المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
كتب: واسيني الأعرج
.
كل ما نعيشه اليوم من توصيف الفروقات بين المرأة والرجل هو سلسلة من الأوهام، وأن الفوارق الحقيقية هي في الأصل مكتسبة، أي اجتماعية وثقافية ومعتقدية متجذرة، إذ يكفي أن تتغير ثقافة الهيمنة الذكورية المجتمعية ليتغير كل شيء، ويتغير التقييم غير العادل أيضاً. طبعاً، المكابح موجودة ولا يمكن نكرانها، وهي تحدّ من حظوظ المرأة مجتمعياً أكثر من الرجل. كلما وجدت المرأة، بغض عن النظر عن المساحات العامة، في مجتمع ديناميكي وحي، كان عطاؤها كبيراً وغنياً. لهذا لا نحتاج إلى قرارات كبيرة، ولكن إلى فعل متواز تشترك فيه.
احتلت مي زيادة أعلى المراتب وأنبلها أمام مجتمع رجالي وربما ذكوري أيضاً لم يقبل في أعماقه أن تسلط الأضواء على سيدة لبنانية فلسطينية. كان لها الدور الفعال في الإصلاح الثقافي والمجتمعي والإبداعي من خلال صالونها الذي احتله رجال العصر وقتها من أمثال: العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وسلامة موسى، وغيرهم كثير. يكفي أن نرى عن قرب مكونات مجلسها، لنلحظ افتقاداً كلياً للعنصر النسوي الفعال. طبعاً الهيمنة الذكورية لم تقبل بها وقادتها نحو مستشفى الأمراض العقلية.
مجتمعاتنا تتطور وتنكسر في الوقت نفسه. هي صيرورة التحولات الكبيرة التي أعطت للمرة فرصاً، حتى ولو قليلة، لتبرز مواهبها الإبداعية وتفوز بالجوائز العالمية الكثيرة. هناك جوائز مهمة باسم نساء ساعدن على رفع سوية الكتابة في بلدانهن وفي بلدان العالم؟ جائزة آسيا جبار للآداب باللغات الثلاث: الأمازيغية والعربية والفرنسية، في الجزائر. ولكن هل هذا قلل من التفرقة الجندرية بين المرأة والرجل؟ لا أعتقد، لأن المسألة أعقد كما ذكرت في بداية هذا الحديث، وهي مرتبطة بعقليات بالية أكثر منها مرتبطة بالإبداع كقيمة. هذا التطور دفع بالمرأة إلى الأمام على الرغم من المعوقات المجتمعية. عدد الفتيات مثلاً في الدورات التكوينية والورشات كبير جداً. نجد هذه الخاصية في الكثير من الجامعات العربية حيث يرتفع العدد النسوي في التخصصات الأدبية التي يشكل فيها الشباب الأقلية الواضحة. المعدلات المرتفعة بالنسبة للفتيات أكثر من معدلات الذكور، مما يبين مرة أخرى أن المرأة تبدع وتبرز كلما توفرت لها بعض السبل للتكوين والإبداع والعلم. لكن هناك شيئاً غير متماسك في الحياة العملية؟ كيف؟ من جهة، أمامنا فتيات ناجحات يتخرجن بأعداد هائلة، لكن ذلك كله لا ينعكس في الحياة العامة، وكأن الحياة قاتلة وليست محركة إيجابياً. كنت في لجان أدبية عليا (مجالس أمناء أو لجان استشارية) كثيرة، وأستطيع أن أشهد من داخلها أن التقييمات لم تكن قط من موقع حساب «الجندر»، فالجيد هو الذي يفوز. لكن هناك معضلة في هذا السياق لا تظهر إلا من خلال النقاشات المعمقة للنص الروائي مثلاً. في مجلس أمناء لا نتلقى إلا النتيجة كحوصلة لإصدار موقف حولها. هناك عناصر تغيب عنا كلياً: كيف غربلت لجان القراءة القوائم والأسماء؟ مسألة ضمير نعم، لكن مسألة ثقافة أيضاً وأيديولوجيات. لا يصلنا إلا التنقيط الذي تقوم به لجان القراءة، وقد يكون في قراءتها بعض الظلم تجاه المرأة وأحياناً ضد الرجل الكاتب بسبب عناصر الغيرة والحسد ومعاداة النجاح.
في السنوات الأخيرة زاد عدد المشاركات النسوية، لكنها غير مستقرة لأنها متأتية من شابات يردن التعبير أولاً عن معضلات الحياة التي تحيط بهن وقسوتها. ارتفاع العدد قد يكون مصدره الضغط الاجتماعي الذي لا يتيح فرصاً تعبيرية أمام المرأة إلا من خلال عمليات التشفير، أي اللغة والكتابة. هناك حالات اختناق مجتمعي تعاني منه المرأة أكثر من الرجل، لهذا الأعداد المشاركة تكون كبيرة، لكن في النتائج المحصلة ليست دائماً إيجابية. موضوعياً، نسبة كبيرة من النصوص غير صالحة، لكن ذلك كله لا يخرجنا عن معضلات «الجندر» لكنه يؤكدها. الذي يعيش سجيناً، بوعي أو بدون وعي، لا يعبر بنفس الطريقة كالذي يعيش خارج القفص المجتمعي، وإن كان لاشعورياً داخلهن؛ لأنه يتصرف وفق معطياته.
«دكتاتورية الذكورية» لا يظهر هنا بشكل جلي، فهي مخفية تحت الأغلفة الثقافية الكثيرة التي يلعب فيها العاداتي والتقاليدي والمعتقدي والديني والأيديولوجي، دوراً حاسماً. هناك ذكورية مخفية لا تظهر بشكل مباشر، إذ لا يرفض مقوم في جائزة أدبية، امرأة فقط لأنها امرأة ويحرمها من الفوز، ولكنه يلتجئ إلى حلول أخرى أكثر فاعلية وأقل تمظهراً. فيقدم على تأويل أنوثة «النص النسوي» تأويلاً «أخلاقياً» يضعه مثار اهتمام وجدل، وتصبح الجرأة الأدبية والموضوعاتية نقيصة يجب أن تحارب. النص الناجح هو النص الذي يحول كل معطيات الحياة الفجة والمباشرة إلى قيم فنية تبقى في القلب والذاكرة حتى في حالات الاختلاف. حدث هذا في إحدى الجلسات حيث تم التعامل مع كاتبة شابة ذات ثقافة أدبية وفنية واسعة، حول موضوعة البغاء والدعارة، لا تأييداً ولكن مأساوياً، وتحمل الأسرة والمجتمع معاً مسؤولية ما حدث. وهي دعوة لإعادة النظر في الأحكام الجاهزة والسهلة. وكان رد الكثير من الأعضاء أن «هذا غير موجود في مجتمعاتنا» وكما يقال «أقدم حرفة في العالم»، فردت زميلة كانت في اللجنة: «هذا يعني أنكم لا تعرفون مجتمعاتكم»، هل تعني الكتابة عن ذلك أن الكاتبة مع هذا المرض المجتمعي المهين للمرأة والرجل معاً؟ على العكس من ذلك، فقد كانت رؤية الكاتبة واضحة ومناهضة لهذه الممارسة. فقد اعتمدت على اليوميات السرية لمومس التي تبين المأساة الحقيقة لامرأة من هذا النوع، وما لحق بها من تدمير داخلي وأسري وانهيار أخلاقي وصحي في النهاية. مع أنه لا وجود للإباحية في النص مطلقاً.
وانتصر التيار الأخلاقي. السؤال كيف سيكون التقييم لو كان الكاتب رجلاً، هل سيواجه بنفس الحدة ونفس التقييم لو كان الكاتب رجلاً؟ وذهبت الجائزة لغيرها. محنة حقيقية. ما يزال علينا الكثير من الوقت لقطعه قبل التساوي الحقيقي في الحظوظ.
لهذا، في انتظار تغير مجتمعاتنا، وجب استدراك الأمر مبكراً، والخروج من فكرة الثنائية الجندرية بناء على فكرة النوع (ذكر، أنثى) لأن النص الأدبي أو الفني عموماً لا جنس له إلا هويته الثقافية والفنية Il est fondamentalement asexué. فلا نمنح الجائزة للمرأة لأنها امرأة، ولكن لأنها تستحق ذلك بامتياز. والذكاء والخلق والإبداع ليست حكراً على الرجال. ويجب تفادي الحالة المرضية اجتماعياً التي تعتبر المرأة ناقصة وعاجزة. المجتمع فرض منطقه في سياق الحقوق النسوية المهضومة، النساء قليلات عددياً في البروز إبداعياً لأسباب مجتمعية، والرجال كثيرون عددياً لأسباب تاريخية أيضاً. لكن العبقرية الفنية لا تخضع لهذه التوازنات العددية مطلقاً. الكاتبة المميزة تفرض نفسها بقوة خياراتها الفنية واستراتيجياتها أمام قوائم رجالية واسعة. لهذا يجب تحكيم العقل. هناك كاتبات كبيرات في العالم العربي لم يفزن بأي جائزة بسبب منطق التحكيم، لكني متأكد من أن التاريخ منصف في النهاية. ضرورة التخلي عن فكرة، عمقها ذكورية مقيتة والتي تفترض المرأة في حاجة إلى رعاية، هذا ممكن في المجال الاجتماعي، لكن غير وارد في المجال الفني والإبداعي، بل ومضر للمرأة ولا يخدمها. التعاطف مع قضية ما مفيد وجيد، لكنه لا يفيد كثيراً؛ لأنه لا يغير الأوضاع مطلقاً. للمرأة، خارج فكرة العددية، تفردها الفني والأدبي، وذلك من خلال الكاتبات العربيات اللواتي يزيد عددهن باطراد، ونفس الشيء بالنسبة للفنانات التشكيليات، لأن اللون واللغة يلتقيان في كونهما التعبير الأسمى عن الصمت الذي يفتح فرصاً «للهرب التأويلي». على الكثير من اللجان أن تخترق جلود التماسيح الثقيلة التي تنام داخلها لرؤية المجتمع والمرأة في تحولاتهما الدائمة.