القانون السوداني وقانون سبتمبر

0 78
.

كان يمكن أن يكون للتعديلات القانونية التي أصدرها الرئيس الأسبق جعفر نميري لقانون العقوبات في سبتمبر ١٩٨٣ بحجة الأوبة لشرع الله، أن تكون مجرد حدث عابر في التاريخ السياسي والقانوني السوداني، فقد انتبه القانونيون السودانيون منذ منتصف العقد الستين من القرن الماضي إلى ضرورة الإصلاح القانوني الشامل، مدفوعين بواقع موضوعي إذ أن التركة التي خلفها الاستعمار البريطاني في مجال القانون، ظلت مواد متناثرة اعتمدت على سوابق القانون البريطاني قبل أن يتأسس للسودان وزارة عدل أو ديوان للنائب العام، بل إن العثور على نسخة من القانون لإثباتها في حجج المحامين ومرافعات القضاة ظلت مهمة عسيرة بعد نحو 10 أعوام من الاستقلال، إذ كر عليها الزمن واهترأت أوراقها والتهمت أجزاءها الحشرات القوارض.
لكن الدافع الأهم ظل لدى كبار أهل القانون هو إعداد ثبت قانوني شامل يعبر بصدق عن الجماعة الوطنية السودانية، يستصحب روح العصر ولكنه لا يغفل عن ثقافة أهل السودان وأعرافه ومن ذلك الشريعة الإسلامية وروحها ومقاصدها الكبرى، بل إنه كما يسترشد بالقانونيين البريطانيين الممارسين وبأساتذة القانون في جامعات لندن وإكسفورد، يراجع بدقة اجتهادات فحول القانونيين في مصر وسوريا واليمن في سعيهم لاستلهام الشريعة الإسلامية لتكون رافداً لا يعبر فقط عن الروح المتدينة للمسلمين، ولكن يستفيد من الجوانب التي أحرز فيها الفقه الإسلامي تقدماً سبق به العالم، خاصة في مجالات الوقف والتأمين الاجتماعي.
لقد أفلحت تلك الدوافع وتلك الجهود الواعية في إكمال ذلك العمل نحو أواخر العقد السبعين من القرن الماضي، مستغرقًا نحو 7 أعوام أعقبت وصول النميري للحكم وعبر 6 ممن تولوا منصب النائب العام هم (أحمد سليمان، زكي مصطفى، زكي عبد الرحمن، حسن عمر، الرشيد الطاهر، حسن الترابي). وإذ شملت المراجعة القوانين كافة وسائر المواد (القانون الجنائي، القانون المدني، قانون الإجراءات المدنية، قانون الإجراءات، وسائر فروعهما من القتل العمد إلى البيوع والعقود والضرائب والإيجار)، بل انقسمت المراجعة إلى لجان موسعة ثم حصرت في لجان من شخصين أو ثلاثة لكل قانون واستغرق العمل أحياناً عامين في قانون واحد وأحياناً بضعة أشهر في مادة أو اثنتين مما تكون مظنة خلاف أو مجال للاجتهاد الواسع، وإن نظرة واحدة لأسماء القانونيين الذين تعاقبوا على تلك اللجان، كافية لأن يرتد إليك البصر مؤكداً على علم أولئك الأفذاذ وخبرتهم، فقد شملت اللجان الموسعة التي عهد إليها بوضع النظرية العامة وفلسفة القانون: محمد أحمد أبورنات، مجذوب علي حسيب، الشيخ عوض الله صالح، الشيخ محمد الجزولي، صلاح شبيكة، حسن علوب، إبراهيم الحاج موسى، عبد المجيد إمام، محمد يوسف مضوي، جلال علي لطفي، عبد الرحمن عبده، زيادة أرباب.
كما ضمت اللجان من المحامين الممارسين: عبد العزيز شدو، عبد الرحيم موسى، عقيل أحمد عقيل، عبد الله الحسن، حسين وني، ميرغني النصري.
ومن أساتذة القانون: محمد محي الدين عوض، محمد إبراهيم الطاهر، محمد الفاتح حامد، سعيد المهدي .
وإذ أدخلت المراجعات مشاريع لقوانين لم تكن موجودة أصلًا في السودان مثل قوانين العقود والوكالة والمسؤولية التقديرية والإثبات فقد أكملت اللجان المصغرة عملها:
محمد أحمد أبورنات، مجذوب علي حسيب، قانون العقوبات والإجراءات الجنائية
علي المرضي محمد إبراهيم النور، قانون الأراضي
أحمد متولي العتباني، زكي مصطفى، محمد الفاتح حامد قانون الإجراءات المدنية
كما استعانت اللجان بالبروفيسور قور من جامعة لندن، والمستر أوري دايمتون سكرتير لجنة القوانين البريطانية، البروفيسور سليم عطية من جامعة إكسفورد وضمت لجان مراجعة القوانين في صيغتها الأخيرة: خلف الله الرشيد، دفع الله الرضي، مهدي الفحل، الطيب عباس، كما ضمت لجان المراجعة ممثلين لقطاع التعليم على رأسهم فيصل عبد الرحمن علي طه، وأشركت لأول مرة قادة الشرطة بوصفهم المنفذين للقانون.
اكتمل عمل اللجان بالكامل في عهد النائب العام الدكتور حسن الترابي ومهر مجلداتها الستة بتوقيعه، ثم مهر مجلداتها التالية والتي بلغت ١١ مجلداً بتوقيعه بعد أن ضمن طباعتها بمطابع مودي حكيم بلندن لتكون متوفرة لدى محاكم السودان كافة وصامدة أمام الزمن، وقد بلغت تكلفة طباعتها ٨٠ ألف جنيه إسترليني وهو مبلغ كبير بمقاييس ١٩٨٠، كما استغرقت عملية التسليم والتسليم بين وزيري العدل حسن الترابي الذي غادر مستشاراً إلى قصر الرئاسة والرشيد الطاهر بكر الذي خلفه على المنصب اسبوعاً كاملاً، لم يكن الترابي ليبذله بل لم يكن ليوقع على تلك المجلدات لو كان يعتقد أن في تلك القوانين ما يخالف الشريعة الإسلامية.
شهد كذلك عهد النائب العام الأسبق حسن عمر إصدار النميري لقرار تكوين لجنة مراجعة القوانين لتتوافق مع الشريعة الإسلامية وضمت اللجنة: خلف الله الرشيد رئيس القضاء إضافة إلى عون الشريف قاسم وزير الشؤون الدينية، علي سمو وزير الإعلام، محمد الجزولي قاضي القضاة، عوض الله صالح مفتي الجمهورية كما ضمت أيضاً جلال علي لطفي، سيد أمين، أميل قرنفلي، ميرغني النصري، محمد الفاتح حامد عميد كلية القانون، علي محمد العوض، حسن الترابي، الشيخ علي عبدالرحمن، محمد إبراهيم خليل، باستثناء الاسمين الأخيرين فقد واظب البقية على حضور اجتماعات اللجنة كما حضر الشيخ على عبدالرحمن الاجتماع الافتتاحي. ولضمان الاستفادة الأتم من اجتهادات فقهاء القانون في العالم العربي فقد استعانت اللجنة من مصر بالمستشار علي منصور وإبراهيم الميلاني من جامعة عمان ومحمد صقر من جامعة عمان ومحمد سليم العوا من جامعة الرياض وبروفيسور صديق الضرير الذي كان يعمل بجامعة الرياض أيضاً، إضافة لمحمد سلام مدكور من جامعة القاهرة ود محمد الفاتح حامد عميد القانون بجامعة الخرطوم. كما طلبت اللجنة من رئيس الوزراء يومئذً إلحاق أسماء أخرى لضمان تمثيل كل ثقافات السودان ومجتمعاته ومدارسه الفكرية في العمل الوطني الذي يمس كل شعوبه، فاستجاب رئيس الوزراء وأصدر في ٢٥ أكتوبر ١٩٧٧ قراراً بإضافة: دفع الله الحاج يوسف، فرانسيس دينق، أمبروز ريني، أكلودي أماني تير. كما قدم لتقرير عمل اللجنة رئيس اللجنة الفنية الدكتور حسن الترابي بما يؤكد فهم اللجنة لضرورة موافقة القانون العام لتطور المجتمع وأحوال العصر بالنص التالي: راعت اللجنة الحرج العملي الناشئ من طرح النظم القائمة لئلا يقع ارتباك عظيم أو إفساد في ضرورات حياة الناس ونظم الدولة، كما راعت اللجنة الرأي العام من حيث الاستجابة لتعلقه بالمشهور من الأحكام الشرعية، وتبشيره بالادعي إلى التقبل الفوري، ومن حيث الحاجة لتقديم التوطئة الإرشادية لبعض الأحكام التي يخشى أن تحدث فتنة إذا أخذ به قبل ترقية فهمهم لحكمه وتربية استعدادهم لاحتمال وقع تكاليفه.
كما صرح ذات رئيس اللجنة الفنية في تقريره أن أقل من 10% من قوانين السودان تخالف الشريعة الإسلامية أغلبها ليس في جوهر القانون ولكن في بعض الأحكام العرضية، وبالتحديد فمن بين ٢٨٦ قانوناً هنالك ٣٨ قانون فقط تقع فيها مخالفات شرعية، ومن بين ٣٨ قانوناً منها 5 فقط يعتبر مخالفتها جوهرية، مثل الإشارة للربا في قانون المصارف وقانون الإفلاس والقوانين التي أشارت إلى الخمور شأن الجدول الملحق بقانون رسوم الدمغة والقوانين التي يستشف منها إباحة الميسر مثل قانون اليانصيب والمراهنات.
لم تكن قوانين سبتمبر لتكون شيئاً في تاريخ السودان لولا أنها منحت تيار الإسلام السياسي تميزًا كان يفتقده أمام الأحزاب التقليدية المؤسسة على الولاء الديني ولم تكن قوانين سبتمبر لتكون شيئاً لولا أن حكم النميري يومها قد فقد مبررات وجوده بالكامل وطفق يلتمسها في الدين، لم تكن قوانين سبتمبر لتكون شيئاً أمام الجهد القانوني المهول الذي بذله السودانيون في إصلاح قوانينهم لولا السياسة والأيدلوجيا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.