السيدة رباح الصادق والتفكيك: أسرعنا لكمة باليمين
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
كتبت السيدة رباح الصادق كلمة انتقدت لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو لتمكين من وجوه دستوريتها وممارستها طبقت الآفاق. وما تكتبه رباح جدير بأن يحظى بعناية من راهنوا على أن تغرس اللجنة مبدأ المساءلة للتنفيذي والدستوري في حوكمتنا بعد تجربة ترك الحبل لهم على الغارب طويلاً، وخلال الثلاثين عاماً من الإنقاذ بشكل مأساوي. فرباح قلم نجيض. وهي قلم متعد أي أنه، وربما خلافاً لما ترغب هي، يعبر لا عن حزب الأمة فحسب، بل عن دوائره المتنفذة.
سأتطرق لما أثارته رباح على اللجنة موضوعياً وإجرائياً، ولكن ليس قبل بيان مفهوم تفكيك الإنقاذ ومساهمة رباح الوضاءة فيه. فقد لمستُ، وقد أكون توهمت، في اعتراضاتها على اللجنة نوعاً من “القنعان” منها لا يخيل على مثلها. فبدا لي من منطق اعتراضاتها كأنها تكتب نهاية فصل اللجنة ولم يبق لها سوى تشييعها لمثواها الأخير. ولن تمانع أن يحل محلها ما اتفق لها وإن لم يغن غناءها في القيام بالتفكيك الذي دعت له هي نفسها في زمان المعارضة.
كان الزمان مايو ٢٠١١.
وفي ١٥ منه التقى الصحفي أبو القاسم إبراهيم من القسم الاقتصادي بصحيفة (السوداني) بوزير المالية علي محمود ليعلق له على عقد صادر من المالية بمخصصات عثمان حمد المدير العام بسوق الخرطوم للأوراق المالية. فنص العقد على راتب يبلغ 18 ألف جنيه شهرياً، ومخصصات، إذا جمعت مع الراتب، تجعله ينال 808 ألف جنيه سنوياً (مليار بالقديم) وشمل العقد مخصصات مبتذلة: بدل الكسوة (72 ألف جنيه سنوياً)، وبدل العيدين (90 ألفاً) وعلاج وتذاكر سفر له وللأسرة وغيرها.
استشاط الوزير علي محمود غضباً حين رأى عقد المدير عثمان حمد بين يدي الصحفي. وأمر حراسه باقتياده وألا يدعوه حتى (يقر) بمصدر الوثيقة. ثم حمله معه في سيارة حراسه من موضعه ذاك إلى مقر الوزارة. وغشي الوزير في مساره مستوصفاً لعيادة مريض والصحفي تحت الحراسة لا يعرف من خبر الزيارة شيئاً. وذهب الصحفي أنور شمبال في أثر زميله يسأل عنه. فلقي الاستشاطة نفسها من الوزير لما علم بمسألته. ورد عليه: “ما مصير زول يسرق مستندات من مكتبي. لا تسألني عنه وأسأل الجهات التي (شالته)”. ثم حسم الأمر: “انت ذاتك دخلت هنا كيف؟ خارج نفسك قبل أن آمر باعتقالك، وتاني ما نشوفك في الوزارة”.
روت رباح هذه الحكاية في مقالين لها على صفحات “سودانايل”. وجاءت على ضوئها بنظرات عن النظام أدخل في مفهوم التفكيك من أي ممن قرأت لهم. فاختلفت رباح عن سائر الصحفيين الذين خطأوا الوزير على “بربريته” في وصف ضياء البلال. وكان من رأيها، بل أحد عناوين مقالتيها “عفوا، ولكن القانون مع وزير المالية” لترد أصل سفه الوزير وطغيانه إلى “دولة لا تحكم بأعراف الكرة الأرضية”. فهي لم تبعنا يوماٍ حرية ولم تشتر منا يوماً رأياً.
وأضافت أن النظام قد يسمع من الصحفيين ليمنيهم بمساءلة للوزير في البرلمان، أو حتى إنقاص مخصصات السفه للمدير. غير أن هذه ليست القضية ” إنها منظومة اقتصادية شاملة تحول مال الشعب للجيوب الخصوصية . . . ومنظومة قانونية شاملة تجعل المسئولين فوق القانون وتفرط في حقوق المواطنين (قانون قراقوشي)”. وهكذا رأت وضاح دون غيرها ما وراء واقعة الوزير. فهي ليست واقعة فساد نتلافها بالاحتجاج عليها مرة بعد مرة ونلقى من الحكومة “اعتذار الإضينة”. فالداء في النظام وبيل لأنه مصاب بما وصفه والدها المرحوم الإمام الصادق ب” الاقتصاد الخصوصي”. وهو مفهوم للإمام كان قابلا للتطوير ليعانق مفهوم “حكومة اللصوص” kleptocracy الذي ساغ في علوم السياسة الأفريقية لدراسة مثل نظم الإنقاذ.
وضربت وضاح مثلاً بسفه الإنقاذ الذي جعل شاغل الوظيفة التنفيذية “نعامة مك”. فتجري الامتيازات بين يديه معززاً مكرماً كما في “قانون مخصصات شاغلي المناصب الدستورية والتنفيذية والتشريعية وحصاناتهم لسنة ٢٠٠١”. وهو القانون الذي أعفى أولئك الشاغلين من الخضوع للقضاء المدني والجنائي. وعليه لا ترى رباح نفعاً من نقد وزير هو “نعامة البشير (هذه من عندي). فحري بنا، في قولها “نقد هذا النظام العدلي الظالم بنصوصه القانونية ونظامه القضائي والنيابي وبأعرافه وثقافته، أو لا ثقافته، السائدة”.
سبرت رباح واقعة الوزير إبراهيم محمود وسليمان الصحافي لتبلغ غورها وهو تناسلها من بنية نظام تمكن منا بالقانون ومؤسساته وثقافته (أو عدم ثقافته). وهذا الغور ما أردنا للجنة إزالة التمكين بلوغه وفض حافله. ربما أخطأت. ولكن لن ينهض خطؤها سبباً لتحويلها للجنة “لمحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة” كما طرأ لرباح. فنظام الإنقاذ ليس فاسداً كما تفسد نظم غيره. حاشاهو. فالفساد لحمته وسداه، بل، وفي عبارة إنجليزية، its raison d’etre (أي نطفته الأولى). وتفكيك النظام، عليه، لا يقتصر على رد المال المنهوب. فرأينا من رباح في تعليقها على حادثة الوزير والصحفي وعياً بنيوياً بالإنقاذ قل بين معارضي الأثارة في الفترة نفسها. وهو وعي “غِباني” في كلمتها الأخيرة في نقد لجنة تفكيك نظام لإنقاذ. وهذا ما سنتطرق له في كلمة تالية.