اللغة مفتاحا وعقدة

0 86
كتب: جعفر عباس
.
ظل ترتيبي بين أقراني في المدرسة الأولية (الابتدائية) في بدين ضمن العشرة الأواخر ل4 سنوات، لأنه وعند التحاقي بالمدرسة كان 98% من تلاميذها لا يعرفون من اللغة العربية سوى بضع كلمات موجودة في الكتب المدرسية: الأسد والجمل والولد إلخ، بينما دخلت المدرسة ناطقا بالعربية قادما من كوستي ولا أعرف شيئا من اللغة النوبية، وكنت انطوائيا وبلا أصحاب لعدم وجود لغة مشتركة للتفاهم، وكنت بالتالي عاجزا عن طلب المساعدة في المذاكرة من أي زملائي.
مثلا كنت اسمع في كل فسحة بين الحصص أشخاصا يصيحون: مين دلله شي، (لامين بعد الدال) وكان ذلك يعني ان من يصيح وجد شيئا يخص زميلا له، فصرت مثلهم كلما وجدت قلما او كتابا ملقى في مكان ما اصيح بتلك العبارة، وعرفت بعد سنوات انها النسخة النوبية من “مين ضاع له شيء”، وكتبت مرارا عن استاذنا محمد اختيار الذي غضب منا وترك المدرسة بعد ان طلب منا ترديد نشيد “طلع البدر علينا” فصاح خمسون طالبا: جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير “داء”، فثار وهب: سيد الخلق “داء” يا عجم يا بجم، ثم خرج من المدرسة ولم يعد وسمعنا لاحقا انه قتل علي ايدي المتمردين في الجنوب.
وتخيل حالك مدرسا في ديار النوبة في ذلك الزمان، ويأتيك كما حدث في مدرسة السليم الأولية تلميذ شاكيا بعيون دامعة ويقول لك: فندي، فندي انا كتو هتو كوس لقيتو عند “فلان” سرّقت جسلاني، اضطر المدرس الاستعانة بأسلوب جورج قرداحي بطلب النجدة من الجمهور وجاء عدد من التلاميذ وتبادلوا الأسئلة مع التلميذ صاحب الشكوى ثم قالوا للمدرس إنه كان يخت كوز (هتو كوس) في شنطة ملابسه، ووجد الكوس (الكوز) عند فلان، مما أكد له انه من أخذ الجزلان (جسلاني) الذي كان في الشنطة.
في سنتي الرابعة في المدرسة كنت قد صرت نوبيا بنسبة 95% بدرجة ان اسمي صار جافر أباس سيد أهمد، وبالانتقال الى المدرسة الوسطى في البرقيق وبداية تعاطي اللغة الإنجليزية جعلتني “عقدة اللغة” التي عانيت منها في بدين امسك في الإنجليزية بالناب والظفر، وكلما ازدادت دروس الرياضيات تعقيدا ازداد تمسكي بالإنجليزية، وبالمقابل وبدخول مرحلة الجبر تأكد لي ان الرياضيات رجس من عمل الشيطان بسبب الألغاز: س اس 4 x ص تربيع- (سين وجيم)= صفر، ثم يقول لك “علل”- العلة ال تعِلّك، وأصلا لما النتيجة صفر- أي لا شيء، علام التعب؟ أما عندما رأيت جدول اللوغريثمات فقد تأكد أنه عمل يراد به الحاق الأذى بي.
لم يتلقط زميلنا س. م. من الإنجليزية سوى كلمة بكتشر picture (صورة) وإذا طلب منهالمدرس وضع كلمة مناسبة في جملة جاهزة كانت إجابات صاحبنا: ماي نيم إز بكتشر/ آي آم أ بكتشر/ آي إيت بكتشر، أما ساتي عبد الدائم رحمه الله فقد كان عداؤه للإنجليزية مكشوفا ونجح في اقناع مدرسي تلك اللغة بعدم طرح أي سؤال يتعلق بها عليه، وذات يوم كان استاذنا في البرقيق محمد بشير الأحمدي يقرأ علينا نصا إنجليزيا وفي نقطة معينة انفجرنا نحن نحو خمسة تلاميذ ضاحكين، فانتفض ساتي واقفا: منافقين .. الإنجليزي كمان فيه ضحك؟
وبعد ان عملت بتدريس الإنجليزية في المرحلة الثانوية صار عندي رصيد ضخم من الجرائم التي تم ارتكابها بحق تلك اللغة .. ولكن الستر واجب، مع تحياتي لذلك الطالب الذي نصحته بالاهتمام باللغة الإنجليزية لأن أداءه فيها كان ضعيفا، فسألني: وهل يدرس الانجليز العربية؟ فلما أجبت بالنفي، قال انه يعامل الانجليز بالمثل ويتجاهل لغتهم.
والدور على القراء ليعترفوا كيف فتكوا بالإنجليزية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.