السياسة والثقافة: الترابي البولشفيكي، عوض عبد الرازق المنشفيكي

0 117
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(تمر غداً الذكرى الثالث والتسعون لميلاد أستاذنا عبد الخالق محجوب. وهذه كلمة قديمة نشرتها في جريدة الفجر، التي اصدرها الاستاذ يحي العوض في لندن في التسعينات، عن جانب من مأثرته في الوطن مقارنة بوقائع أخرى في الحياة السياسية)
تعشعش فينا شكوى مقيمة من قلة حيلة الثقافة في شأن السياسة عندنا. ورد السياسة إلى الثقافة مما لا يأتي عن طريق تجديد الشكوى، وإلحاف الرجاء، وتدبيج الخطط الغراء. فأهدى السبل إلى قيام السياسة على رؤى من الثقافة وقبس خططها أن نقف على أصل الجفاء بينهما في تاريخنا القريب حتى نعالج عودتهما إلى بيت الزوجية بنظر تاريخي جيد.
وقع طلاق السياسة والثقافة في حظيرة الأحزاب الموصوفة بالعقائدية مثل الشيوعيين والإخوان المسلمين في أعقاب انشقاقين مرموقين في الحركتين تخاصم قبل وقوعهما طائفتان في كل حركة : طائفة الدعويين التربويين وطائفة الجهاديين الثوريين في مصطلح الشيخ حسن الترابي. وانتهت تلك الخصومة بخروج الدعويين التربويين كجماعة أقلية (أو منشفيك بلغة الشيوعيين)، مجللة بعار مفارقة التاريخ الصائب، متهمة الأساليب أو المقاصد، مقهورة منبوذة، مصادرة في وجه النجاحات الجماهيرية المؤكدة التي أحرزها قبيل الجهاديين الثوريين.
فصراع عام 1952 في الحزب الشيوعي هو نزاع بين الجهاديين الثوريين بقيادة أستاذنا المرحوم عبد الخالق محجوب وبين الدعويين التربويين بقيادة المرحوم عوض عبد الرازق. فقد ساء عوض أن يرى الحزب يبدد طاقته بين الجماهير “من جم” ويفقد التركيز على تربية الطبقة العاملة في حرف وروح الاشتراكية. ومما يذكر أنه في اجتماع المواجهة بين شيعة عوض وشيعة عبد الخالق قذف عوض بطائفة من الكتب الماركسية عن المزارعين أمام المجتمعين سائلاً إياهم أن يطلعوا عليها قبل أن يبلغوا بنشاطهم جمهرة المزارعين (أو كتل الفلاحين كما كان يقول أخونا حسن عبد الماجد المحامي). ولم يُكتب النجاح لعوض وجماعته التربوية في يومهم ذاك. فقدد اكتسحهم جهاديو عبد الخالق الذين قالوا يكفينا لبلوغ أوسع الجماهير مجرد عموميات الماركسية، ثم نغتني منها بالممارسة علماً ودربة، ” نعلم الجماهير ونتعلم من الجماهير” كما جرت العبارة.
وصحب انتصار الجهاديين فظاظة فكرية عالية بحق التربويين. فقد جرى وصفهم بالتصفويين، ممثلي الطبقة الوسطى القانطة. حتى صار لا يرد ذكر المرحوم عوض عبد الرازق إلا مسبوقاً بـ ” الانتهازي”. وللقارئ أن يرجع الى كتيب ” لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي” الذي كتبه أستاذنا عبد الخالق بين سنتي 1960 و1961 ليقف على جزئيات هذا الصراع. وسيُلاحظ القارئ بغير عناء أن الكتيب قبس في خطة التأليف، وفي اللغة القاطعة الجارحة من الكتاب الحرباء: تاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي، ولعل أهم هدى أخذه كتيب عبد الخالق عن تاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي – الفكرة التي مؤداها أن تاريخ الحزب الشيوعي الحق لا يصدر إلا عن لجنة مؤلفة أو مكلفة من اللجنة المركزية للحزب. ومن حسن حظنا جميعاً أن الله قد شغل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني عن كتابة التاريخ بأمهات أخرى من الأمور في حين صدرت أعمال أكاديمية مرموقة أمينة عن تاريخ الحزب الشيوعي مثل التي كتبها صديقنا الدكتور محمد نوري الأمين.
من جهة حركة الإخوان المسلمين تماسك الجهاديون التربويون ” الحزز” في مؤتمر عام للحركة عام 1969. فقد كانت الحركة الإسلامية السياسية بعد ثورة أكتوبر 1964 قد توسعت بقيادة الشيخ الترابي لجبهة الميثاق الإسلامي توسعاً فات ماعون “الأسرة ” الإخواني المؤثل. وخشى التربويون على دينهم ومألوف طرائقهم وحركتهم من هذا الإفراط في السياسة على حساب تربية الدعاة الإسلاميين تربية وثقى. وقد سَمّى التربويون قبول الناس في الحركة بغير اعتبار لفرص تربيتهم الإسلامية مؤخراً بـ ” تجنيد الكشة” أي ” اللملام” أو كيفما اتفق وبغير فرز. وفاز بيوم 1969 الجهاديون الترابيون وخرج أهل التربية من أمثال الدكتور جعفر شيخ إدريس والمرحوم محمد صالح عمر بخاطر جريح، وقلة في النفر، وزهد في المستقبل.
وهكذا رأينا في الحالين – الشيوعي والإخواني – كيف ترافق الفتح الجماهيري مع انكسار النزعة التربوية الثقافية. ولست أريد بهذا التقرير أن أشين الفتح الجماهيري أو انتقصه. بل الصواب القول إنه مأثرة غراء تخطت به جماعة من العقائديين قيد “الصفوية والسذاجة”، كما وصفه الشيخ الترابي، إلى الجمهور الأوسع بغير واسطة تناجز قوى الطائفية المؤثلة حول موقع في خيال ووجدان وسياسة العامة. ولكن الذي يعيب هذا الفتح الجماهيري تصوير حداته له كالقول الفصل وإرادة التاريخ الغالبة مما يخفض التربية
تخفيضاً، ويجعلها أمرًا هيناً هو مما يستحصل في مسار النشاط العملي بين الجماهير. علماً بأن التربية والثقافة هما أيضاً مما يُستحصل كدحاً وخلوةً في غير اختلاط بالعامة.
انتصر في صراع الجهاديين والتربويين في الحزب الشيوعي عام 1952 وحركة الإخوان المسلمين عام 1969 الجهاديون على التربويين. بمعنى آخر انتصر السياسي على المثقف في الحركة السياسية الاجتماعية المعنية. ولما لم يستصحب هذا السياسي في نشاطه السياسي مرجعية تربوية، أو وجدان، في عبارة لأستاذنا عبد الخالق محجوب، فقد انتهى الى خبط عشواء وبخاصة حين تعثر أو دنا من الحكم، أي الميس. فقد ركب السياسي العقائدي مركب المغامرة إلى دست الحكم باسم “حرق المراحل” (عبارة الشيوعيين) “المسارعة إلى الله” (في عبارة الإخوان). وفتح الباب بذلك ليركبه بغير إذن سوى الشعار، كل مغامر، دجال، دعي، عجول، يائس، بائس إلى غنائم الحكم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.