“المصالحة” بين ما أعني وتخرصات المرجفين (4 – 7)
كتب: د. النور حمد
.
علم ومعرفة أم غوغائية سياسوية؟
لقد ساد وسط النخب السياسية السودانية، أن الخطاب السياسي، وحده، كفيل بإحداث التغيير. والخطاب السياسي المعنِي هنا، هو الخطاب التبسيطي، التعبوي، التحشيدي، المُضِل، المنفصل عن مجريات الواقع، وحاجاته الحقيقية. هذا النوع من الخطاب، هو ما درجت على استخدامه القوى السياسية السودانية، منذ الاستقلال. وقد جرى استخدام هذا الخطاب المضل من جهتين، رئيستين، هما: القوى الطائفية، من جهة، والقوى المؤدلجة المتمثلة في الإسلامويين، اليسارويين، من الجهة الأخرى. هذا الخطاب لا يعتمد على أي بحوث علمية؛ كمية أو كيفية. كما لا يعتمد على فروض نظرية قائمة على مزاوجة معرفية حصيفة بين الأدبيات التاريخية المتراكمة في ملاحم بناء الأمم، وبين معطيات الواقع المحلي القائم، ومتطلباته. هو خطاب لا تسنده أيا من العلوم الإنسانية، بما في ذلك العلوم السياسية وعلم الاجتماع، والعلوم الاقتصادية والتنموية، وغيرها. إنه يعتمد، فقط، على الشحن العاطفي في صورتيه؛ الدينية التي تريد إرجاع عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء، والعلمانوية الحزبية، التنظيمية، التعبوية، الفجة.
على هذا النسق من الخطاب التبسيطي، الذي أشرنا إليه، قامت كل ثورات السودان، الثلاث؛ بدءا بثورة أكتوبر 1964، مرورا بثورة أبريل 1985، وانتهاء بثورة ديسمبر 2018، التي لا تزال فصولها تنداح أمام أنظارنا. وحين نستخدم كلمة “خطاب سياسي”، هنا، لا نستخدمها في حقيقة الأمر، إلا تجوُّزا. فالذي ظلت تُدار به الأمور في بلادنا، منذ الاستقلال، ليس خطابا سياسيا، كالخطاب الذي تنتجه مؤسسات حزبية راسخة، كما في البلدان الصناعية، التي مارست الديموقراطية لقرون، وإنما هو خطاب “سياسوي غوغائي”، تعبوي. تلعب الطائفية ويلعب معها الإسلامويون على نغمة “تحكيم شرع الله”، وما شابهها من تملُّقٍ للجماهير بالتباكي على الدين. وهذا نهج ليس له انعكاسٌ عمليٌّ، على الواقع الاقتصادي، والتنموي للبلاد. أما غرض هذا النهج، بالنسبة للطائفيين والإسلامويين، فهو الوصول إلى كرسي السلطة، وإلى مستودعات الثروة، ومن ثم، ترك الجماهير غارقة في المسغبة، تقتات هلام الشعارات الدينية. ويلعب اليسارويون على نغمة النضال ضد الإمبريالية والصهيونية العالمية، ومقاومة سلطة رأس المال، وهيمنة المؤسسات المالية الدولية، بشعارات تبسيطية، غرضها الأساس الحشد والتعبئة من أجل الوصول، بصورة انفرادية، إلى كرسي الحكم.
قاد هذا المناخ التبسيطي إلى تهميش المعرفة والبحث العلمي، وإلى وضع الأكاديميا، والأكاديميين على الأرفف. من يحاول أن يفكر استنادا على قراءات واسعة، فاحصة، أو من يقوم بجهد بحثي، أو من يحاول أن يفكر خلافا لما هو سائد، فإنه لا تجري مناقشته، بل ولا حتى محاولة فهم ما يريد أن يقول، وإنما التداعي، وبأعداد غفيرة، إلى شيطنته وتخوينه. وعموما، لقد كان هذا هو قدر من يحاولون التفكير المتأني، المتبصر، في مراحل انتقال الأمم، عبر التاريخ. ينبري لمهمة الشيطنة والتخوين، قطاع عريض من الجمهور الذي جرت تنشئته على الشعارات، ممن لا صبر لهم على القراءة، وممن لا يعرفون ماذا تعني كلمة “نقد”، أو كلمة “تحليل”، وماذا تعني حرية البحث العلمي، وماذا يعني منح الأخر حق التفكير بطريقة مختلفة، دون أن تطاله تهم الشيطنة والتخوين.
يعتقد العلمانويون الشعاريون أنهم مختلفين عن الإسلامويين، غير أن هذا وهمٌ كبير. فاليسارويون يمارسون نهج “التكفير”، كما يمارسه الإسلامويون، لكن تحت مسمى مختلف. فالنزوع إلى التبسيط والغوغائية، لدى الفريقين، هو نفسه. والجامع بين الفريقين هو الضيق بالتفكير المغاير، ومحاولة قمعه في مهده، متى ما اتجه إلى مساءلة السائد وخلخلته. ومتى ما هدد التفكير الخطط التعبوية المعدة للوصول إلى السلطة واحتكارها.
القفز على إرث المخازي في السودان
كل من يمسك بالسلطة، في بلادنا، يسد عينيه عن ماضيه المرذول، وعن أفعاله القبيحة، ويضع نفسه في منصة النقاء، والصِّحيَّة المطلقة، وادعاء سدانة الديموقراطية. ثم ينطلق، من منصة هذا الادعاء الأجوف، صوب محاسبة الآخرين. ولكي نُذكِّر الجميع، والذكرى تنفع المؤمنين، دعونا نستعرض بعضا من الماضي القريب، الملتبس، لأِهَمِّ قوانا السياسية.
سلَّم حزب الأمة، في عام 1958، السلطة التي جاءت عن طريق انتخاب ديمقراطي حر، إلى الجيش ممثلا في الفريق إبراهيم عبود ورفاقه، هادفا بذلك إلى قطع الطريق على مؤامرة (اتحادية/ختمية/مصرية)، استهدفت إنزاله من كرسي الحكم. وفي عام 1969 قام العقيد جعفر محمد نميري بانقلابه مدفوعا من جانب القوميين العرب والشيوعيين. وفي عام 1970 جرت الأحداث الدموية في ودنوباوي والجزيرة أبا، بعد أن جعلت القوى الحزبية من طائفيين وإسلامويين، المناوئة لحكم الرئيس نميري، من الجزيرة أبا ترسانة للأسلحة، (راجع إفادات مهدي إبراهيم المتلفزة بهذا الخصوص). وفي عام 1971 قام الحزب الشيوعي السوداني بمحاولة انقلابية فاشلة ضد جعفر نميري، قادها عضوا الحزب، الرائد هاشم العطا، والمقدم بابكر النور، أُسميت “الحركة التصحيحية”، جرت فيها تصفية عشرات الضباط، بدم بارد. وفي عام 1975 قامت المحاولة الانقلابية التي قادها المقدم حسن حسين عثمان، وهي محاولة، متَّهَمَةٌ بـأن لها صلة بـ “الإسلاميين”، انتهت بالفشل وبإعدام قادتها. وفي عام 1976، حدث ما سُمي “الغزو الليبي”، وهو حركة مسلحة دبرها تحالف أُسمي “الجبهة الوطنية”. ضم هذا التحالف كلا من حزب الأمة، بقيادة السيد الصادق المهدي، والحزب الاتحادي الديموقراطي، بقيادة الشريف حسين الهندي، و”الإسلامويين” بقيادة الدكتور حسن الترابي. أقام العقيد الليبي، معمر القذافي، الذي كان على خلاف مع الرئيس جعفر نميري، معسكرات للمعارض السودانية، داخل الأراضي الليبية، وأمدها بالمال والسلاح، وأعانها على استجلاب المقاتلين، وعلى التدريب. جرى تسريب العناصر المقاتلة إلى داخل السودان، وحدثت الحركة في قلب الخرطوم، في 2 يوليو 1976، لكنها اندحرت في خلال ثلاثة أيام. وفي عام 1989 نفذت الجبهة القومية الإسلامية بقيادة الدكتور الترابي انقلابها على السلطة الديموقراطية المنتخبة، وأمسكت بدفة الحكم بقوة السلاح وبالقبضة الأمنية، واستمرت في الحكم المنفرد، لثلاثين عاما. في عام 1990، قام الجناح العسكري لحزب البعث بمحاولة انقلابية، ضد انقلاب الإسلامويين، وهو في عامه الأول. فشلت المحاولة، وأُعدم ثمانية وعشرين ضابطا بسببها، بلا محاكمة تقريبا، وبطريقة بالغة الوحشية. هذا جزء من سجل المخازي الحزبية الدالة على انقلابية قوانا الحزبية، وعدم إيمانها بالجماهير. ويشمل ذلك من حكموا في ديموقراطيات السودان الثلاث؛ وهما حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي. فهم أيضا انصرفا عن تحريك الشعب لينجز ثورته، بنفسه، ضد حكم جعفر نميري، ورضيا أن يستخدمهما ديكتاتور كالقذافي في غزو بلادهم، ليصبحوا، من بعد، مدينين له. كما تحالف الحزبان مع جون قرنق وأنشأوا جناحا عسكريا، وأصبحوا ضيوفا لدى ديكتاتور إرتيريا، أسياس أفورقي، الذي كان على خلاف مع حكومة الخرطوم، بسبب دعمها للإسلامويين في إريتريا.
تصوروا، ماذا كان سيحدث لو نجح انقلاب هاشم العطا، وحكم الشيوعيون البلاد؟ هل تظنون أنه كان سيكون مختلفا عن انقلاب الإسلامويين، من حيث القبضة الأمنية الباطشة، وقمع المعارضين؟ وتصوروا لو نجح انقلاب البعثيين في عام 1990، هل كان سيكون مختلفا عن انقلاب الشيوعيين، وانقلاب الإسلامويين، من حيث البطش بالخصوم؟ لقد منحنا انقلاب الإسلامويين نموذجا عمليا، لما يمكن أن يقوم به أي حزب مؤدلج، نشأ من الأساس على نظرية الحزب الواحد، وادعاء امتلاك النظرية الكاملة، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. حين يتحدث العلمانويون، من شيوعيين وبعثيين وغيرهم من العلمانويين، غير المتحزبين، إضافة إلى الناشطين الثوريين المتحمسين، بلا فكر، في شيطنة أي دعوة للمصالحة، فهم يقفزون على تاريخهم المحشو بالرذائل. كما أن الإصرار على فهم مصلح “المصالحة” وفقًا لتصوِّرٍ واحدٍ مُشيطنٍ سلفا، سوف يضيع الفرصة لفهم أس إشكالات الواقع السوداني، الرازح تحت قبضة التفكير السلفي، بظلاله المختلفة. اعتماد الشيطنة لقمع البحث ومصادرة حق التفكير المختلف يدلل على الفقر الفكري. كما أن هذا يقفل الطريق إلى معرفة أصل الإشكالية، التي تعيق التقدم والتحديث في السودان. فأصل الإشكالية أن الفهم العام للإسلام وسط السودانيين، هو فهم “إخواني” “سلفي” قح. وهو فهمٌ سيبقى عقبة كأداء أمام التقدم والتحديث، سواء أن اختفى الإسلامويون من الوجود، أو لم يختفوا.
المقاربات النقدية الصادقة، هي السبيل الوحيد لوضع الأمور على منصة جديدة، يمكن أن ينطلق منها مشروع البناء الوطني، على قاعدة عريضة من التوافق العام على الثوابت الديموقراطية. لكن هذا لن يحدث، ما استمرَّت حالة التوازي المزمنة في خطوط التفكير والعمل بين قوانا السياسية، وما انعدم، أيضا، بينها الحوار الصادق الشفاف. قوانا السياسية لا تعرف كيف تعمل إلا تحت مظلة تزكية الذات، وشيطنة الآخر، وتجنب التفكير في الإشكالات الجوهرية، وأهمها: سيطرة التفكير السلفي على عقول العامة، بل وعلى عقول كثير من الخاصة. ويلي ذلك إخلاء المثقفين ساحة تجديد الخطاب الديني للمهووسين. لقد انحبسنا في هذه الدائرة العقيم، غير المنتجة لما يزيد عن ستة عقود من الزمان. محاولة القفز على كل هذا الإرث المخزي الذي ذكرناه، واستخدام الفترة الانتقالية، عبر الادعاء الكاذب لنظافة الذيل، والطهر والنقاء الثوري، لصالح الكسب الحزبي، وإهمال قضية سيطرة التفكير السلفي على عقول العامة، لفترة الانتقالية، عبر الادعاء الكاذب لنظافة الذيل، والطهر والنقاء الثوري، لصالح الكسب الحزبي، وإهمال قضية سيطرة التفكير السلفي على عقول العامة، سيجرنا لفترة الانتقالية، عبر الادعاء الكاذب لنظافة الذيل، والطهر والنقاء الثوري، لصالح الكسب الحزبي، وإهمال قضية سيطرة التفكير السلفي على عقول العامة، سيجرنا حتما إلى الوراء. وسوف يقود، حتما، إلى أن تقع البلاد، عقب الفترة الانتقالية، وللمرة الرابعة، في يد الطائفية والإسلامويين. ويبدو أن قومنا هؤلاء تبتلعهم، على الدوام، الدوامات الآنية، وتجعلهم غير قادرين على أن ينظروا إلى أبعد من أنوفهم.
( يتواصل).