الضغطُ ضروريٌّ لكن بحساب

0 112
كتب: د. النور حمد
.
لا تسير الثورة في خط مستقيم تصل به في النهاية إلى أهدافها. فالثورة جنينٌ للواقع بكل علله التي دعت الناس إلى الثورة، في المقام الأول. تعتري مسار كل ثورة الكثير من التعرجات ومن حالات الصعود والهبوط. ومن يتصور أن الثورة تسير في خط مستقيم، بقوة دفع ثابتة، وحالة ضغط متزايدة متنامية باستمرار، حتى تبلغ أهدافها يقع في فخ المثالية التي تعمى عن رؤية تعقيدات الواقع وإكراهاته. فما أكثر ما انتكست الثورات في التاريخ نتيجة للحسابات الخاطئة والاندفاع الأعمى. كل تحرك في مسار أي ثورة ينبغي أن يخضع لحسابات دقيقة فيما يتعلق بالربح والخسارة. ويقتضي ذلك قراءة حصيفة لمكونات الواقع السياسي وقواه المختلفة وأجندتها وتكتيكاتها. ولا جدال هنا أن أداء الشراكة الانتقالية بين القوات المسلحة والمكون المدني لم يكن مرضيًا، وهو ما قاد إلى الشعور بأن الثورة يجري خنقها بعمل ممنهج، يبعدها عن أهدافها كل صبح جديد.
من منطلق الاشفاق على مصير الثورة خرجت مواكب 17 أغسطس الجاري بغرض إرسال رسالة إلى من يديرون الفترة الانتقالية، مفادها أن جذوة الثورة لا تزال حية. لكن، دخلت على الخط في دعم هذا التحرك، القوى المعادية للثورة. وهي قوى تشمل كيانات من داخل مؤسسة الحكم الراهنة، وأحزاب متآمرة على الثورة، إضافةً إلى أنصار النظام المدحور. أخذت هذه الكيانات المختلفة في التشجيع على هذه المواكب، بل والانخراط بالمشاركة فيها، لكن بأجندة مختلفة، جوهرها خلق حالة من الاضطراب وتصعيدها لتصل إلى فوضى شاملة تبرر للمؤسسة العسكرية أخذ عنان الحكم في يدها منفردة، بدعوى انفراط عقد الأمن. ولقد رأينا الدعوات المتكررة من سدنة النظام المدحور في داخل البلاد وخارجها للقوات المسلحة لإخراج المدنيين من الشراكة والانفراد بإدارة الفترة الانتقالية. وما ذلك سوى ذرٌّ للرماد في العيون، لأنه لن تكون هناك فترة انتقالية، وإنما تطبيق حرفي للنموذج المصري على السودان.
لا أشك أبدًا أن ما جرى أمام مجلس الوزراء في موكب 17 أغسطس، ومنح الشرطة الفرصة للتدخل العنيف الذي جرى، رغم تعهدات والي الخرطوم، كان عملاً مدبرًا لإيغار صدور الثوار ودفعهم إلى مزيد من التصعيد، وإعادة الأمور كرة أخرى إلى مربع المتاريس وحرب الأحياء مع القوات النظامية. لقد مارست قوى الثورة المضادة طائفة متنوعة من الأعمال الخسيسة، منها على سبيل المثال: خلق الندرة في السلع وإرباك الخدمات، ومضاعفة الأسعار، وإنهاك الجنيه، وإشعال الحرائق في أطراف البلاد. ولما وجدوا أن الشعب قد تحمل كل ذلك بتفهم وجلد كبيرين، التفتوا إلى استغلال المواكب واتخاذها وسيلة لتنويع أعمال الهدم الممنهج التي ظلوا يمارسونها.
خلاصة القول، لابد من قراءة الخريطة السياسية بعين فاحصة وفرز الأجندة المختلفة لمكونات هذه الخريطة شديدة التشابك. من الأفضل أن تستمر الفترة الانتقالية بعللها، مع الضغط المحسوب لإصلاح ما يمكن إصلاحه منها. من ذلك، استكمال مؤسسات الحكم، كقيام المجلس التشريعي والمفوضيات وغير ذلك. فالانتخابات هي الفيصل في نهاية الأمر. صيغة الحكم الجارية، برموزها، وعلى علاتها الكثيرة، هي ما قبله المجتمع الإقليمي والمجتمع الدولي. إن أفضل ما جرى في الحراك الأخير هو الاعتصام أمام مقار المحليات، التي لا تزال بؤرًا للثورة المضادة. وهذا يعكس نموذجا في تنويع المواقع التي ينبغي أن يُمارس عليها الضغط الثوري، كما يعكس أيضا تنويعا للأساليب. فالانطلاق من مجرد الشعور بالإحباط لا يخدم الأهداف، بل ربما يجهضها ويعيد العجلة إلى الوراء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.