الخيار صفر، أو “الانقاذ 2”!!!
كتب: د. خالد التيجاني النور
(1)
لن يجدي أي مقال، مهما بلغت حيثياته، أكثر بلاغة في التعبير عن مدى التردي الاقتصادي الذي يضرب البلاد استقرار البلد في مقتل، من واقع الحال الذي احال حياة أغلب المواطنين في طلب الحد الأدنى من أمر معاشهم إلى جحيم لا يُطاق، ومع كل تلك الشكوى التي تنطق بها الألسن في ارجاء البلاد كافة، لا تكاد تجد للحكومة الانتقالية حس ولا خبر على الأقل في مشاركة مواطنيها عنتهم، أو الإحساس بعظم مصيبتهم، وهي سادرة في ضمان وتوفير امتيازات السلطة بخيلها ورجلها لتحالف النخبة الحاكمة غير آبهة بالضر الذي مس البلاد والعباد.
(2)
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الحكومة الانتقالية التي نتحدث عنها هنا لا تقتصر على السلطة التنفيذية، بل تشاركها المسؤولية الكاملة عن هذا التردي شركاء المرحلة الانتقالية كافة على حد سواء، العسكريون والمدنيون، القوى السياسية المنضوية لافتة الحرية والتغيير، والحركات المسلحة التي انضمت إلى السلطة بعد اتفاق جوبا، وكذلك هياكل الحكومة الدستورية المجلس السيادي، ومجلس شركاء الانتقال، ومجلس الوزراء ومجلس الأمن والدفاع، والمسؤولية هذه تضامنية لا يستطيع أي طرف أن يتبرأ منها، أو ينئى بنفسه معتقداً أن هذه مسؤولية خاصة بالجهاز التنفيذي.
(3)
والملاحظ تدثر جميع هذه الأطراف بالصمت إزاء ما يحدث وكأنه يجري في جزر سرنديب، وليس في هذه البلاد، وعندما تجد السلطات التنفيذية نفسها محاصرة بالضغوط الشعبية تلجأ إلى مؤتمرات صحافية باهتة تلقي بالمسؤولين عن بعض هذه الملفات في أتون وضع محرج لا يملكون فيه إجابة شافية ويحارون فيه دليلهم سوى ترديد حجتين في تبرير العجز التام عن مواجهة هذا التحديات، ولا يكاد المتحدث نفسه يبدو مقتنعاً بها، فالحجة الأولى إعطاء تبريرات تحاول أن تصور الأمر وكأنه يحدث صدفة، وتعزو عبثاً سوء الحال إلى تعقيدات فنية أو مشكلات إدارية، ولا شك أن تلأ أعذار فجة تتجاهل عن عمد أن الاقتصاد علم لا يعمل في فراغ، ولا يُدر بالتمنيات تنتظر أن تمطر السماء من الخارج حلولاً سحرية، ومما لا شك فيه أن الفشل الذي يصيب إدارة الاقتصاد ما هو إلا نتاج السياسات الاقتصادية التي راهنت عليها الحكومة واتبعتهامنذ تأسيسها الأول.
(4)
والتي تطرقنا إليها بالتفصيل في مقالنا السابق في هذا المقام، ما لا يحتاج إلى تكرار لا من باب التذكير بانه رهان استند بالكامل على وعود خارجية بدعم وإنجاح الحكم الانتقالي في مقابل تبني الحكومة لمشروع إصلاح اقتصادي خاضع لاشتراطات المانحين باتباه نهج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي، وما الثمرة المرة التي يدفع ثمنها المواطنون اليوم إلا المزيد من شظف العين في انتظار مساعدات لن تأتي إلا ب”القطارة” ولا تغني عن الإصلاح المزعوم شيئاً.
ومن المهم الإشارة هنا أيضاً إلى أن ملكية هذا البرنامج المعطوب لا تقتصر على السلطة التنفيذية وحدها، بلا تتشاركه على حد سواء كل مؤسسات الحكم الانتقالي بمكوناتها العسكرية والمدنية، وليس بوسعها أن تنفض يدها من عواقبها اليوم.
(5)
التبرير الآخر الذي يردده المسؤولون الحكوميون هي ثقل إرث النظام السابق، وحجته داحضة هي تحميلهم مسؤولية فشلها الراهن في إدارة دولاب الدولة، وهو أمر يشبه إطلاق المرءالنار على قدمه، ذلك أن كثرة تريده بلا وعي، إنما يقدح مروجوه في أنفسهم ويقرون بضعف كفاءتهم وقدرتهمعلى القيام بالمهمة التي أسندت لهم، ولماذا يعجزون مع كل الترسانة من الدعم الشعبي الذي حظيت به الحكومة في أول عهدها، والاستحقاقات الدستورية والقانونية، التي تؤهلها لإزالة أية عقبات تعرقل التحول، فأن تأتي بعد قرابة العامين من تولي السلطة شاكية، فذلك أدعى أن تقر بعجزها عن القيام الموكلة إليها، والحل ليس في ترديد أعذار واهية، بل أن يتنحى مرددوا هذه الحجة لبفسحوا الطربق لمن أهم أقدر على الوفاء بمهام الانتقال، فليست النخبة الحاكمة اليوم قدر لا مفر منه.
(6)
ولعل المفارقة الحقيقة تكمن ليس في العجز عن إزالة إرث النظام السابق، بل اتباع الحكومة الانتقالية لسياساته النعل حذو النعل، وفي الواقع ليس هناك جديداً في تبني سياسة ما يُعرف بهتاناً ب “التحرير الاقتصادي”، والتي لا تعني عند السلطة أكثر من رفع أسعار السلع والخدمات بزعم رفع الدعم، بالوصفات نفسها لصندوق النقد الذي نفذ مع النظام السابق 14 برنامجاً مراقباً مثله، ومثل النظام السابق ظل يتسؤل المساعدات الخارجية من الخليج، وأضاف لها الوضع الجديد دولاً غربية، لكن السلوك نفسه ظل مستمراً، مع الإشارة للحجة بأن البيئة الأن مختلفة مع رفع العقوبات، وهي من باب المبالغة في تقدير تأثيرها، فقد نسى هؤلاء أن أنجح مشروع اقتصادي للنظام السابق كان استخراج النفط والبلاد تحت غائلة لائحة الإرهاب والعقوبات، وكونه بدد هذه افرصة بالفساد وسدء التدبير فهذا لا ينفي أنه كان مشروعاً ناجحاً بامتياز.
أما ما يثير الاستغراب حقاً فهو تبني الوضع الجديد لكل هياكل الحكم التي صنعها النظام السابق كما هي بكل ترهلها وفشلها، وللعجب حتى مجلس التخطيط الاستراتيجي!!! أين الثورة؟! وماذا تركوا للنظام السابق، المشكلة الحقيقية هي أن غاية ما صنعه الوضع الانتقالي حتى الآن هو “الانقاذ 2”!!