المخارجات السبع أمام حكومة حمدوك

0 84

دكتور : محمد جلال احمد هاشم
جلست قبل عدة أيام الأكثر من يوم مع مجموعات شبابية، “شفَّاتة” وكنداكات، يسمونهم “جداد حمدوك” وناقشوني في الأسباب التي جعلتني حاد النقد لحمدوك وحكومته، فشرحت لهم وجهة نظري، فتفهموها مع الاختلاف. وجاء ضمن الأسباب التي ذكرتها أن أكبر خطر تواجهه هذه الثورة هي سقوط حكومة حمدوك. فبمجرد خروج مظاهرات ضد هذه الحكومة جراء استفحال أزمة المعيشة (وهي مسألة وقت إذا استمرت الأوضاع بهذه الوتيرة) سوف يهجم عليها المتآمرون من قوى الهبوط الناعم بجانب العسكريين والجنجويديين، ثم فلول النظام البائد المتمترسون داخل مؤسسات الدولة. وهكذا يتم حل حكومة حمدوك وتُشكَّل حكومة قصيرة الأجل تعمل على إجراء الانتخابات في مدة قد لا تتجاوز الستة أشهر. وعليه، وليس نقدُنا لهذه الحكومة إلا بقدر ما نتخوفه من هذا المصير المحتمل. ثم سألوني إذا ما كان يمكن تقديم النصح لهذه الحكومة، فأجبت بالنقاط التالية:
أولا، لا يمكن أن تنجح هذه الحكومة دون تفكيك النظام البائد. ولا يمكن أن يحدث هذا التفكيك دون تحرير الخدمة المدنية من تمارس عناصر النظام البائد. والحل (وهو ما طرحته في مقال لي بتاريخ 17 يناير 2019م) يتمثل في إصدار قرار يقضي بأن يقوم جميع المفصولين للصالح العام بالتبليغ في مواقع عملهم، ما داموا على قيد الحياة، حتى لو أتوا بهم محمولين على الأسرة أو على كراسي مدولبة، بصرف النظر توصلوا سن المعاش القانونية أو تجاوزوها لسنين طوال. هؤلاء آخر خبرات وطنية تملكها بلادنا. إعادتهم فيها اعتذار لهم وإعادة اعتبار. بعد 6 أشهر، يحال إلى المعاش من لا تسمح لهم أوضاعهم الصحية بمزاولة العمل، بينما يواصل الآخرون. بعد شهر من عودتهم، ةم إحالة أهل التمكين للصالح العام، ويُشرع فورا في استيعاب الخريجين الشباب حتى يقوم العائدون من ذوي الخبرات بتدريبهم وتأهيلهم. ثم مع نهاية الفترة الانتقالية يُحال جميع العائدين إلى المعاش إلا من كان منهم دون سن المعاش فيواصل.
ثم قلت لهم إن حكومة حمدوك قضت بعودة المفصولين، لكن اشترطت عدم تجاوزهم لسن المعاش، هذا بينما هي تعرف جيدا أن الغالبية الكاسحة منهم قد تجاوزت سن المعاش. وعليه، قرار الحكومة يهزم نفسه بنفسه من عدة جوانب بخلاف هذه النقطة. فالملاحظ أن الغالبية الكاسحة في حكومة حمدوك قد تجاوزوا السن القانونية للمعاش، بما فيهم حمدوك نفسه. فإذا كان في مقدور هؤلاء أن يتسنموا مهام وظائف وزارية دون أي خبرة سابقة في الاستوزار(أللهم إلا كفاحا أو ورثةً كأن يكون الوالد أو الوالدة أو الجد أو الجدة ممن استوزروا من قبل)، فكيف يعجز رصفاؤهم من مفصولي الصالح العام أن يمارسوا ما قد خبروه لسنوات خلت من عمرهم المهدر؟
وإلى يومنا هذا، لا أعرف قرارا اتخذته حكومة حمدوك جانبه الصواب من جانب، وكرَّس للدولة العميقة بمثل قرارها بعودة المفصولين مع اشتراط عدم تجاوز سن المعاش ــ هذا دون أن تطبق هذا الشرط على نفسها.
ثانيا، قلت لهم إنه لا يمكن تفكيك الدولة العميقة عبر قانون التفكيك المجاز طالما تم تجريد ذلك القانون من مواد العزل السياسي. لتجديد ذلك القانون من هذه المواد سوف يفتح الباب كأوسع ما يكون لقوى الثورة المضادة كيما تعيد تنظيم نفسها بذات شخوصها ولكن تحت اسم جديد. فإذا وضعنا في الاعتبار أن قوى الثورة المضادة تملك الآن على أقل تقدير ما يوازي نصف الدخل القومي عبر شركات لا لم يتمكن المراجع العام في زمن النظام البائد من معرفة أصولها على وجه التحقيق أو حتى ملاكها، فعندها يمكننا أن نتصور حجم الاستقواء الذي وفره قانون التفكيك المجاز للثورة المضادة وذلك بتجريده من مواد العزل السياسي.
ثالثا، قلت لهم إن حكومة حمدوك قد تكون ضعيفة في بعض كوادرها، حتى بما فيهم رئيس الوزراء نفسه. وهذه ليست مشكلة كبيرة، كونها سمة الكثير من الحكومات التي تمكنت مع ذلك من تحقيق قدر كبير من الإنجاز وفي فترات قصيرة. فضعف القدرات مقدور عليه عبر توظيف المستشارين من ذوي الكفاءات العالية. إلا أن الضعف المنهجي هو الأخطر. وهذه شرحتها لهم على النحو التالي: هناك فرق ادائي ومنهجي بين المقاربة الإجرائية procedural approach لمشكلةٍ ما، وبين منهج اتخاذ القرارات decision-making approach، فالاول يغرق في الإجراءات دون معالجة القضية العالقة فورا وبحسم لتعويله على الاجراءات، هذا بينما الثاني يحسم القضية العالقة فورا، ثم بعد ذلك يترك مسألة الاجراءات للأفندية المعنيين. وضربت لهم هنا مثلا واقعيا كلنا عايشناه قبل أيام معدودة. في المقابلة التي أجراها عثمان ميرغني مع حمدوك وبعض وزرائه، وبخصوص تبعية البنك المركزي لمجلس الوزراء من عدم تبعيته، أشار حمدوك إلى أمرين، الأول أنه يتبع حاليا لمجلس السيادة؛ وثانيا إلى أنهم يعملون على تتبيعه لمجلس الوزراء ولكن عبر تغيير القانون الخاص به. هذا هو المنهج الإجرائي. فما هو منهج اتخاذ القرارات؟ إنه المنهج الذي اتبعه مجلس السيادة في إصداره لقرار يقضي بتتبيع البنك المركزي لمجلس الوزراء دون أن ينتظر إجراءات تعديل القانون، وفي نفس الوقت دون أن يمنع تعديلها لاحقا بوصفها إجراءات سوف تتبع.
بعد هذا أشرت لأولئك الشباب بأن ما يبدو على أنه ضعف أدائي من قبل حكومة حمدوك، هو في الواقع يعود في شقه الأكبر إلى المنهج المتبع في إدارة أزمات الدولة. فبدلا من الاتصاف بالثورية والتحلي بروحها، وبالتالي النزوع إلى إصدار القرارات الثورية، نجدها تغرق في شبر ماء الإجراءات دون أن تحسم القضايا العالقة. وليس أدل على ذلك من اجتماع مجلس الوزراء الأخير نهاية هذا الأسبوع ليومين متتاليين (الجمعة والسبت) بضاحية سوبا. وهذا لعمري أكبر عيوب التكنوقراط، كونهم إجرائيين procedurals وليسوا تقريريين decision-makers. وهذا ينتقص من كونهم كفاءات في مستوى الثورة التي أتت بهم، ما يعني تقاصرهم عن إنجاز مهام الثورة.
وعندما سألني الشباب عن الحل لهذه المعضلة، اقترحت لهم، أولا، أن يكون لكل وزير مجلس استشاري، إذا اجتمعت كلمته بالأغلبية، كان ذلك ملزما للوزير. ثانيا اقترحت لهم أن يُرفد رئيس الوزراء بنائب له من الشباب شريطة ألا يتجاوز الخامسة والأربعين من العمر بأي حال من الأحوال، وعلي ألا يكون من الحزبيين لأن هذا سوف يرفع من درجة السُّعار بين القوى السياسية في تنافسها حول ما تبقى من مناصب دستورية. ولكن الشرط الأعلى هو الكفاءة بجانب الثورية.
رابعا، قلت لهم إن حكومة حمدوك لا يمكن أن تنجح في إكمال مهام الثورة اذا لم تتمكن من أن تضع تحت ولايتها المباشرة، أولا، وزارات الداخلية والجيش والأمن (بالضرورة الاتصالات وملف السلام خلافهما)، ذلك لتحقيق المطلب الثوري القاضي بضرورة إعادة هيكلة هذه المؤسسات. وبالطبع، في حال تحقق هذا، فإنه يعني العودة التلقائية لجميع مفصولي الصالح العام منذ 1989م (بالنسبة لجهاز الأمن يشمل القرار جميع المفصولين منذ 1986) بنفس الطريقة التي شرحناها أعلاه، بما يعني أن يقوم هؤلاء بتدريب الكوادر الشابة المستوعبة من العناصر والقطاعات الثورية. ثم بالمثل، يحال جميع العائدين إلى المعاش بانتهاء الفترة الانتقالية. ويمكننا بالطبع أن نتصور ما كان سيحيق بالمليشيات، الحزبية أو الإثنية، من جنجويد أو مجاهدين، في حال حدوث هذا.
هذا هو الجزء الأول مما ينبغي أن تعود ولايته لمجلس الوزراء. الجزء الثاني من مقترحاتي يتعلق بضرورة أن تعود جميع الشركات المملوكة للجيش والشرطة والأمن ثم للأسرة التي تدير قوات الدعم السريع إلى وزارة المالية. وتكمن ضرورة اتخاذ هذه القرارات في أن عائد هذه الشركات يفوق الدخل القومي المعلوم للدولة. وهذا هو ليس فقط ثقب الأوزون الذي تدخل عبره الغازات السامة لجسد الدولة والشعب معا، له هو الثقب الأبيض (بدلا عن “الاسود”) الذي يمتص داخله جميع إيرادات بمقدرات الدولة والشعب. هذا يمكن أن يحدث باتباع منهج اتخاذ القرارات أولا ثم الالتفات إلى الإجراءات لاحقا. فإما هذا أو الطوفان!
سادسا، قلت لهم إن على حكومة حمدوك أن تشرع فوراً في تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي. فتأخير تشكيل هذا المجلس كان هو أول طعنة في ظهر الثورة والثوار. وعبر هذا التأجيل تمكن العسكريون من السيطرة على هذه الفترة، وأول علامات السيطرة هي أنهم هم الذين اعتمدوا حمدوك نفسه كرئيس للوزراء. هذا بجانب اشتراكهم مع مجلس الوزراء في التشريع. فقد كان الواجب هو تشكيل المجلس التشريعي بمجرد تشكيل مجلس السيادة ليقوم المجلس التشريعي باعتماد تعيين حمدوك كرئيس للوزراء. وكان هذا سيعني قبل كل شيء أن حمدوك لا يمكن إقالته من منصبه إلا بثلثي أعضاء المجلس التشريعي. ولكن الآن في مقدور مجلس السيادة، تنفيذياً وليس فقط تشريفياً، أن يقوم بإقالة حمدوك وإقالة حكومته. وقد كان حمدوك يعلم قبل أن يصبح رئيساً للوزراء أن تشكيل المجلس التشريعي سوف يتم أولاً تأجيله ولاحقاً سيتم صرف النظر عنه تماماً. فقد أسرّ بهذه المعلومات لبعض صحابه وهو لا يزال بأديس أبابا وقبل أن يصبح رئيساً للوزراء. وهذا يكشف لنا أنهكانت هناك اتفاقيات تحت الطاولة تعمل ضد تشكيل المجلس التشريعي. وهذا هو الباب الذي ستدخل عبره أي مؤامرات ضد حمدوك بهدف إقالته قبل انتهاء مدته ومن ثم الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
كما قلت للشباب إن تشكيلة المجلس التشريعي لا ينبغي أن تنظر السلام، لأن السلام ربما لا يتحقق، وإذا تحقق، فيمكن زيادة عدد أعضاء المجلس التشريعي. لكن أهم ما في تشكيلة المجلس التشريعي ينبغي أن يكون غلبة العنصر الشبابي من الجنسين بين أعضائه. وبالطبع جميع هؤلاء ينبغي أن يأتوا من لجان المقاومة. تكون هذه الغلبة بألا يقل نصيب لجان المقاومة في المجلس التشريعي عن 50%، بينما يكون لتجمع المهنيين ما لا يقل عن 20%، ثمّ 10% لقوى الإجماع ومثلها لقوى نداء السودان، ومثلها لمنظمات المجتمع المدني.
سابعاً وأخيرا، قلت للشباب الثوري المتحلق حول حمدوك (جداد حمدوك)، ممن زاروني في شكل جماعات صغيرة لأيام قليلة ومتتابعة، ينبغي لحمدوك أن يدرك جيدا حجم الدعم الشعبي الكاسح الذي يقف خلفه. هذه الجميع المتراصة من الشباب التي ترتفع إخراجها بأعلى من موجات التسونامي، هي القوة الضاربة التي تحميه. ولكن، وكما أثبتت الثورة ، فإن هذه البحاز الثورية متلاطمة الأمواج لها جهة لا يمكنها أن تحركهم فحسب، بل وان تقوم بتنظيمهم بدرجات تفوق ما هم عليه الآن من نظام! هذا الجسم هو تجمع المهنيين الذي استهدفته باقي قوي قحت لتقزيمه أعلمها التام انها لن تقوم لها قائمة في حال تصاعد الدور الثوري لتجمع المهنيين. ومما يؤسف له أن تجمع المهنيين قد ظل يتعرض بعد الثورة للطعن في الظهر من بعض عضويته التي غلبت عليها الولاءات الحزبية الضيقة. ولم يكن هذا حال تجمع المهنيين والمد الثوري في بداياته وأثناء الثورة؛ لكن هذا ما آل إليه الوضع بعد نجاح الثورة في تحقيق الإسقاط السياسي لنظام الإنقاذ. لقد كنتُ ضمن المؤسسين الأوائل لتجميع المهنيين، مع ثلة نيرة من المناضلين الإصغاء الذين آثروا أن ينعزلوا وينزووا بعيدا بعد الإسقاط السياسي لنظام الإنقاذ لأنهم ممن يعفُّون عند المغنم. وعلى رأس هؤلاء يأتي شيخ المناضلين الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى الذي، بعد الثورة، تذكرت بعض قوى قحت أنه ينتمي سياسياً للحركة الشعبية، فعمدت إلى تحجيم دوره، ولكن هيهات!
على حمدوك، فيما قلته لأولئك الشباب، أن يولي اهتمامه لتجمع المهنيين وبالأخص ليختار من بين صفوفهم مستشاري الوزراء المشار إليهم أعلاه. فخطوة كهذه سوف تجعل تجمع المهنيين يبذل كل ما في وسعه لتجديد دمائه وإعادة ترتيب وتنظيم صفوفه، وهو ما يبذل فيه الآن جهدا كبيرا يضيع اغلبُه لشعور الكثيرين بعدم جدوى ما يقومون به في مواجهة استقراء العديد من قوى قحت وما لفَّ لفَّها. فتجمع المهنيين ينتظره دور خطير وحاسم في مرحلة ما بعد الثورة، وبوجه خاص في انتخابات النقابات المقبلة. إذ عليه أن يخدم كتحالف ثوري سياسي يعمل داخل النقابات للحيلولة دون أيّ ردّة. فالثورة سوف تخوض حرباً شرسة لا محالة ضد عناصر الثورة المضادة وذلك داخل النقابات بعيد تأسيسها.
كما على تجمع المهنيين أن يعمل على تنظيم لجان المقاومة بوصفها الحاضنة الاجتماعية لشباب الثورة وكنداكاتها. ويكون هذا بغرض تمثيل لجان المقاومة داخل هياكل تجمع المهنيين بوصفهم الأجسام النقابية الثورية للأحياء التي انطلقت الثورة من داخل بيوتها وشوارعها وأزقتها.
ختاما، هذه الآراء ربما بذلتُها لأولئك الشباب بطرق تختلف عن هذا الترتيب كون النقاش كان لاجبا ومشتجرا؛ وربما فات بعض المجموعات منهم ما سمعه البعض الآخر، في هذا اليوم او الذي بعده. ولهذا رأيت أن أقوم بترتيب ما دار إكراما لأولئك الشباب الثوريين، “شفَّاتة” وكنداكات، الذين أثبتوا، ليس فقط ثوريتهم، بل تفرقهم الثوري علينا، نحن جيل الكبار، عندما كسروا حاجز الاستقطابات، وعبروا النهر، غير هيَّابين، لمقابلتي وإدارة ذلك الحوار الذي تعلمتُ منه الكثير، ولا خير في معلم لا يتعلم!
MJH

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.