العبادي (8) بوصيك قَبُل تبدأ…!
كتب: د. مرتضى الغالي
.
قبل الحديث عن أغنية (سايق الفيات) لإبراهيم العبادي..وهي ليست من باب “الدعاية” للسيارة الايطالية الشهيرة.. ولكنها من الأغنيات الغُرر من أغاني ذلك الزمن لافتراعها باباً جميلاً يمكن أن نقول انه (مُسدار غنائي) يصف رحلة عن طريق (صورة فيلميه) لو تم تصويرها بتزامن مراحلها ومشاهدها على هيئة (فيديو كليب) “وهو مجموعة لقطات ومشاهد مصورة مجمّعة في سياق وسيناريو لعرض مضمون ما” لو تم ذلك لهذه الأغنية لأحدث هزّة في تقنيات التصوير الفني.. حيث يمكن أن تضبط فيه ساعتك لتعايش مسار الرحلة وأحداثها وحتى الوقت الذي تستغرقه إلى سنجة عبر (طريق الرمّاش)..!
طبعاً لا بد أن نتذكّر هنا أغنية ود الرضي (من الأسكلا وحلّا) وما جرى مجراها مثل (ظبية البص السريع) للشاعر المُعلّم “حسن أكرت” التي من أجلها (فوّت محطته)..بلدة “نعيمة” الجميلة من أعمال النيل الأبيض حيث كان يعمل..ومن المدرسة الوترية أغنية سيد خليفة (قمنا من ارض الكنانة..لي ربوع أم دُر دعانا..الفي قلوبنا صورتو حيّه) التي كتبها عبد المنعم عبد الحي يصوّر فيها رحلته من مصر إلى السودان..ولكن قبل حكاية “سايق الفيات” نقول أن للعبادي في تناول موضوعات أغانيه (مداخل) تتسم بسماته وتنفرد بنكهتها الخاصة التي تختلف عن مداخل زملائه ومعاصريه لذات الموضوعات..وحتى عندما يتناول العبادي موضوعاً عاماً مثل استقلال السودان؛ في أغنيته: (بالله عيد يا عيدنا عيد/ فرحتنا بالعهد السعيد) تجد أنه يتحدث عن المناسبة من زاوية خاصة: (قمنا القريب نادى البعيد/ هبينا ما خشينا الوعيد/ لاقانا جباراً عنيد/ بي سطوة للحد البعيد) .. (فوق الصعاب عقبات يضيف/ نجتازا بي لطف اللطيف/ راح الدخيل وكأنو ضيف/ جبناهو استقلال نضيف)..! (ما جبنا بي السهل الزهيد/ بي تضحية وجهداً جهيد/ باليقظة والطرف السهيد/ تمنو النفوس ربك شهيد) ثم في إشارة إلى دور المرأة السودانية: (وقف الغزال جنب الأسد/ من الشرور يبقولو سد)..إلخ..! وهنا نجد مثل هذا الاستهلال الحلو في سايق الفيات: (بوصيك قبل تبدا/ سيرك داك طريقك سابق الرَبده/ منك بعيد جبده/ حي هند المُراد..عوج بي ربوع عبده)..!!
ما يستوقف في أغنية سايق الفيات ليس أنها مجرد رحلة.. فقد خلق منها العبادي عوالم تمور بالحركة، وحميمية الرفقة والتعبير عن الأصوات والألوان، والمشاهد المتغيّرة التي تجاري سرعة السيارة، واختلاف المناظر، واختلاج الحالات الشعورية مع عدم إغفال عنصري الزمان والمكان، والظواهر والعلامات على طول الطريق، والكائنات والموجودات بما فيها الكلاب التي تركض خلف السيارة ولا تعود من لهاثها بغير العلال وغبار الطريق (شقّ حشا الطريق واتيامن الحلّال/ زفّنو الكلاب ما نالن إلا علال) وهناك رفاق الرحلة (يا زين الشباب يا طيب الأخلاق/ يا أمين الصديق والناس على الإطلاق) ويشير العبادي في بلاغة تأملية يدرجها في الأغنية إلى الطبيعة البريّة البكر wilderness غير المشذّبة: (من أيدي الصناعة يبعد المِعلاق/ انظر للطبيعة ومجّد الخلاق)..وحُسن نساء البادية غير المجلوب بالتطرية واصطناع الزينة والكريمات (أنزل يا صديق وشوف يد القُدره/ شوف حسن البداوة الما لِمس بُدره)..! ثم هناك الأنس والطرافة التي تتجلي في حادثة الفتيات عند النهر والحوار الذي جرى معهن وغياب ماعون الشُرب الذي يجعل الفتيات يقدمن كفوفهن: (ما فيش كاس قريب قالن بدون كُلفه / تشرب بي كفوفنا لما تتكفى)..! وهكذا يمضي العبادي في وصف الرحلة ولا يغفل حتى عن (الكنتور) الجغرافي وطبوغرافيا الأرض وحالة الطقس وصورة الأشجار الضخمة الشاهقة التي تتحوّل إلى خيالات وتغيب في خط الأفق نتيجة لسرعة السيارة (شوف سايق الفيات الليله كيفن هاش/ والشدر الكُبار بقا شوفنا ليهو طشاش) مع تصوير حالة الإعجاب والتفاعل النفسي ثم التأمل في قدرة الخالق ووصف الحسي بغير الحسي حيث يصف العبادي مجري الماء في النهر (الهجسان) وانسياب التيار هادئاً متطامناً وكأنه مرور سِنة الكرى في مقلة النعسان..!
وهنا ترتفع الصياغة لتجاري طبيعة الحركة وتبدّل الحالات والتهيؤ للمرح.. فتجد السرد والوصف والإضمار والتورية والترقيق والترخيم والإيقاع السريع والبطئ والمسار اللاهث والمتأني.. كما تجد الاستفهام والتعجّب والتساؤل الاستنكاري والنفي والإثبات والاستعلام والحوار..! ومن أمثلة ذلك: (جلّت قدرتو ما اكفر الإنسان/ كم ينسى الجميل كم يجحد الإحسان)..!! و(ما نفرن تقل سابق الكلام إلفه /عطشان قت ليهن وصحّت البلفه) ثم يقول عن الحسان الواردات: (ورّاد النهر أردوني لم أدرى/ الكاتل الصفار أم نضرة الخضرة)..؟! ثم تجد جمال التعبير الألمعي الذي يوازن بين (سرعة الأفكار) وسرعة حركة السيارة..وهذه أيضاً من شواهد تشبيه الحسّي بالمعنوي..سرعة السيارة وحسابها بالأميال..مع سرعة مرور الأفكار في الذهن: (اطوي الأرض واضرع/ من أفكارنا سيرك يا الفيات أسرع)..! ثم التعاطف مع الغزلان في البوادي (ميّل على المُشرع/ لا تريع القطيع بتجفّل الأدرع)..والعبادي كعادته له محظية يخصّها وحدها بالعناية من بين سرب الظباء..يتذكّر بها محبوبته الأثيرة بين حسّان الحي..(الظبي الأدرع غير)..!!!