المصالحة” بين ما أعني وتخرُّصات المرجفين (7 – 7)

0 43

كتب: د. النور حمد

.

في الختام، أود أن أعيد القول، إن المصالحة التي أعني، ليست لإعادة جماعات الإسلام السياسي إلى السلطة، في الفترة الانتقالية الحالية. وليست لخلق “نفاج” لإفلات أي مجرم من المحاسبة. فالفترة الانتقالية الحالية، متعثرة وربما يجعل تعثرها هذا الفترة التي تليها، أكثر تعثرًا، وأسوأ منقلبا. نحن بحاجة إلى توافق وطني عريض، نبدأ به “برادايم” سياسي جديد، مغاير لذاك الذي عرفناه، منذ الاستقلال وذقنا حصاده المر. هدف المصالحة هو الوصول إلى “تسوية تاريخية شاملة”، تقوم على ثوابت وطنية دستورية. ومن ثم، الدخول في فترة انتقالية، أخرى، طويلة، على نسق مختلف، يأتي شرح خطوطه العريضة، لاحقا، في هذا المقال.

 

ديموقراطيتنا الرابعة المقبلة

إذا أردنا أن نرى حقيقة ما ستكون عليها ديموقراطيتنا الرابعة، التي سوف تعقب الفترة الانتقالية الحالية، فما علينا سوى أن ننظر إلى حالة قصر النظر التي تكتنف المشهد السياسي الحالي. فكل شيء انتهى إلى محاصصات “استوزارية”، لا أكثر. يضاف إلى ذلك، اعتلاء الأحزاب الصغيرة موجة الثورة، وادعاء تمثيل الجماهير، والانطلاق في درب تمكين الذات، على ذات النهج الإنقاذي. وستكون لهذا الفعل، عقب الفترة الانتقالية، نفس ردة الفعل التي جرت من جانب القوى اليمينية، التي عدلت الدستور، أثناء الديموقراطية الثانية، لتتمكن من حل الحزب الشيوعي السوداني، وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان.

مما أشاهد حاليا، ومما شهدته منذ الاستقلال، أستطيع أن أقول: إن ديمقراطيتنا الرابعة ستكون أفشل، وبفارق كبير، من كل تلك الديمقراطيات الثلاث، التي هدمها العسكر. ففي ظل التناحر الشديد بين القوى السياسية، والكيد البيني، وتململ الأقاليم واضطرابها، وانتشار الأسلحة، واختراق دول الإقليم لبعض القوى السياسية السودانية الفاعلة، فإن من المستحيل أن تصل الدولة السودانية إلى منصة الاستقرار السياسي والأمني، التي تمكننا من إعادة بناء الدولة. لقد أعلن السيد وزير شؤون رئاسة مجلس الوزراء، قبل بضعة أيام، أن الانتخابات سوف تجري بعد عامين. وأتوقع، بناءً على ما أشاهد الآن، أن أحزابا كثيرة سوف تدخل الانتخابات، بلا استعداد يذكر. وبما أن تحولات كثيرة قد حدثت للولاء الحزبي، خاصة في الأرياف التي شهدت كفاحا مسلحا، فإن من غير المتوقع أن يحرز حزبٌ واحدٌ أغلبيةً في البرلمان. وأتوقع أن تأتي الحكومة القادمة عبر ائتلاف، أُرجِّح أنه سيكون يمينيا. وسيكون اليسار، وسائر الأحزاب الصغيرة، هم الخاسر حينذاك. ولسوف تشاركهم في الخسران، الثورة التي سُرقت. وسيجري نقض كل ما فعلوه في الفترة الانتقالية.

علينا أن نقر بأن الدولة السودانية لم تُبن بعد. ولكي نبدأ بناءها، ونخرج من دائرة الكيد والكيد المضاد، لا بد من مصالحة وطنية معرفية توعوية شاملة. فحالة الْلَااتفاق، والْلَاتصالح، والكيد المتبادل، والأساليب الخسيسة، ستؤدي حتما إلى ذهاب ريح الدولة. ترمي الدعوة للمصالحة المعرفية التوعوية، إلى خلق توافق وطني شامل على ثوابت وطنية مجمع عليها، ليتحقق الاستقرار، الذي هو الشرط الرئيس للانطلاق نحو البناء. لكن، إذا ما عدنا إلى ممارسة ديموقراطية ويستمينيستر التمثيلة، على نفس النسق الذي جرَّبانه عقب الاستقلال، وعقب ثورتي أكتوبر، وأبريل، فإن خرابا أكبر سوف يحدث. لكن، من المهم جدا القول: إن هذا التوافق يتطلب من الإسلاميين إجراء نقد ذاتي شفاف، وترك نزعة التسلط والهيمنة عبر الخطاب الديني الغوغائي، والادعاء بأنهم وحدهم من يملك الوصفة السحرية لحل كل معضلة.

 

صنم الديموقراطية

تمثل كلمة “ديموقراطية” واحدة من الأصنام المعبودة لدى نخب العالم النامي. وقد رسخ عبادتها في الوجدان الجمعي، الخطاب السياسوي التعبوي التبسيطي. لذلك ينظر إليها كثيرون بوصفها “الطلقة الفضية” silver bullet، التي ستصيب الاستبداد والتخلُّف في مقتل. تسيطر “وصفة” الديموقراطية هذه على عقول قطاع عريض جدا من جمهورنا المُسيَّس. وهي ما ينصحنا بها خبراء أجانب لهم أغراضهم، وبهم جهلٌ شديدٌ بواقعنا. لابد من انتباه كافٍ للسياق الذي نشأت فيه الديموقراطية في الغرب، وللسياق المحلي الذي يُراد استنباتها فيه. نحن، نحتاج فترة انتقالية طويلة جدا، لنتمكن من بناء الدولة المحطمة، عبر نمط مرحلي للديموقراطية خاص بنا، نبتدعه باتفاق بين جميع قوانا السياسية، دون استثناء. وعبارة “دون استثناء”، هنا، ضرورية جدا، إذ لا بد من إيقاف متسلسلة الكيد المتبادل الذي أفشل، كل جهودنا الماضية. ثم، نتدرج عبر برنامج الفترة الانتقالية الطويلة، نحو ممارسة الديموقراطية التمثيلية.

لقد سبق أن كتب الأكاديمي الراحل، د. الطيب زين العابدين عما أسماه في واحدة من أوراقه العلمية: “الديموقراطية التوافقية”. كما لمس الإشكالية، أيضا، المفكر، عبد العزيز حسين الصاوي، في مقالاته المجموعة في كتابه، “ديموقراطية بلا استناره”، طارحا أفكارا حول كيفية كسر تلك الحلقة المفرغة، التي دارت فيها الحكومات الانقلابية، والمنتخبة، سواء بسواء. كما كتب الدكتور الشفيع خضر، عما أسماه “التسوية التاريخية الشاملة”. مشكلتنا التي لا تزال تراوح مكانها أن سياسيينا لا يلقون بالا لما يقوله مفكرونا وأكاديميونا، لأن ذلك يضر، بأجندتهم، التي هي على الدوام، ذاتية الطابع. نحن دولة لا ترسم سياساتها مراكز أبحاث علمية متخصصة، وإنما يرسمها سياسيون انتهازيون، ملتبسو النوايا، وشارع عريض غارق في ضباب الشعارات.

 

فترة انتقالية طويلة .. ولكن

نادى البعض، منذ بداية الثورة، بفترة انتقالية طويلة. لكن، غلبت على تلك المناداة، الأغراض الذاتية. نعم، البلاد بحاجة إلى فترة انتقالية طويلة، لكن على غير الصورة التي نادى بها هؤلاء. من ينادون بفترة انتقالية طويلة، يريدون، أن يُمكِّنوا لأحزابهم في السلطة أكثر، وأن يستخدموا المناصب للتغلغل وسط الجماهير، ولكي يخلقوا لأحزابهم ثروات عبر البقاء في المناصب التنفيذية والإدارية، لأطول فترة ممكنة، وهذا هو نهج الإنقاذ. من الجهة الأخرى، هناك الأحزاب الطائفية التي تريد العودة، بسرعة، إلى رصيدها الطائفي. أما الإسلامويون، فيخشون أن تتفرق عضويتهم، إن طال الوقت، وأن تتأثر مصادر تمويلهم، وتجري إزاحة عضويتهم، التي احتلت عبر التمكين، مختلف مفاصل الدولة. وكل هذه أغراض لا علاقة لها، بمصالح البلاد والعباد.

أما العسكريون، فيريدون إطالة الفترة الانتقالية، لأنها تمنحهم زمنا يُدَبِّرون فيه شأنهم، ريثما يذهب الغبن الناتج عن المجازر والمآسي في نفوس الجمهور. فكلما طال الزمن، هدأت الخواطر، وراقت النفوس، وربما تفتت وحدة الثوار. كما أن هناك ثروات، وأوضاع طبقية، ووجاهة، تحتاج الحماية. وهذه، أيضا، أجندة لا علاقة لها بمصلحة البلاد. لو نحن انتقلنا إلى ممارسة الديموقراطية البرلمانية، على نسق ويستمينيستر، عقب انتهاء الفترة الانتقالية، دون أن نترك وراء ظهرنا أمراض السياسة السودانية المزمنة هذه، فإن عمر الديمقراطية الرابعة، ربما لن يتعدى سنتين أو ثلاث. فهي إما ستنهار بانقلاب عسكري، ترحب به الجماهير، بحفاوة، كما حدث، مراتٍ، من قبل، وإما بانهيار الدولة نفسها، وتحوُّلِها إلى كانتونات متحاربة.

ما أدعو له هو التوافق على منصة جديدة، وعلى توافق على فترة انتقالية جديدة، طويلة، نؤخر عبرها السقوط مرة أخرى في نموذج ديموقراطية ويستمينيستر. وأن نخلق “برادايم” سياسي جديد، يقوم على التوافق بالتمثيل النسبي طيلة هذه الفترة الانتقالية. بهذا نقفل الباب على أساليب الكيد المتبادلة، التي أعاقت بناء الدولة، بل هدمت ما كان مبنيا أصلا. ليس بغائب عن بالي أن كثيرين ربما رأوا في هذا الطرح، مجرد يوتوبيا حالمة. غير أني أرى أن هذا النهج هو ما سوف يجنبنا تكرار فشل الديموقراطيات الثلاث الماضية، وعودة الديكتاتوريات العسكرية، مرة أخرى. يقول ابن عطاء الله السكندري، في واحدة من حكمه: “من لم يسرْ إلى الله بلطائف الإحسان، قِيْدَ إليه بسلاسل الامتحان”. لذلك، فإما التوافق الشامل على خطة تنموية ونهضوية قوية، يقف وراءها الجميع، وإما انهيار الدولة.

 

خاتمة

نحتاج فترة انتقالية طويلة تقوم على: (1) قبول التنوع، وكفالة حرية المعتقد والرأي والتنظيم للجميع. (2) وضع صيغة للتمثيل النسبي للقوى السياسية، من أجل أن تنشأ قاعدة عريضة لاتخاذ القرار، تضمن التوافق الشامل في الفترة الانتقالية الطويلة المقترحة. (3) رسم خطة ممرحلة للتنمية الشاملة، وفق جدول زمني محدد، مدة كل مرحلة من ثلاث إلى خمس سنوات، يجري بعد كل مرحلة منها التقييم ومراجعة الأداء. بإنهائنا حالة الصراع يتحقق الاستقرار وتحدث النهضة الاقتصادية الواسعة، التي ترفع البنيات التحتية للبلاد إلى مستوى الواقع الكوكبي المتوثب. (4) تشارك كل الأحزاب والقوى السياسية، والقوى العسكرية، والقوى المهنية، ومنظمات المجتمع المدني، والمتخصصون، في وضع هذه الخطة، مع حصر كافة الجهود والأنشطة السياسية والإعلامية، في تنفيذها. (5) تجري في الفترة الانتقالية، إعادة هيكلة الأحزاب والعمل على تحويلها إلى مؤسسات تمارس الديموقراطية داخل بنياتها، بصورة دورية ثابتة. وتكون الفترة الانتقالية هي مسرح هذا التمرين الديموقراطي داخل الأحزاب، على أن تنشأ هيئة قومية محايدة، لمراقبة وقياس التقدم في هذه الوجهة. وربما يكون ضروريا تعديل قانون تسجيل الأحزاب، بحيث لا يسمح لأي حزب بالتسجيل ما لم يأت، مثلا، بتوقيعات 50.000 منتسب. أيضا، لابد من مراقبة التمويل الحزبي، حتى لا تتدفق الأموال من الخارج إلى خزائن الأحزاب لشراء القرار السياسي الوطني لمصلحة الخارج. هذه مجرد رؤوس أقلام، أولية، ويرجي للحوار الموسع، إن تبنته الحكومة الانتقالية، والقوى السياسية، والرأي العام، أن يكمل ويسد الثغرات. ختاما، إن الصراع السياسي غير النزيه يعطل التنمية، وتعطيل التنمية يعطل الوعي. ولا يمكن لأمة، بلا وعي، أن تحتفظ بكيانها، في وقتنا الراهن هذا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.