الهويّة والصراع الاجتماعي في السودان (6)

0 58

كتب: تاج السر عثمان بابو

.

  اسفر النضال الطويل الذي خاضته الشعوب من أجل الحرية والاستقلال والمساواة  وحقوقها السياسية والاجتماعية والثقافية والحكم الذاتي وتقرير المصير، وضد قمع هوّبة القوميات المتخلفة والشعوب الأصيلة.  والعدالة وتحسين أوضاعها المعيشية عن منجزات تمثلت في :

– الثورة  الانجليزية 1688  التي قضت علي حق الملوك الالهي ، واصبح للبرلمان الكلمة العيا في شؤون الحكم، كما كان لها الأثر الكبير علي شعوب اوربا التي تطلعت لتحقيق نظام الحكم البرلماني كما في الثورة الانجليزية التي نتج عنها سيادة البرلمان علي التاج والتطور الي الأمام.

– الثورة الفرنسية 1789، التي أعلنت الجمهورية وإلغاء الملكية المطلقة، وفصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وفصل الدين عن الدولة ،والمساواة وحرية التعبير ، وإلغاء الاقطاع وامتيازات النبلاء ورجال الدين  ومصادرة املاك الكنيسة ، واقرار مبدأ مجانية والزامية التعليم والعدالة الاجتماعية . الخ. 

–  ثورة تحرير الرقيق في أمريكا ، وإعلان تحرير الرقيق في 1  يناير 1863.، وتم ادراج الإعلان الرسمي في الدستور الأمريكي يوم 19 يونيو 1865 ، وكانت تلك خطوة مهمة في مسار التحرر الاجتماعي ، بالغاء نظام الرق البغيض.  

 – كما ظهرت ثورات العمال في اوربا ، وطرح ماركس ضرورة تحرير الطبقة العاملة من الاستغلال الرأسمالي الذي حل محل العبودية، باستحواذ فائض القيمة من العاملين ، وطرحت الماركسية عموميات الحل الديمقراطي للمسألة القومية مثل  : القضاء علي كل أشكال الاضطهاد الطبقي والقومي والديني والثقافي والعنصري والجنسي، وبازالة استغلال الانسان للانسان نزيل استغلال أمة لأمة ، وحق تقرير المصير  كحق ديمقراطي انساني في ظروف الديمقراطية وحرية الإرادة، والوحدة من خلال التنوع والاعتراف بالفوارق الثقافية ، وحق كل قومية في تطوير ثقافتها واستخدام لغتها الخاصة في التعليم، الديمقراطية كحقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، رفض الاستعلاء القومي والثقافي والديني، واستغلال الدين في السياسة.

2

– كات  الثورة الروسية من أهم أحداث القرن العشرين، اذا كانت الثورة الفرنسية طرحت شعارات : حقوق الإنسان – الإخاء – المساواة، فان الثورة الروسية طرحت شعارات : السلام- – الحرية – الخبز، وما زالت تلك الشعارت حية رغم هزيمة  الثورة الفرنسية وعودة الملكية، وعودة الرأسمالية البشعة التي أفقرت الشعب الروسي ونهبت ثرواته وهربتها للخارج.

 كان لثورة أكتوبر الروسية أثرها علي شعوب العالم و المستعمرات ، بانهاء ويلات  ومآسي الحرب العالمية الأولي بتوقيع معاهدة صلح “بريست – ليتوفسك” مع المانيا، وتوفير احتياجات الجماهير الكادحة الأساسية في التعليم والصحة والسكن والعمل ومحو الأمية ، وأعطت المرأة حقوقها في الأجر المتساوي للعمل المتساوي ، ومساواتها بالرجل ، وحماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، وتطوير الثقافة والفنون والموسيقي والرياضة، وأكدت امكانية التنمية المستقلة والسيادة الوطنية، وحررت شعوب روسيا  من الإضطهاد القومي علي أساس المساواة وحق تقرير المصير بما في ذلك حق الإنفصال وتكوين الدولة المستقلة في ظروف حرية الارادة والديمقراطية، وحق كل قومية في تطوير لغتها وثقافتها الخاصة، وساهمت في  تحرير شعوب المستعمرات من النير الاستعماري، وكشفت المعاهدات السرية مثل: معاهدة “ سايكس – بيكو” التي تم بموجبها تقسيم العالم العربي الي مناطق نفوذ وانتداب ، كما ساهمت في اندلاع ثورات المستعمرات في : الهند والصين ومصر وفيتنام والعراق وسوريا والسودان “ ثورة 1924”، والتي كانت تطالب بالاستقلال، ونقلت روسيا من دولة متخلفة إلي دولة صناعية متقدمة ، وساهمت بفعالية في تحرير البشرية من البربرية النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية.

  بعد الحرب العالمية الثانية ، تحررت شعوب المستعمرات من النير الاستعماري، وقامت الثورات الاشتراكية في بلدان شرق اوربا ، والصين وفيتنام وكوبا وكوريا ، ونهضت حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة وحققت مكاسب كثيرة بأثر الثورة الروسية مثل : الحق في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي.. الخ،.

كما جاء الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للامم في 10 ديسمبر 1948 الذي أكد أن : جميع البشر يولدون أحرارا ، ومتساوون في الكرامة والحقوق بغض النظر عن الجنسية أو مكان الإقامة أوالجنس أو اللغة أو الدين أو الراي سياسيا كان أو غير سياسي أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر.  كما أعلنت  الأمم المتحدة في ديسمبر عام 1960 منح الاستقلال للدول المستعمرة.

 كان لذلك أثره في تسارع نهوض الحركة الوطنية والسياية والنقابية في السودان بعد الحرب العالمية الثانية حتى حقق السودان استقلاله عام 1956. وبعد اتفاقية الحكم الذاتي في فبراير 1953 واجهت الحركة السياسية قضية الجنوب والهويّة.

3

   اهتم الحزب منذ تأسيسه، استنادا علي منهجه الماركسي مع أخذ واقع السودان وخصائصه في الاعتبار ، بالمسألة القومية والاعتراف بالفوارق الثقافية، وحقوق الأقليات القومية اقل تخلفا ،وواصل التأكيد علي الهوّية السودانية بعد ثوار 1924 ، وكان الحزب الشيوعي رائدا في تناول قضية الهويّة السودانية  ووحدة البلاد من خلال التنوع ،و طرح فكرة قيام اسس جديدة ديمقراطية لوحدة السودان تقوم علي الاعتراف بالفوارق الثقافية، والتنمية المتوازنة وحق كل قومية في استخدام لغاتها المحلية في التعليم، وقيام دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع غض النظر عن اعراقهم واثنياتهم ومعتقداتهم، أي المطالب التي تم الاعتراف بها في اتفاقية اديس أبابا 1972 ونيفاشا 2005  وغيرها ، ولكنها اصبحت حبرا علي ورق.

  تطور موقف الحزب من قضية الجنوب.

            * كان اهتمام الجبهة المعادية للاستعمار باكراً بمشكلة الجنوب، جاء في بيان الجبهة المعادية للاستعمار عن موقفها من قضية الجنوب بصحيفة الصراحة –العدد رقم   422 – بتاريخ: 28/9/1954م ما يلي:-

            – تري الجبهة أن حل مشكلة الجنوب يتم على الأساس التالي: تطور التجمعات القومية في الجنوب نحو الحكم المحلي أو الذاتي في نطاق وحدة السودان.

 يواصل البيان  ويقول :

       ونحن حينما نقدم هذا المبدأ لحل مشكلة الجنوب نقر بان الوضع الحالي للقوميات في الجنوب ليس مدروسا لدينا ولا لدى غيرنا في العاصمة، وان دراسته تقتضي الذهاب إلى هناك أو  تجي هي من هناك، ولكنا نرى أن هذا المبدأ الوحيد وبطبيعته يعتمد على الظروف ، فإذا كانت ظروف قومية واحدة أو عدة  قوميات في الجنوب ورغبة أهلها تقتضي قيام حكم محلي أو ذاتي فلهم الحق في ذلك ، كذلك نقر انه ليست لدينا وجهة نظر محددة عن الموقف بين القوميات السودانية الأخرى في الشمال والشرق ، إلا انه مما يظهر لا توجد مشكلة حالية بالنسبة لها . ولكن من ناحية المبدأ لا ننكر انه إذا جاء وقت ولو كان بعد الاستقلال بفترة طويلة واقتضت ظروف هذه القوميات نوعا معينا من الحكم الداخلي فيجب إن ينفذ (راجع اليسار السوداني في عشرة أعوام ، إعداد محمد سليمان ، ص60-62) .

             * كما وردفي وثيقة حول البرنامج آخر كتابات الشهيد عبد الخالق محجوب اشارة الي التجمعات القومية والقبلية الأكثر تخلفا ، جاء في وثيقة حول البرنامج ما يلي :

            – بالنسبة  للتجمعات القومية والقبلية الأكثر تخلفا وفيما يختص بالثورة الثقافية الديمقراطية ، لابد من التشجيع الفعلي للنمو الحر لثقافات هذه المجموعات .

             ولن يكون هناك نمو فعلي في هذه الثقافات إلا إذا بعثت لغات ولهجات هذه المجموعات وعمدت الدولة الوطنية الديمقراطية بجدية إلى تشذيب تلك الأدوات والتوسل بها في التعليم (وفقا للتجارب التربوية في هذا المضمار) وفي النهضة الثقافية الشاملة .

             – أن تصبح هذه الثقافات جزءا من المكونات العضوية للثقافة السودانية.

(حول البرنامج، مرجع سابق ، 49-50)

كما أشارت وثيقة حول البرنامج إلى :-

   توحيد الوطن على أسس ديمقراطية وذلك بتنمية إمكانيات وثقافات التجمعات القومية المتخلفة في ” حرية وبلا إرهاب أو ضغوط” ، ص 74.

   كما  – كما صدرت وثيقة بعنوان “الحزب الشيوعي وقضية الجنوب، 1977م” تابعت تطور موقف الحزب من المنظور السلمي الديمقراطي للمشكلة ، وأفاق الوضع بعد اتفاقية أديس أبابا التي وقعت في مارس 1972م .

4

          * كما اشرنا سابقا إلى إن الحزب الشيوعي كان أول من أشار إلى ضرورة الاعتراف بالفوارق الثقافية والعرقية بين الشمال والجنوب وتطور التجمعات القومية في الجنوب نحو الحكم المحلي أو الذاتي في نطاق وحدة السودان ، ولم يكتف الحزب الشيوعي بذلك الطرح المتقدم وحده وتكراره ، بل دعمه بالتركيز على القضايا الاجتماعية التي كان فيها قهر وتمييز عنصري أو اثني ضد الجنوبيين مثل :-

            – المطالبة  بالأجر المتساوي للعمل المتساوي بين العاملين الشماليين والجنوبيين.

            – الاهتمام  بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوسيع التعليم والعلاج والخدمات   في الجنوب .

            –  إلغاء ضريبة الدقنية .

            – إلغاء  قانون المناطق المقفولة الذي كان من الأسباب التي عرقلت التطور المتوازن بين الشمال والجنوب .

              – إلغاء  نشاط المستثمرين الأجانب المرتبطين بالتجسس وتأجيج الخلافات العرقية بين الشمال والجنوب .

              – وحدة الحركة النقابية في الشمال والجنوب

            – عدم  فرض اللغة العربية والدين الإسلامي بالقهر وترك ذلك للتطور والتلاقح الطبيعي .

              –  استبعاد الحل العسكري وضرورة الحل السلمي الديمقراطي والعض على وحدة السودان بالنواجذ .

            – أثناء  تمرد 1955م دعي الحزب الشيوعي لمعالجة الموضوع بالحكمة والصبر بدلا من الاتجاهات الداعية للعنف والانتقام .

       واصل الحزب الشيوعي تأكيد تلك المواقف في مؤتمره الثالث في فبراير 1956م , ومقاومة سياسة ديكتاتورية الفريق عبود لفرض الحل العسكري واللغة العربية والاسلمة القسرية، وفي مؤتمر المائدة المستديرة (1965) وخطاب عبد الخالق محجوب في المؤتمر.

      وفي برنامجه الصادر 1967م أكد الحزب الشيوعي الارتباط الذي لا ينفصم بين الحكم الذاتي الإقليمي وسائر المهام الوطنية والديمقراطية للثورة السودانية , كما أكد أهمية وحدة السودان ، جاء في ذلك البرنامج :-

من هذه المواقع يجب أن تعالج القضية على الوجه التالي :-

            سير البلاد في طريق الثورة الوطنية الديمقراطية .

ب‌.       تحالف قوى الثورة السودانية في الشمال مع شعوب وقبائل جنوب البلاد على أساس ديمقراطي مناهض للاستعمار ، لقيام حكم ذاتي وكذلك في الجنوب تحت قيادة جنوبية ربطت مصيرها بهذا التحالف …

        وكذلك في مناقشات الشهيد جوزيف قرنق للمثقفين الجنوبيين الداعين للانفصال في كتيبة “مأزق المثقف الجنوبي” وفي بيان 9 يونيو 1969م كما طرح الحزب الشيوعي دستور ديمقراطي وجمهورية برلمانية في مواجهة دعاة الديكتاتورية باسم الإسلام والجمهورية الرئاسية عام 1968م والتي كانت تهدد وحدة البلاد.

كما جاء في خطاب حسن الطاهر زروق  في جلسة البرلمان بتاريخ 16 أغسطس 1955 لإعلان الاستقلال الذي جاء فيه ” ونحن نعلم أن هناك في المديريات الجنوبية تجمعات قبلية وقومية قهرها الاستعمار وخلفها في وضع متأخر وبدائي ظالم ، فعلينا أن نخلصهم من هذا التأخروالقهر القومي ونعطيهم حقوقهم في وضع نظمهم المحلية وتنظيم وضعهم الخاص في نطاق وحدة البلاد ومصلحتها العليا”. .

5

         كان الايجابيات في مواقف الحزب الشيوعي انه في معالجته لمشكلة الجنوب في تلك السنوات الباكرة من الخمسينيات من القرن الماضي ، لم ينطلق فقط من نصوص ماركس وانجلز ولينين حول تقرير المصير ، بل انطلق من واقع السودان ، والاتجاه العام الداعم للوحدة بعد مؤتمر جوبا1947م ، وكان ذلك تناولا بذهن مفتوح وتوصل لصيغة الحكم الذاتي الإقليمي في إطار السودان الموحد .

        وحتى بعد أن تعقد الوضع واشتعال نيران الحرب بعد انقلاب يونيو 1989م ، طرح الحزب الشيوعي السوداني عام 1994م، شعار تقرير المصير كحق ديمقراطي إنساني ، وان يتم دعم خيار الوحدة الطوعية وتوفير المناخ الديمقراطي الصحي لممارسة حق تقرير المصير.

             * وفى الوثيقة التي قدمها الحزب الشيوعي (1988) م للمؤتمر الدستوري الذي كان من المفترض عقده في سبتمبر 1989م، اقترح الحزب أولويات عاجلة لتخفيف حدة التطور غير المتوازن، وأشارت الوثيقة إلى أن هذه المشروعات والمقترحات لا تصفي بصورة نهائية التطور غير المتوازن بين أقاليم السودان المختلفة ولكنها تضعنا في بداية الطريق.

      وحول الهوية والثقافة أشارت الوثيقة إلى أن (الهوية الحضارية لشعبنا هوية سودانية ، تجمع في تكامل بين الوحدة والتنوع ، وتتأسس على واقع تعدد الثقافات والقوميات في بلادنا الذي يمكن بل ويجب أن يكون مصدر خصب وثراء لثقافاتنا السودانية , لا سببا في صراعات دامية مريرة) .(الوثيقة : ص52 – 57) .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.