السجن والشربوت الفضيحة
كتب: جعفر عباس
.
عشنا أياما حافلة بالمرح في قسم السرايا في سجن كوبر، ولكن الشيوعيين الذين كانوا يسيطرون على لجان إدارة شؤون المعتقل، كرهونا العيشة بالدعوات الى الاضراب عن الطعام، وكان الشيوعيون يتصرفون في السجن وكأنه بيت أبوهم، بحكم قضائهم مددا طويلة فيه ومعرفتهم باللوائح وعلاقاتهم بحرس السجون.
كانت الى جنب العنابر الضخمة في السرايا هناك خيمة كبيرة بالقرب من المسرح يقيم فيها شباب المعتقلين، ويعقدون فيها حلقات النقاش والطرب ويلعبون الورق (والفورة في الكنكان كم ألف.. ورانا شنو؟)، وذات مرة قررنا صنع الشربوت وأتينا بزير فخاري ضخم دفناه في ارض الخيمة وزودناه بالتمر والماء، وغافلني بعض أبناء البندر وأضافوا اليه الزبيب، وفي منتصف ليل اليوم المحدد جلسنا وشفطنا المشروب ثم تفرقنا ونمنا وصبيحة اليوم التالي وعند الجلوس في طوابير التمام بدأ سكان الخيمة في التسابق الى دورات المياه مما أثار ضيق وعجب الحراس، بل شكوكهم بأن الاسهال الوبائي الذي أصاب مجموعة معينة يعني ان الحكاية فيها “إن”
وقررنا عدم فتح الزير مجددا وتركه كي يتولى علماء الآثار العثور عليه في القرون اللاحقة، ثم طرحت لجنة المعتقل فكرة اضراب جديد عن الطعام. ليه يا جماعة؟ قالوا نريد أسرة وتلفزيونات وراديو وصحف، قلت لهم لماذا بالمرة لا نطالب بآيسكريم وكريم كراميل؟ هل تحسبون اننا نقيم في فندق؟ وطنشت اللجنة تساؤلاتي واجتمعت لاتخاذ القرار، فعقدت اجتماعا للمجموعة الشبابية وقلت لهم رددوا معي: اللهم شتت شملهم وفرِّق كلمتهم.. اللهم انهم يريدون هلاكنا فاجعل بيننا وبينهم سدا، واقترح أحدهم ان نرسل برقية لنميري نقول له فيها: اضرب على الشيوعيين بيد من حديد، فقلت له: ما للدرجة دي (تذكرت صاحبنا الذي وجد شابة تبكي في قارعة الطريق وسألها عن سبب البكاء فقالت ان أهلها يريدون تزويجها برجل شين شديد القبح، فحاول رفع معنوياتها بالدعابة وقال لها: شين زيي كدا؟ فصاحت البنت: ما للدرجة دي يا عمو).
المهم ان الأغلبية قررت الاضراب وحددوا تاريخا لاحقا لبدايته، وقبل اليوم المحدد بساعات جاء رتل من الحراس وقرأوا أسماء المفرج عنهم وكنت من بين ثمانية منهم حملنا أشياءنا البسيطة ووقفنا عند البوابة الكبيرة تأهبا للخروج، وبكينا جميعا على فراق أحبة تآلفت قلوبنا معهم في ظروف الشدة. وخرجنا من السجن في منتصف النهار ولكننا لم ندخل بيوت أهلنا إلا ليلا، فقد كان علينا ان نتقاسم عبء الطواف ببيوت إخوتنا الذين ما زالوا في المعتقل لنوصل اليهم وصاياهم ونطمئنهم عليهم
ثم جاءت دولة الكيزان وصار المعتقل السياسي فيها يتعرض لخلع الأظافر بالزردية والصعق الكهربائي ومسح الجلد بالشطة وغرس المسمار في الرأس، وظل الأمير عبد الرحمن نقد الله الذي لقي ربه قبل أيام في حالة شبه موت سريري طوال 19 سنة أعقبت خروجه من بيوت الأشباح حيث تعرض لتعذيب متواصل جعله مشلولا، وعندها أدركت انني مناضل أي كلام وان حركة العزل والمكاواة وحركة تحرير المغتربين اللتين اسستهما لن تجعلا مني مادة صالحة للرئاسة.
بعد خروجي من السجن اكتشف حرس السجن أمر زير الشربوت بعد ان اخترقت رائحته الغطاء، وتم وضع جميع سكان الخيمة التي كان الزير مدفونا فيها في الحبس الانفرادي في الزنازين البحرية حيث الفئران في حجم الأرانب وتمكنت من تسريب رسائل اليهم أقول فيها: هذا جزاء المنحرفين.