*الزاكي طمل.. البلايا في طي المزايا.. البطولة والمأساة*
كتب: ياسر عرمان
.
تأملات في دهاليز موت قائد رسم الحدود الشرقية بنصل البسالة:
مدخل أول
السودانيون حينما يتحدثون عن الحدود الشرقية وعن “الفشقة” هذه الأيام فإن حديثهم سيمر بنصل وسيف الزاكي طمل والبارود الذي استعمله قبل أن يمر بوثائق الرائد غوين والإمبراطور منليك. إن علينا أن نطلق على “الفشقة” إسم محلية “الزاكي طمل”.
مدخل ثانٍ
في عام 1893م قفل الزاكي طمل عائداً من الحدود الشرقية إلى عاصمة الدولة أمدرمان بعد أن استدعاه رئيس الدولة وقائده العام الخليفة عبد الله التعايشي بعد حوالي 5 سنوات أمضاها الأمير الزاكي طمل رافعاً راية الدولة في شرق السودان وبعد أن انتصر على “الإثيوبيين” أيما انتصارات، ورفع راية المهدية إلى عنان السماء، وقتل الملك العظيم يوحنّا في معركةٍ غيّرت مسار التاريخ والعلاقات والحدود وارتفع فيها إسم ومقام الزاكي طمل، هذا القائد ذو السيرة الفريدة من بين قادة وأمراء المهدية، ولأن الإنسان لا يدرك المجهول فإن حياته تراوحت بين البطولة والمأساة! وقال الإمام المهدي في عبارته التي سارت بها الرُّكبان “المزايا في طيّ البلايا والمنن في طي المحن” وهي عبارة جدلية صميمة تزامنت عند بزوغ فجر معرفة أوروبا للفلسفة المثالية والمادية الجدلية، ولكنها في حالة الزاكي طمل كانت “البلايا في طيّ المزايا، والمحن في طيّ المنن”، وهي تجسد بطولة ومأساة الزاكي طمل.
(1)
البداية والنهاية في حياة الزاكي طمل، كبدايات ونهايات قادة كُثُر شاركوا في ثورات عديدة، وعند ذلك سيلتقي الزاكي طمل بروبسبير أحد قادة الثورة الفرنسية الكبار والذي أُطلق عليه “الإنسان غير القابل للإفساد” ففي الثورة الفرنسية 1789 وقبل قرن من الثورة التي شارك فيها الزاكي طمل توصل الاثنان إلى نفس النتيجة، كما توصل كذلك بوخارين في الثورة الروسية في عام 1917م لنتيجةٍ مشابهة على يد جوزيف ستالين في القرن الذي تلا قرن الزاكي طمل. إن موائد الثورات وطعامها من رؤوس أبنائها وجبةٌ قديمة وتاريخ حركات التحرر والثورات قديمها وحديثها ملئ بهذه الوجبات.
(2)
الوشاية خنجر التاريخ والثورات المسموم في دهاليز الممالك والإمبراطوريات والدول، وقد حددت الوشاية نهايات غير متسقة مع بعض البدايات، وأنهت مساهمات شخصيات فاعلة في التاريخ الإنساني، يمثل الزاكي طمل صفحة في كتاب الوشايات الممزوجة بالدماء، ولكن البسالة والشجاعة كانت من صنع الزاكي طمل وهو يقود قوة يُقال أنها قد تجاوزت 85 ألفاً في الحدود الشرقية، وحتى حينما شارف الزاكي طمل نهايته وحيداً، فقد كان مهاباً وفارعاً وهم يمنعون عنه الطعام الذي طالما قدمه لآخرين، حتى فاضت روحه، وظلت الوشاية حقيرةً وصغيرةً من صُنع خصومه، وإن نالت منه فلم تنل من شموخه، برغم أنها وضعت حداً لحياته ولكن لم تضع حداً لبطولته.
(3)
حينما لمع إسم الزاكي طمل مثل برقٍ “عبَّادي” يجلب الغيث لا محالة، خشي خصومه بريقه المصنوع من أنصال السيوف، وبارود البنادق، وضوء المعارك، وعلقوا رماحهم على وتر الوشاية وقدموها معزوفةً وطعاماً، ابتلعه الخليفة عبد الله التعايشي وشنّف أذنه، الخليفة الذي بنى الدولة وخشي قادة الثورة، فكرّس الدولة التي امتصت كثيراً من رحيق الثورة، وظنّ الخليفة ومن قبله عصبةٍ من أهل بيته المقربين وخاصته أنهم حراس الدولة وورثة الثورة، وحراسة الدولة أحياناً تمر عبر الوشايات، والثورة أيضاً لا تخلو من الوشايات، وقد قال بوخارين وهم يقتادونه إلى المقصلة: “لقد كنت طوال حياتي أعلم من أجل ماذا أُضحِّي، إلا هذه اللحظة!” فالثورة التي ضحى من أجلها بوخارين وضعته تحت المقصلة، في مفارقةٍ لكامل مسرح حياته، ويالها من غُصةٍ في الحلق موجعةٍ للضمير ومشنقةٌ للفكر والانتماء.
حينما أداروا رأس روبسبير الحارس الأمين للثورة الفرنسية نحو المقصلة، فإن الثورة قد أكلت قيمها ومبادئها قبل أن تأكل بنيها، وما أبشع الخيانة حينما تُلصق لمن قادوا الثورة حينما كان الظلام الدامس يعُمّ المكان.
(4)
حينما غاب الأمير حمدان أبو عنجة -المُهاب عند الخليفة عبد الله- غاب نجم السعد في حياة الأمير الزاكي طمل، رغم أن الزاكي طمل قد أكمل صعوده إلى قمة الضوء والجبل والبطولة، وعند أكتاف الفراغ الذي شكله غياب حمدان أبوعنجة وقدراته المشهودة في شرق السودان، أدرك الجميع أن من سيأتي بعده ويمتلك المهارة والشجاعة لن يكون إلا الزاكي طمل، وقد قرّبه حمدان أبوعنجة واستعان به كثيراً في الحدود الشرقية، فحلّ الزاكي طمل محل الفاعلُ فاعلاً، وبمواهب عظيمة لا تُبارى، ورغم مكائد أحمد ود علي، ولكن أشعة ضوء الأمير الزاكي طمل التي بثها من لمعان الحسام برقت وتبسمَّت في الحدود الشرقية، واحدثت اهتزازاً في أمدرمان مقر قيادة الخليفة عبد الله القائد الأعلى لجيوش المهدية، والذي سيسجل نفسه في وقائع التاريخ لاحقاً كقائدٍ أعلى وحيدٍ في تاريخنا استشهد وخضّب منصب القائد الأعلى بالدماء وهو يستقبل الشهادة جالساً على “فروته” لم يبقِ ولم يدّخر، وهذا وحده درسٌ كافٍ لكل من تولى قيادة الجيوش في سوداننا.
(5)
ذكرت د. فيفيان أمينة ياجي في مؤلفها الهام (الخليفة عبد الله: حياته وسياسته) والذي كتبت عنه بمحبةٍ وموضوعية عكس الآخرين، حيث ذكرت: (كان موت الزاكي وصمةٌ في تاريخ الخليفة عبد الله، الذي كان شكاكاً بطبعه). وقد اتهم أحمد علي الأمير الزاكي طمل بالخيانة، وادعى أنه قد وافق على الانحياز بجيشه للإيطاليين، وتسليمهم موقعي القلابات والقضارف المنيعتين، ولم يصدق الخليفة في البداية تلك الاتهامات، ولكن عضدّها قاضي الإسلام أحمد علي الذي كان يكِنُّ عداءً قديماً للزاكي طمل، وساند الوشايات الأمير يعقوب نفسه، وقيل إن الزاكي طمل استولى على نوق وجمال أحمد علي لجيشه، وقال أن القاضي لا حوجة له بالجِمال.
ولكن القاضي الذي لا حوجة له بالجمال، خلُص ثمنها وشايةً من حساب الزاكي طمل، تلك الوشاية التي أخذت روح الزاكي طمل الذي رسم الحدود الشرقية “بنصل البسالة” ولم يكُن ليسلمها للإيطاليين، ولكن نفس القاضي أحمد علي لأمارةٌ بالسوء، وسنوات الزاكي طمل في شرق السودان أمارةٌ بالحق، فبريق الانتصارات التي جلبها الزاكي طمل، جلبت له شكوكاً عميقة في رئاسة دولته بأمدرمان، بينما هو يدافع عنها بروحه ودمائه، ويصعد نجماً في سماء المهدية، ولا يزال نجماً رغم بُعد المسافة والطريق، ولكن تفوق الزاكي طمل، وقوة جيشه الذي هدد أعداء المهدية، وقيل أيضاً ثرائه، أثار حفيظة وطمع وشكوك ومخاوف قيادة الدولة والثورة في أمدرمان، ورغم تردد الخليفة عبد الله في معظم الروايات، وعدم تصديقه للوشاية في بداية الأمر، ولكنه في خاتمة المطاف صدقها، ورمى بتاريخ الزاكي طمل وبطولاته وإسهاماته الفريدة عرض حائط سجن “الساير” بعد ان استدعاه إلى أمدرمان وحكم عليه بالسجن، ويُقال أن الخليفة كان يُرسل إليه الطعام من منزله إلى السجن، ولكن طعامه لم يصل أبداً إلى الزاكي طمل.
زعم قاضي الإسلام أحمد ود علي أن الخليفة أمر بحرمانه من الطعام حتى يموت جوعاً وعطشاً، وقد كان، بعد أربعة عشر يوماً في بعض الروايات.
(6)
ولأنه كما تُدين تُدان، فإن الخليفة طلب أن يوضع القاضي أحمد علي في مكان الزاكي طمل بعد أن أدى مهمته، وأخذ يشرب من نفس الكأس التي سقى منها الزاكي طمل، وقيل أن الخليفة وأخيه يعقوب قد أثار الثراء العريض لقاضي الإسلام حفيظتهما، كما ورد في عُدّة روايات، ومنها ما جاء في كتاب د. فيفيان أمينة ياجي.
إن التنافس بين الأمراء وغيرتهم والعُصبةُ من أهل الخليفة وجماعات المصالح، هي التي أنهت حياة بطل عظيم كالزاكي طمل، الذي خدم الثورة المهدية كما لم يخدمها أحد، وكان من بُناتها وأعلامها، ورافع راياتها الباذخات في شرق السودان، وأيام المهدية في شرق السودان عنوانين كبيرين هما “عثمان دقنة” و”الزاكي طمل” بعد أن رحل الأمير حمدان أبوعنجة.
(7)
أما يوسف ميخائيل في مذكراته (مذكرات يوسف ميخائيل: التركية والمهدية والحكم الثنائي في السودان) التي قدّم لها وحققها الدكتور أحمد إبراهيم أبوشوك، والصادرة من مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، فقد أشار بأن حمدان أبوعنجة نفسه قد مات مسموماً، وذكر رواية مُفصّلة حول كيف جمع الخليفة الأمراء وكافة الناس كما لم يجمعهم من قبل، عند موت الأمير حمدان أبوعنجة، أحد أهم قادة المهدية، وطلع الخليفة على المنبر وصار يُذكِّر الناس بوفاة الأمير حمدان أبوعنجة، والذي من بعده تولى الزاكي طمل الحدود الشرقية، وقد تولاها أحمد علي لمدة وجيزة قبله، وكل الوثائق المتوفرة تشير إلى أن هذه الحدود في ناحية القضارف والقلابات مكتوبة بمهارة الزاكي طمل، وشجاعته، وقد اشتهر في الحكي “الزاكي عدل والجداد قدل”، فمهما تكُن المبالغات في ذلك، فلا أحد ينكر العرق والدماء والتي لولاها لما رُسمَت الحدود الشرقية بشكلها الحديث، في جزء مهمٍ منها على يد الزاكي طمل.
(
قُتل الملك يوحنّا على يد الزاكي طمل، وقد كان ملكاً شجاعاً خاض المعركة بنفسه، وبجيش على مدّ البصر، وشارك أُمراء كُثُر بقيادة الزاكي طمل في معركةٍ حاسمة كُتبت بمداد التاريخ وشكلت تاريخ السودان الحديث، وشارك فيها عبد الله ود إبراهيم الجعلي، وعبد الرحيم أبودُقُل وأحمد ودعلي، وحينما جاءت أكيدة الخبر إلى أمدرمان، ضُربت أُمبايا والزُمُر والنحاس، واُحضرت كافة الجيوش على الخيل الصافنات، ولعب الفرسان على ظهور الخيل، وكان الزاكي طمل هو من أدخل هذا الفرح على أسنّة الرماح والسيوف، ولكن هذا الفرح برأس الملك يوحنّا سُرعان ما سيطالب برأس الزاكي طمل نفسه، فالحياة كانت دوماً معقّدة، وكم من بلايا في طيّ المزايا.
(9)
في مذكرات يوسف ميخائيل وتحت عنوان سقوط رموز المهدية (الزاكي طمل وأحمد علي وحسين الزهرا)، نُقِل عن يوسف ميخائيل كيف قام الأمير يعقوب باعتقال الزاكي طمل الذي عاد بعد ان تناول طعامه في منزل الخليفة عبد الله، كان ذلك هو العشاء الأخير للأمير الزاكي طمل، فبعد أن أشاد به الخليفة كما ذكر ذلك تفصيلاً الدكتور محمد سعيد القدال، وذكر أنه مات في 21 سبتمبر 1893م، وذكر سلاطين في السيف والنار رواية مشابهة للكيفية التي تم بها سجن القائد الكبير الزاكي طمل، وتجويعه وتطويبه في السجن بقدر قامته، وحبسه حتى مات جوعاً وعطشاً.
من المفارقات أن الزاكي طمل عندما غزا فشودة عاصمة بلاد الشُلُك، لإخماد ثورة الشُّلُك، كان الخليفة قد أمره بقتل 13 من الأشراف أقرباء الإمام المهدي، أرسلهم إليه، بمن فيهم أعمام الإمام المهدي نفسه.
(10)
تتراوح الروايات من مختلف المصادر حول شخصية الزاكي طمل، وتتناثر الحكاوي حول طباعه، من الشجاعة والعدل والقسوة، لا سيما في غزوته لبلاد الشُّلُك الآمنة، والتي ثار أهلها ضد المهدية، ورُسمت له لوحة أخرى عن عدله بشرق السودان، ولكن المؤكد أنه بنى قوة عسكرية ضاربة، وأنه من أكثر قادة المهدية تميُّزاً، وأنه ابن أزمنته، وقد شكلته الوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لعصره، وأن أبهى أيامه وأعلاها مرتبةً وبرقاً وبريقاً هي التي أمضاها في شرق السودان، لم يخطئ أي منصف أنه المهندس الفعلي لحدود السودان الشرقية في ناحية القلابات، التي رسمها بحد السيف، وفوهة البندقية، وأن الطريق التي تم بها إنهاء حياته، محزنة، وتسبح في اتجاه مضاد لمساهماته الفاعلة في رسوخ أقدام الثورة المهدية، ولأن عدالة السماء نافذة، فإن من حرّض لم يأخذ قسطاً من الحياة، إلا نحو 5 أشهر في رواية يوسف ميخائيل.
هل كان لانحدار الأميران حمدان أبوعنجة والزاكي طمل من المُنضلة، ولأصولهم الاثنية وما يُقال أن التعايشة كانوا ينظرون إليهم بدونية، هي إحدى أسباب ما لحق بالأمير الزاكي طمل؟ وعلى الرغم أن كثير من الروايات ذكرت المكانة التي تمتع بها حمدان أبوعنجة والزاكي طمل عند الخليفة عبد الله، وأن الخليفة اعتبرهما من أهله.
(11)
أشارت د. فيفيان أمينة ياجي في مراجعها إلى الوثيقة (19) من تقرير المخابرات المصرية في أكتوبر 1993م، أن تاجر من بربر يُدعى محمد صغير قد قال بأن الخليفة يغير من الزاكي طمل، وذكر يوسف ميخائيل أن الزاكي طمل قد أعجبته نفسه بكثرة الجيوش، وهذا جزء من التعقيدات في تلك الحقبة.
حينما وصل حمدان ابوعنجة إلى الجبهة الشرقية أعطاه الخليفة صلاحيات مطلقة فوق سلطة الأمير يونس الدكيم، المُقرب للخليفة، وواجه القائد حمدان أبوعنجة عدة مصاعب، منها عداء يونس ود الدكيم، كما ورد في كتاب د. فيفيان ياجي المُشار إليه سابقاً، وصل حد فصل يونس الدكيم جيشه عن قيادة حمدان أبوعنجة، مما جعل الخليفة يستدعيه لأمدرمان، ويترك القيادة لحمدان أبوعنجة.
واجتاز أبوعنجة لاحقا الحدود الإثيوبية حتى احتل مدينة “غُندور” في العام 1888م، واقترح عليه الملك يوحنا عقد صُلح، ولكنه رفض، وحينما توفي فجأة في يناير 1889م، انتقلت القيادة لاحقا للزاكي طمل، الذي أكمل انتصارات المهدية، وتذكر الروايات أن للزاكي طمل أخ غير شقيق، هو فضل المولى صابون، وأنهم ينتمون بصلة الرحم لحمدان أبوعنجة، وينحدرون من نفس الديار في بلاد التعايشة.
للمفارقة أن حروب الملك يوحنّا ضد المهدية قد ساعدت الحاميات المصرية والانجليزية التي تقطعت بها السُبُل في شرق السودان، في مفارقةٍ لواقعنا الراهن، وقد أورد د. صديق مساعد في رسالته للدكتوراة بعنوان (المهددات الخارجية لشرق السودان، أواخر الدولة المهدية – إيطاليا- الحبشة – بريطانيا)، أورد تفاصيل مشوقة في هذا الصدد وقد كانت الدول الاستعمارية ترغب في إنهاك المهدية وجيرانهم في الحروب، وتغمز بكل قناة للدفع في هذه الاتجاهات.
(12)
عند عودة الزاكي طمل للبيت الكبير في أمدرمان، وأمضى ليلته الأخيرة بين استقبال حار للخليفة عبد الله، والعشاء الأخير، وبين اعتقاله من الأمير يعقوب، والدفع به وتطويبه في سجن “الساير” وموته عطشاً وجوعاً في السجن، كل ذلك انقضى، ولكن مساهمات الزاكي طمل في رسم الحدود الشرقية للسودان بنصل البسالة هي ما سيبقى للأبد من حياة الزاكي وبطولاته الذاخرة، كمساهمٍ وطنيٍّ عنيد، وكمالكِ أسهمٍ حقيقية في بلادٍ اسمها السودان.