوَّات التحالف السُّودانيَّة. ففي أعقاب محاولة اغتيال الرئيس حُسني مبارك بأديس أبابا في 26 يونيو 1995، قامت قُوَّات الأمن الإثيوبيَّة باعتقال، لمُددٍ مختلفة، وترحيل عدد من السُّودانيين خارج البلاد بإيعازٍ من السفارة السُّودانيَّة، ممثلةً في السفير عثمان السيد وطاقمه الأمني. كان إبراهيم إسماعيل، الصديق المُشترك بيني ومنصور، أحد هؤُلاء المُرحَّلين إلى أسمرا، في 25 سبتمبر 1995، ولو أن خطتهم الرئيس هي ترحيله إلى السودان. ولغرض الحماية، لجأ إبراهيم إلى قُوَّات التحالف واعتبرها ملاذاً آمناً له حتى يتمكَّن من مغادرة إريتريا. وكان قد وضح في نقاشه مع قيادات التحالف أنه على استعداد لخدمة التنظيم ولكنه غير مستعدٍّ للتدريب العسكري. ومع ذلك، حاولت قيادة للتحالف إرغامه للذهاب إلى الميدان. فقرر تقديم استقالته وإخلاء طرفه، التي تم رفضها ليرتدَّ الأمر عليه، ممَّا عرَّضه إلى مخاطر لم تكُن في حُسبانه. فعندما قرَّر مغادرة أسمرا، لم تسمح له الأجهزة الأمنيَّة، بطلبٍ من قُوَّات التحاُلف، (ومعه للمُفارقة دانيال دينق الذي قال لي أنَّ “لواء السودان الجديد” هو بمثابة حيلة لسحب البساط من تحت أرجل التحالُف)، بمغادرة البلاد إلى مصر. وكان دانيال قد قدم استقالته من التحالف وشفعها بمذكرة ضافية عن إنتهاكات قوات التحالف لحقوق الإنسان. في ظِلِّ تلك الأجواء، قامت بعض قيادات التحالُف بالترويج وإشاعة خبر مفاده أنَّ إبراهيم ودانيال يمثلان عناصر هدَّامة ولا ينبغي السَّماح لهُما بالسَّفر وتمكينهم من إفشاء أسرار قُوَّات التحالُف، ممَّا جعلهُما يشعُران بخطرٍ يُهدِّد حياتهما. ولما ضاقت الأحوال بإبراهيم وتملَّكه الخوف، لم يكن راغباً في التحدُّث عن هذا الموضوع إلا لمنصور خالد، صديقه القديم وأخيه الكبير، فذهب إليه بفندق نيالا وكشف له الأمر بتفاصيله. لم يُخيب منصور ظنَّ إبراهيم، وإن كان على وشك السفر، فشرع فوراً في إخطار الدكتور الرَّاحل عُمر نورالدائم والمرحوم الفريق فتحي أحمد علي لمتابعة القضيَّة. بينما لم يُقصِّر ياسر عرمان أيضاً في هذا المسعى بحُكم معرفته بالقيادات الأمنيَّة، كما تابع الصديق نجيب الخير أمر تأشيرة خروجه، بل ورافقه للمطار حتى أقلعت رحلة مصر للطيران. أوصل د. عُمر والفريق فتحي الأمر إلى الرئيس أسياس أفورقي، بعد أن تعنَّتت هذه القيادات الأمنيَّة في فك حظر السَّفر عن إبراهيم الذي غادر أسمرا في منتصف يونيو 1996، وغادرها دانيال لاحقاً بعد أسبوع فقط. يومئذ، التقيتُ بإبراهيم في القاهرة ولسانه يلهجُ شُكراً وامتناناً لمنصور ودوره الكبير في الوقوف إلى جانبه حتى تمَّ إطلاق سراحه بالسَّماح له بالسفر، ووصفه بالموقف المُشرِّف الذي سيظلَّ مديناً له به ما بقي حياً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.