العيد وعشا الميتين وغدا الحيين (الأحياء)

0 103
كتب: جعفر عباس
في الشطر الأول من طفولتي في كوستي شاركت في جولات الرحمتات/ الحارة/ عشا الميتين في الجمعة اليتيمة، مرددين أهازيج في منتهى اللداحة والقباحة: الحارة ما مرقت/ ست الدوكة ما ظ*تت/ كبريتة كبريتة ست الدوكة عفريتة!! عيال يدخلون عشرات البيوت ليأكلوا الفتة واللحم ويشيلون حس من تقوم بالطبخ.
وعندما انتقلنا الى عروس الريف بدين كنا نطوف في ذلك اليوم ونحن نردد: ديورين أشاقا (عشاء الميتين) آنجورين قداكا (غدا الأحياء)، وننتقل من بيت الى آخر، ولكننا كنا نعرف البيوت التي تقدم فتة عليها القيمة ومعها اللحم، ونتسابق اليها ونتفادى تلك التي تقدم ال”سوراد” فقط، وهي الكسرة المرشوشة بسليقة مكلفتة تكون مصنوعة من قطعة لحم واحدة ونصف بصلة.
كنا نستعد للعيد اعتبارا من رجب بتسلق النخيل لنمارس ما يعرف ب”قليق دول” وهو التقاط التمر الذي يكون محشورا بين “الأبج” وهو الجزء المتبقي من الجريد المقطوع لإفساح المجال للسعف الجديد، فعند حش التمر يتساقط بعضه بين العراجين، وكان الواحد منا يربط العراقي بإحكام في منطقة الخصر بخيط او حبل رفيع ويصعد النخلة ويلتقط التمر ويرمي به داخل العراقي فلا يتسرب الى الأسفل، وبعد امتلاء الكرش بالتمر نتوجه الى بيوتنا حيث لكل واحد منا “قالو (زير) أو “فيشي” وهي الجرة (الزير) الصغيرة يخزن فيها تموره، بينما هناك “قُسّي” وهي الوعاء الطيني المخروطي الضخم (يسميه الناطقون بالعربية قسيبة) لتخزين محصول العائلة من التمر الى جانب أخريات مخصصة للذرة والقمح.
ولأن التمر الذي يتم جمعه بتلك الطريقة كان كوكتيل فيه الجيد وفيه الجاو (وهو أقل التمور قيمة) فقد كان يعود علينا بمبالغ قليلة عندما نبيعه للتجار، وكانت الغاية من حرصنا على جمع المال عبور النيل شرقا الى كرمة النزل (هناك كرمة البلد وهي الأصل، وسميت القرية الواقعة الى الشمال منها بكرمة النزل لأنها كانت محطة لنزول وركوب المسافرين الى حلفا وكريمة)، وكان سوق كرمة في نظرنا هو السوق الإفرنجي حيث هناك المطاعم والبضائع العجيبة التي كنا نعتقد انها من فئة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وكان أهلنا يشترون معظم لوازم العيد من سوق كرمة التي كان التجار يفدون اليه كل يوم أحد من أقاصي الشمال ومنطقة دنقلا.
في صباح يوم العيد كانت النساء يتوجهن الى المقابر لوضع الكعك والحلوى والتمور على شواهد قبور الأقارب من الموتى، ونحن في أعقابهن في ضوء خطط مسبقة كنا نضعها لمعرفة الموتى الVIP الذين توضع على قبورهم حلوى ومخبوزات عليها القيمة، ونترك قبور ناس قريعتي للغنم ليأكلوا ما عليها من تمر “كشوش” وهو التمر عديم النوى والطعم.
كان أهم إنجاز لنا في العيد ان نتناول وجبة في مطعم في كرمة بحلاوة رغيف (كان طعامنا في غالبه كبا نري (كسرة مرة) وفي المناسبات أنجويد (فطائر القمح الرفيعة)، وبعدها يدفع كل واحد منا خمسة قروش لركوب لوري لمدة ربع ساعة، ثم يدفع قرشا إضافيا إذا أراد من السائق ضرب البوق (البوري).
وأهم كنز كنا نرجع به من كرمة كان حلاوة لكوم ويشتري العلبة منها اثنان او ثلاثة ويتشاركون أكل محتوياتها، والشكلة تقوم حول من يفوز بحصة أكبر في سف السكر البودرة المصاحب ل”اللكوم”.
قد يبدو كل ذلك عنوانا للبؤس، ولكنني لم أعرف للأعياد اللاحقة في المدينة او مهجر الغربة طعما كذاك.
وكل عام وأنتم بخير ورحم الله موتاكم وحماكم من الكورونا والتي حالات الإصابة فيها في سودان اليوم بالآلاف والله يستر على بني وبنات وطني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.