الضحية غير واجبة.. لا على الفقراء ولا على الأغنياء!!

0 82

كتب: د. عمر القراي

.

(لن ينال الله لحومها، ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم.. كذلك سخرَها لكم لتكبروا الله على ما هداكم، وبشر المحسنين) صدق الله العظيم
في هذه الظروف الصعبة، والبلاد مقبلة على مصير مجهول، والغلاء الفظيع ينهش عظم الفقراء واواسط الناس من الموظفين والعمال، نسمع الفقهاء والأئمة في المساجد يحثون الناس على “الأضحية”، ويؤكدونها لهم وكأنها واجب ديني، أو سنة نبوية.. بل ان المصالح الحكومية تعطي حق “الضحية” للعمال والسائقين بالاقساط!! وليس هناك ما يبرر “الضحية” بالدَين والأقساط، لأنها ليست من ضرورات الدين، ولا من ضرورات الحياة.
هناك سنة عادة، وهناك سنة عبادة.. فسنة العادة هى ما كان يفعله الرسول، صلى الله عليه وسلم، اخذاً بالعادة السائدة فى مجتمعه، حتى لا يعيش بصورة شاذة ومختلفة، قد تشغل الناس عن ما جاء يدعوهم اليه وتحجبه عنهم.. وسنة العادة تتعلق بمظاهرالحياة، كالمأكل، والملبس، والمركب، مما يمثل أعراف وعادات ذلك المجتمع، التي لا تمثل الدين، ولا تتعارض مع جوهره.. ولقد كان اخذه، صلى الله عليه وسلم، بمثل هذه العادة، انما هو من تمام تنزل الرسالة، إعتباراً للعرف، قال تعالى لرسوله الكريم: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين). ومن هنا كانت سنة العادة رهينة بالظروف التاريخية، فهي تتغير حسب تغير الأحوال. ولقد كان من سنة عادته صلى الله عليه وسلم إطالة شعر الرأس، وحف الشارب، واعفاء اللحية، وتقلد السيف، وركوب الناقة، وحمل العصا وذبح “الاضحية”.
أما سنة العبادة، فإنها ما يتعلق بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته أو معاملته للناس.. وهذه السنة باقية، وبإلتزامها يتم بعث الدين حياً في حياة الناس.. وهي تشمل الصلاة، وقيام الثلث الأخير من الليل وسائر العبادات، بنفس الصورة التي كان يؤديها بها النبي الكريم، ثم المعاملة للخلق بما يرضي الخالق، إبتداء من كف الأذي عن الناس، ثم تحمل الأذي منهم، ثم توصيل الخير إليهم. وهذه هي السنة المعنية بقول النبي الكريم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، كما بدأ، فطوبي للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد إندثارها!!).. أما سنة العادة المظهرية، فإنها لا عبرة بها، فقد جاء في الحديث (إن الله لا ينظر الى أجسادكم ولا الى صوركم ولكن ينظر الى القلوب التي في الصدور).
من أين جاءت عادة “الضحية”؟! لقد كانت عادة تقديم القربان الى الآلهه، عادة قديمة، متأصلة في المجتمعات الوثنية، وكان القربان في العهود الماضية، يقدم من البشر، وذلك لكثافة الناس، وغلظتهم.. جاء عن ذلك (ولما كان الفرد البشري الأول غليظ الطبع، قاسي القلب، بليد الحس، حيواني النزعة فقد احتاج إلى عنف عنيف لترويضه، ولنقله من الاستيحاش إلى الاستيناس، وكذلك كان العرف الاجتماعي الأول، شديدا عنيفا، يفرض الموت عقوبة على أيسر المخالفات، بل انه يفرض على الأفراد الصالحين أن يضعوا حياتهم دائما في خدمة مجتمعهم، فقد كانت الضحية البشرية معروفة تذبح على مذابح معابد الجماعة، استجلابا لرضا الآلهة، أو دفعا لغضبها حين يظن بها الغضب، ولقد كانت هذه الشريعة العنيفة، في دحض حرية الفرد، في سبيل مصلحة الجماعة معروفة ومعمولا بها، إلى وقت قريب، ففي زمن أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل وهو قد عاش قبل ميلاد المسيح بحوالي ألفي سنة، كانت هذه الشريعة لا تزال مقبولة دينا وعقلا، فإنه هو نفسه قد أمر بذبح ابنه إسماعيل، فأقبل على تنفيذ الأمر غير هياب ولا متردد، فتأذن الله يومئذ بنسخها فنسخت، وفدي البشر بحيوانية أغلظ من حيوانيته، وكان هذا إعلاما بأن ارتفاع البشر درجة فوق درجة الحيوان قد أشرف على غايته، ولقد قص الله علينا من أمر إبراهيم وإسماعيل فقال ((وقال إني ذاهب إلى ربي سيهديني * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك، فانظر ماذا ترى، قال يا أبتي افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم.))
((وتركنا عليه في الآخرين)) تعني، فيما تعني، إبطال شريعة العنف بالفرد البشري، لأنها لبثت حقبا سحيقة، وقد تم انتفاعه بها، فارتفع من وهدة الحيوانية وأصبح خليقا أن يفدى بما هو دونه من بهيمة الأنعام. ولا عبرة ببعض صور العنف التي لا يزال يتعرض لها الأفراد في المجتمعات البشرية المعاصرة، فإنها آيلة إلى الزوال كلما أتيحت لها فرص الوعي والرشد. فان التضحية الحسية بالفرد البشري لم تنته بجرة قلم على عهد إبراهيم الخليل، والتاريخ يخبرنا أن المسلمين، لدى فتح مصر، قد وجدوها تمارس في صورة عروس النيل، فإنه قد قيل أن عمرو بن العاص، فاتح مصر وأميرها يومئذ، قد انتبه ذات يوم على جلبة عظيمة، فسأل عنها، فأخبر أن القوم قد جرى عرفهم بأن يتخيروا بنتا، من أجمل الفتيات، ومن أعرق الأسر، يزفونها كل عام إلى النيل، يلقونها في أحضانه فداء لقومها من القحط، لأنها تغري النيل بأن يفيض عليهم باليمن والبركات، فطلب إليهم عمرو بن العاص أن يستأنوا بها، حتى يستأمر عمر بن الخطاب في ذلك، فكتب إلى عمر، فرد عمر بجوابه المشهور الذي قال فيه:
((بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر.
السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد، فإن كنت تفيض من عندك فلا تفض، وان كنت إنما تفيض من عند الله ففض.))
وأمر عمرو بن العاص أن يلقيه في النيل، ففعل، وفاض النيل، وأبطلت من يومئذ تلك العادة، وتم بالعلم فداء جديد للفرد البشري.) (محمود محمد طه: الرسالة الثانية من الإسلام ص ٢٩)

ولقد أصبحت التضحية بالحيوان بدلاً عن الإنسان، في التقرب الى الله، سنة ابراهيم عليه السلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لما سأله أصحابه: ما هذه الأضاحي؟؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم!! (سنن إبن ماجة، الجزء الثاني، صفحة ٢٦، وتفسير إبن كثير لسورة الحج، الجزء الرابع، صفحة ٦٤١).. ولما جاء عهد النبي الكريم، كانت حكمة الضحية بالحيوان قد أشرفت، هي أيضا، علي غايتها، فضحي هو ببهيمة الأنعام، ختما لسنة أبيه إبراهيم، في الفداء بالحيوان، وإفتتاحاً للعهد الذي تنتهي فيه عادة القربان الحيواني. وفدى الرسول صلى الله عليه وسلم امته بان ضحى عنها، فاسقط الضحية عن كافتها!! جاء فى تفسير ابن كثير، الجزء الرابع، صفحة ٦٤٢ (عن على بن الحسين عن ابى رافع ان رسول الله صلى الله عليه كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين اقرنين املحين، فاذا صلى وخطب الناس اتى باحدهما وهو قائم فى مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: “اللهم هذا عن امتى جميعها، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لى بالبلاغ” ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول: “هذا عن محمد وآل محمد” فيطعمهما جميعا للمساكين، ويأكل هو واهله منهما. رواه احمد، وابن ماجة..) ثم يمضى ابن كثير فيقول، فى صفحة ٦٤٦: (وقد تقدم انه عليه السلام ضحى عن امته فاسقط ذلك وجوبها عنهم).
فالنبى الكريم بضحيته، عنه، وعن آل بيته، وعن امته، انما فعل سنة ابيه ابراهيم، ولكنه لم يستن الضحيه ابتداء.. فعل سنة ابراهيم فاختتمها، وفدى امته عنها، وافتتح عهدا جديدا للتقرب الى الله بالعلم، وفدى النفس بالفكر، لا بالحيوان، وهو فى نفس الوقت، انما جارى عادة سائدة، فهذبها، وتسامى بها، وفتح الطريق الى ما هو خير منها.. ومما ورد أيضاً جاء في (سبل السلام)، صفحة ٩٦: (وأخرج البيهقي من حديث عمرو بن العاص أنه صلي الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن الضحية وأنه قد لا يجدها، فقال: (قلم إظافرك، وقص شاربك، وأحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل!!) رواه ايضا ابو داؤود فى (سنن ابى داؤود الجزء الثالث، صفحة ٩٣). وفى هذا الحديث اشارة لطيفة الى استبدال الضحية بالحيوان بعمل يتجه الى تهذيب بقايا الموروث الحيوانى فى البشر، انفسهم، وهى الشعور والاظافر، مما يفتح الطريق امام قيمة جديدة هى ان يفدى الانسان نفسه، بتهذيب نفسه لا بكائن خارجه، انسانا كان او حيوان!!
ومعلوم أن كبار الأصحاب كانوا لا يضحون بما في ذلك الموسرين منهم.. جاء فى تفسير ابن كثير الجزء الرابع صفحة ٦٤٦ (وقال ابو سريحة “كنت جارا لابى بكر وعمر وكانا لا يضحيان خشية ان يقتدى الناس بهما”) وجاء فى “سبل السلام” الجزء الرابع صفحة ٩١: (وافعال الصحابة دالة على عدم الايجاب – ايجاب الضحية – فاخرج البيهقى عن ابى بكر وعمر رضى الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان خشية ان يقتدى بهما) وجاء فى “الاعتصام” للشاطبى الجزء الثامن صفحة ٩١ (وكان الصحابة رضى الله عنهم لا يضحون – يعنى انهم لا يلتزمون) الخطوط من وضع الكاتب. وهكذا… فلو لم تسقط الضحية عن الامة لكان الاصحاب وعلى راسهم الشيخان , اولى الناس بادائها.. وقد جاء أيضاً في “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”، الجزء الأول، صفحة ٤٦٤: (قال عكرمة: بعثني إبن عباس بدرهمين إشتري بهما لحما، وقال: من لقيت فقل له هذه أضحية إبن عباس!! وروي عن بلال أنه ضحي بديك!!) وجاء في “سبل السلام” صفحة ٩١ (وقال طاقوس: ما رأينا بيتا أكثر لحما وخبزا وعلما من بيت إبن عباس، يذبح وينحر كل يوم، ثم لا يذبح يوم العيد). أما عبد الله إبن مسعود فلم يدع قط حجة لمحتج بوجوبها، لا علي المعوزين، ولا علي الموسرين!! فقد روى الشاطبي في “الإعتصام”، الجزء الثاني صفحة ٩١: (و قال إبن مسعود: أني لأترك أضحيتي، وإني لمن أيسركم، مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة!!)
وهكذا علم الأصحاب ان الاضحية غير واجبة فلم يضحوا وابانوا ذلك.. واليوم فإن حكم الوقت يجعل الضحية عمل سيئ من القادر عليها، وذلك لأنه يدع جاره غير المستطيع الى تكلف الشطط، حتى لا يرى اطفاله اللحم في أيدي ابناء الغني فيتأثروا بذلك.. وهذا ما جعل أغنياء الأصحاب كإبن عباس لا يضحون. ان هذه الآثار الاقتصادية والإجتماعية الضارة للضحية، تجعلها أمراً مرفوضأ دينياً وأخلاقياً، ويجب تركة والتواصي بتركه.. فإن الدماء التي تهرق في الشوارع، واللحوم التي تقطع على ابواب المنازل، فتجمع الذباب والأمراض، لن تصل الى الله، وإنما تصله التقوى.. والتقوى لا تقوم إذا لم نراع جيراننا، ونقدر ظروفهم، ونترك “الضحية” حتى لا يتأذى اطفالهم.. إقرأوا مرة أخرى قوله تعالى (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.