السياحة المورد المهمل (5)

0 95
كتب: د. النور حمد
.
سبق أن أشرت، بضع إشارات، لبعض هذه المعوقات التي تعترض صناعة السياحة، ومنها عدم الاستقرار السياسي والأمني، وضعف النمو الاقتصادي وضعف البنية التحتية للمواصلات والفنادق، ومختلف أماكن الإقامة. أضف إلى ذلك أيضًا، ضعف تدريب الكوادر التي تعمل في مختلف مكونات هذا القطاع. غير أنني أشرت بصورةٍ خاصة إلى الانحراف الثقافي الذي أحدثته قوانين سبتمبر، التي سنها الرئيس الأسبق جعفر نميري في عام 1983. وهو ذات الانحراف الذي أغرى الإسلاميين، الذين اشتركوا في سنها مع جعفر نميري، بإكمال مشوراها عبر انقلابهم على النظام الديموقراطي في 1989.
لقد مرت منذ سبتمبر 1983 إلى الآن 37 عامًا وهي المدة التي ابتعد فيها السودان عن طريق النهضة. عكست تلك الأعوام السبعة والثلاثون، اللوثة العقلية التي ارتدت رداء التدين، نتيجةً لإدمان العيش في متون الكتب القديمة، والتعلق بالأحلام الغرة، كحلم إقامة خلافة إسلامية تضم مشارق العالم الإسلامي ومغاربه. انحبست عقول من سعوا في هذا الدرب الزلق في تصوراتٍ منغلقة دافعها الرئيس هو التمرد على سلطة الغرب وسطوته، واستعادة الخلافة الإسلامية، بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وهذا مما اشتهرت به حركة الإخوان المسلمين في بدايات القرن العشرين. وهي لم تشب، رغم مرور الوقت، عن طوق أفكار سيد قطب وأبي الأعلى المودودي المتمحورة حول شعار “الحاكمية لله”، ومشروع “الدستور الإسلامي”، مبهم الملامح.
حاولت الحركة الإسلامية السودانية عبر مسمياتها التي اتخذتها في مختلف مراحل ما بعد الاستقلال، الانفلات من قبضة السلف، والظهور بمظهر العصرية. غير أن الأساس الذي تأسست عليه ظل يستعصي على تلك المحاولات. فالمحاولات أصلاً لم تكن صادقة، كما لم تقم على إيمانٍ راسخ بالحرية وبالتنوع. لقد كانت مجرد طلاءٍ خارجيٍّ لا يمس الجوهر. لذلك، رغم محاولات الدكتور الترابي، هنا وهناك، إضفاء صبغةٍ عصريةٍ على حركته ومنحها استقلالية فكرية عن التيار الإخواني العالمي، إلا أن إدارة حركته للمجال العام، عندما أصبحت في السلطة، اتسم بالسلفية السلطوية العنفية، التي هي الطبيعة الأصلية للحركة. لم يظهر منها حين حكمت سوى الوصاية والاستبداد ورفض الحداثة وقمع الحريات الشخصية. بل بلغ فيها الاستبداد حد التعذيب الممنهج، والقتل الفردي والجماعي خارج نطاق القانون، وإحصاء أنفاس الناس.
لقد أحدثت تجربة حكم الإسلاميين للسودان في أعوامها الثلاثين، ردَّةَ كبيرة جدًا في الوجدان السوداني. شملت هذه الردة الذوق الجمالي، والمظهر الحضري للمدن، والسلوك المتمدين للناس. ولقد كان لكل ذلك أثره السلبي على صناعة السياحة. لقد خربت الإنقاذ الاقتصاد الريفي ومنظومة الخدمات فيه، ما دفع بالناس إلى الهجرة إلى المدن، بأعدادٍ لم تحدث في تاريخ السودان. فاكتظت المدن بأكبر من طاقتها الاستيعابية، وانهارت فيها، من ثم، مظاهر التمدن. فالسلوك المتمدن لا يقوم في الهواء، وإنما يحتاج روافع تسنده. فالمدن التي تعيش أزماتٍ معيشيةٍ خانقة يتردى فيها السلوك الحضري بصورة تلقائية. ولا أخال سائحًا أجنبيًا يستطيع قيادة سيارة في الخرطوم الآن، أو يستطيع استخدام المواصلات العامة فيها، أو يمكنه قيادة سيارة بنفسه في طريق سريع. أما العنصر الثاني فهو الإعلام الإنقاذي الموجه الذي أعلى من قيم البداوة وحط من قيم التمدن وروَّج للقبلية ولكراهية مظاهر الحداثة الثقافية، وعمل على نشر التزمت والتطرف الديني والضيق بالآخر المختلف. وكل هذه عوامل هادمة للجذب السياحي.
(يتواصل)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.