الدعم السريع لم يكن مليشيا…بل قوات مسلحة

0 84

كتب أمل الكردفاني:

لا احد يملك معياراً حاسماً للتفرقة بين جيش نظامي وغير نظامي.

المانيا وإيطاليا وحتى فرنسا خاضت حروبها عبر أنواع متعددة من القوات، تركيا السلطانية أنشأت ما يسمى بالباش بازوق، وهي قوات ملكت هامش حركة كبير جعلها أكثر قدرة على الدخول في حرب المدن.

لكن دعنا نعود للسؤال حول مشكلة الدعم السريع والجيش البرهاني…

نعم نقول أولاً بأننا يجب أن نضع النقاط في الحروف دون مواربة..

الجيش الذي تمثل قياداته العليا جهات وإثنيات معينة تماما كجيش الزبير باشا ، هذا الجيش لم يقاتل في معارك تتعلق بحماية سيادة الدولة من عدوان أجنبي، لقد كان هذا الجيش يعمل في اتجاهين، يصبان لحماية مصالح الفئات القيادية فيه، فهو أولا يتم استخدامه من قبل أحزاب الشمال النيلي للانقلاب على الديموقراطية (وهي صراع حول السلطة بين هذه الأحزاب وحدها فقط). هذه هي السمة البارزة للجيش، وأما السمة الأخرى، أنه كان دائما يعمل للحد من أي محاولات تمدد للإثنيات الأخرى (جنوبيين، فور، زغاوة، نوبة،…الخ) بحيث يهدد تمددها ذاك مصالح الإثنيات المسيطرة. القتال منذ الاستقلال وحتى اليوم، ظل ضد الإثنيات الأخرى.

تلك هما السمتان الرئيسيتان لنشاط الجيش، ومهما كان من أمر، فإن ذات هذه الإثنيات العالقة في السلطة، هي التي حاولت إخضاع جيشها لتمويه قانوني، عبر تقنين عملها دون أن يسمح القانون هذا بتسهيل مهمة تحويل هذه القوات لقوات (قومية).

إذاً؛ لو نظرنا إلى الجيش من هذه الزاوية فسنعلم أنه لا فرق بينه وبين قوات الدعم السريع، ولكن الدعاية الإعلامية -والتي بدأها الصادق المهدي- قبل الثورة ضد الدعم السريع هي في الواقع محاولة لترسيخ فكرة وهمية وهي أن الجيش هو الممثل الوحيد للشعب، وهذه أكذوبة، فالجيش يمثل فئة محددة، استخدمته دائماً لتحقيق مصالحها، وذات هذه الفئة اليوم تستخدمه أيضاً لتحقيق سيطرتها ومنع الإثنيات الأخرى من التغول على مكتسباتها التاريخية.

لا فرق في الواقع بين قوات الشمال النيلي ولا قوات حميدتي بل ولا قوات مناوي أو قوات الحلو أو قوات عبد الواحد…فكلها قوات تستند لبعد إثني ثقافي معين. ربما يكون الإختلاف في العدة والعتاد والحجم. فالجيش الذي يمثل الشمال النيلي ظل مدعوماً باستمرار لأداء غرضيه الأساسيين (الإنقلابات، منع تمدد باقي الإثنيات). وتم تعزيز فكرة أنه جيش نظامي وأن بقية الجيوش غير نظامية.

نظامية أي قوات تعتمد على الحقيقة الواقعية، الحقيقة على الأرض، والحقيقة تنطلق من معنى نظامي…

نظامية الشيء تعني تنظيمه بالقانون… والجيش بالفعل منظم بالقانون..لكن دعونا نتساءل: قانون من؟

الإجابة هي قانون من خلقوا هذا الجيش منذ الاستقلال..ليس البريطانيين، بل منذ الاستقلال، وحتى قانون ٢٠٠٧. فلا تلك القوانين ولا هذا القانون في الواقع (لم) يحمل في طياته أي قواعد تضمن قومية هذا الجيش، وفوق هذا تعزز الأمر بانقلابات الإثنيات الشمالية (أحزاب مدنية) عبر استخدام هذا الجيش. وكما كان الزبير باشا يسيطر على أضخم جيش من العبيد، قامت الإثنيات الشمالية بتحويل قواتها لعبيد يقاتلون وضباط من إثنياتهم هم يديرون عبرهم هذه القوات.

هذه الحقيقة تضعنا مباشرة في وجه الحقيقة التي تجيب على سؤال: لماذا ازدادت حالات تشويه قوات حميدتي في الآونة الأخيرة. فهناك اليوم جيش ثاني موازٍ، جيش ليس تحت قيادة الزبير باشا بل أحد عبيد الزبير باشا، وهنا يكمن الخطر.

ليس الأمر مقتصر على ذلك بل قوات حميدتي أضحت مطلباً لكل طامع في تطوير امكانياته المالية، فهناك آلاف يتطوعون للعمل فيه لكي يتمكنوا من القتال في اليمن مقابل الريال السعودي والدرهم الإماراتي. لا..الأمر لا يتوقف فقط على هذا، بل أصبحت أغلب القوى السياسية المدنية (الأحزاب) تحاول الحصول على رضا حميدتي عنها.

حميدتي رجل محظوظ، قفزت به الأقدار لإعادة توازن القوى بين الأسياد السابقين وضحاياهم. وفوق هذا وجد ترحيبا أوروبياً واسعاً ودعما لا يقدر بثمن…

ألا يعتبر ذلك خطراً..

هناك الآن (قوات) عديدة، قوتان كبيرتان تمثل كل واحدة منهما قروباً (مجموعة) من التخالطات الإثنية، كما توجد قوات صغيرة تمثل إثنيات اخرى.

ما يخشاه الشمال النيلي ليس فقط حميدتي، بل يخشى أي تحالف بين حميدتي وبين تلك القوات الصغيرة، لذلك يتم تأخير أي محاولات دمج بين تلك القوات وقوات حميدتي، لقد امتنع صلاح قوش سابقاً، عن دمج العديد من القوات الصغيرة مع قوات حميدتي وسيمنع القادمون الجدد من ذلك أيضاً، كما يرسخ الإعلام الموجَّه فكرة أن قوات حميدتي غير نظامية..في مقابل قوات نظامية.

اللعبة خطيرة جداً، ومعقدة أكثر مما يمكن تصوره.

إذ أن ذات الإعلام يلعب ضاغطاً لتفكيك أي ثقة للهامش في نفسه، فبمجرد أن سقط نظام البشير، كان لابد للجيش أن يلعب دوره المعروف لحماية مصالح تلك الفئة، ولذلك بدأت محاولات كثيرة لاستقطابه إلى جانب مجموعة مدنية، لرسم خارطة استمرار السيطرة الإثنية على مقاليد السلطة.

ولولا أن القوى الأخرى كانت أقل ثقة وتوحداً لجاز لها -وبالمثل- أن تتحالف وتخلق لها مكوِّنا مدنياً ثم تؤلف لها وثيقة دستورية موازية، ثم تعين وزراء ومسؤولين…الخ..

غير أن قوى الهامش ظلت تشعر دائما بأنها غير قادرة على أن تعمل باستقلال عن ذراع الشمال الطويل. لقد تم قطع ذراع خليل ابراهيم عندما تجرأة وحاول ذلك، وتم اغتيال جون قرنق لذات السبب. وحميدتي نفسه، ورغماً عن قوته لكنه لا يملك الثقة الكافية لتجعله يتخذ أي قرارات مستقلة، لقد ذكرني ذلك بقصة تولوستوي التي كتبت عنها كثيراً، فتولستوي، كان ارستقراطيا روسياً يملك آلاف الهكتارات الزراعية وعشرات الآلاف من الأقنان (العبيد الفلاحون). وعندما بلغ من الكبر عتياً أصيب بشيء من الطيش، فذهب وجمع عبيده وصاح فيهم: لقد حررتكم..أنتم اليوم أحرار…

غير أنه فوجئ برد فعلهم إذ أنهم نظروا إليه بخوف ثم ذهبوا لزوجته وأخبروها بما حدث معتقدين بأن تولوستوي أصيب بمس شيطاني، عاد تولستوي وسألهم: لماذا لم تفرحوا؟ فأخبروه بأنهم حتى لو تحرروا فلن يستطيعوا العيش كما يشاءون، بل سيضطرون للعمل في الأرض..لقد كانوا لا يثقون في أنفسهم، بل كانوا في الواقع يخافون من الحرية ، بل يفزعون منها.

لذلك لم يستطع حميدتي حتى الآن أن يلعب دوراً استراتيجياً خارج القبضة الشمالية. إنه خائف وحذر جداً، والإعلام الموّجه يلعب ضاغطاً ضده.

حتى قوى الهامش نفسها تؤكد على ارتباكها تجاه الواقع، وتطلق على نفسها قوى الهامش، بل تهرع لاهثة للتفاوض ككيانات لا استقلالية لها في الواقع، وككيانات لا يجوز لها إلا أن تقبل بالحد الأدنى من السلطة والثروة. فبالرغم من أن من حقها ليس فقط أن تحصل على حقوق متساوية فقط (كتفاً بكتف) مع غيرها، فهي في الواقع بإمكانها أن تؤسس لتستأسد بالسلطة والثروة أو على الأقل تشارك فيها مشاركة عادلة. لكنها تعتقد بأنها أقل من أن تطالب بما يتجاوز مؤهلاتها المعرفية. وفوق هذا أيضاً فهي مفككة ومتشاكسة، بل ودعني أقول أنها لن تقبل بأى تحالف حقيقي بينها مستقبلاً مما يقوِّض أي فرصة لها لتخرج من مسماها الذي أسمته لنفسها تأكيداً على اهتزاز ثقتها في نفسها (الهامش). وستظل هامشاً إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

إذا قرأنا ما سبق بتمعن، فسنرى لماذا قبل الجيش وقبلت قحط بالتحالف بينهما بهذه السرعة بعد أن إتفقا على فض الاعتصام، وسنعرف لماذا امتنع المكونان (العسكري والقحاطي) عن القيام بمؤتمر جامع يمثل كافة القوى السياسية والإثنية المدنية والمسلحة للخروج من الأزمة. وسنعرف لماذا يصر المكوِّنان على رفض مجرد طرح هذه الفكرة ولو بالغلط.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.