الخمور بين القانون والأخلاق (2)
كتب: د. النور حمد
من الملاحظات اللافتة للكاتب الكبير الطيب صالح قوله: رغم أننا قطر هامشي في منظومة الأقطار العربية والإسلامية، وليست لنا آدابٌ مكتوبةٌ، ولا آثارٌ يُعتد بها في بنية الحضارة الإسلامية، إلا أنا، رغم ذلك، حاولنا مرتين، ادعاء أن لنا دورًا مركزيًا في العالم الإسلامي، بل وفي العالم أجمع. قام الإمام محمد أحمد المهدي بثورته العظيمة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحقق إنجازين عظيمين على المستوى الداخلي، هما: تحرير القطر من المستعمر المصري، التركي، ومنح السودان حدوده الجغرافية الشاسعة. غير أن المهدي توهّم أن دعوته ودولته تحتلان موقعًا محوريًا ينبغي أن يلف حوله جميع العالم. ألغت المهدية العمل بالمذاهب، كما ألغت الطرق الصوفية، وكفَّرت كل من لا يؤمن بمهدية المهدي، وجعلت من منشورات المهدي وراتبه مرتكزا جديدًا للعقيدة، يَجِبُّ كل ما قبله. وبناءً على تصور أن المهدية رسالةٌ إلهيةٌ إلى الناس أجمعين، سيرت المهدية الجيوش لفتح مصر والحبشة. ووثب في الربع الأخير من القرن العشرين، الدكتور حسن الترابي وجماعته إلى السلطة بانقلاب عسكري. جاعلين من فكرتهم ودولتهم منصة ينطلق منها البعث الاسلامي ليعم مشارق الأرض ومغاربها. ولم يتعظ الدكتور الترابي ورهطه من التجربة المهدوية. فانتهت تجربتهم إلى كوارث متلاحقة ودمارٍ فظيعٍ فاق كل ما جرى في الحقبة المهدوية.
مصر هي موطن الأزهر، أعرق الجامعات الإسلامية. وتركيا هي مركز الخلافة الإسلامية العثمانية، حتى الربع الأول من القرن العشرين. غير أن هذين القطرين لا يحرمان صناعة الخمور، ولا الاتجار فيها، ولا تعاطيها. أما جمهورية باكستان الإسلامية فتمنع تعاطي المسلمين لها، ولا تمنع أن يتعاطاها غيرهم من أهل الديانات، وبها مصنع للخمور. أما ماليزيا وإندونيسيا فتسيران على نهج تركيا ومصر والمغرب وتونس والجزائر ولبنان والعراق وسوريا والأردن، أي نهج السماح بلا قيد. وتختلف درجة السماح قليلًا في دول الخليج. فسلطنة عمان والإمارات وقطر والبحرين، تسمح باستيراد الخمور وتقديمها في الفنادق، وبعض المطاعم. وفي هذه الدول منافذ لشراء المواد الكحولية، لكنها لا تبيع إلا لمن يحمل تصريحًا حكوميًا. لذا يستغرب المرء في تحريض عبد الحي يوسف للجيش للإطاحة بالحكومة المدنية، بدعوى أنها تهدم الدين. لماذا يا ترى يصمت عبد الحي، عن تقديم نفس الطلب للجيش التركي ليطيح بأردوغان؟
أرجو ألا يظنن أحدٌ أن سبب عدم تشدد هذا العدد الكبير من الدول الإسلامية، يعود لقلَّةٍ في المعرفة بالدين، أو تنكُّرٍ لأحكامه. في كل هذه البلدان علماء أجلاء. بل إن علماءنا تتلمذوا، عبر التاريخ، على علماء الأزهر منذ أيام السلطنة الزرقاء. السبب في تقديري، هو المعرفة بمقاصد الدين، وتوخي الحكمة في التشريع، وفهم الواقع العملي القائم. يضاف إلى ذلك، أن الأحاديث والوقائع المروية في أمر الخمر ورد في بعضها ما يؤكد أن العقوبة تنصب على السُّكْر، وليس على مجرد الشرب. وكما هو معلوم، فإن روايات الأحاديث وروايات الوقائع التاريخية، وردت بصورٍ مختلفة، تصل حد التعارض، أحيانًا. فالفقهاء المتشددون يعتمدون منها ما هو أكثر تشدُّدًا فيجعلوا منه تشريعًا عاما. أما المعتدلون فيميلون إلى النصوص والوقائع التاريخية التي تبتعد عن التشدد والغلواء. وسوف أورد نماذج من هذه الروايات المختلفة في عمود الغد، ومع ذلك، تبقى للحديث بقية. (يتواصل).